أول يونية 1967..
كان الاعتداء الإسرائيلى على سوريا وكان الرئيس يجلس معنا فى الصباح.. قال: إن اليهود سيعتدون على مصر، وحدد بالضبط يوم الاثنين المقبل.. وحصل الاعتداء الإسرائيلى فى اليوم الذى حدده الرئيس.. 5 يونيه 1967 فى الصباح. فى يوم 9 يونيه ألقى الرئيس خطابا، وكنت جالسة فى الصالة كعادتى وقت إلقائه خطاباته أمام التليفزيون ومعى أولادنا، وسمعته وهو يعلن تنحيه عن الحكم، ورأيت الحزن على وجهه وهو يتكلم، ولم أكن أعرف أو عندى فكرة أبدا عن التنحى، وكان يجلس معى عبدالحميد وعبدالحكيم أصغر أبنائى ــ وكان فى الثانية عشرة ــ فرأيت على وجهيهما الحزن، ودخل ابنى خالد الصالة أيضا فقلت لهم: إن بابا عظيم وهو الآن أعظم فلا تزعلوا. رد عبدالحميد وقال بالحرف: أحسن يا ماما علشان بابا يستريح، وقاموا يمشون فى البيت كالعادة. لم تمض دقائق حتى علا صوت الجماهير حول البيت.. وحضر الرئيس وصعد للدور الثانى ودخل حجرته وخلع بدلته ولبس البيجاما ورقد على السرير. انسد الشارع وتعذر الدخول للبيت، ومنهم من لم يستطع الوصول للشارع الذى فيه بيتنا. حضر معظم المسئولين.. نواب الرئيس ووزراء وضباط وامتلأ الدور الأول، ومنهم من كان يبكى بصوت، ويصعد السلالم ويطلب الدخول للرئيس فى حجرته. ورأيت بعضهم جلس على السلالم ينتحب وكنت أسمع صوت بكائه.. فكنت أدخل للرئيس فى الحجرة وأخبره عمن يطلب مقابلته. وقد سمح لعدد قليل بالدخول إلى حجرته.. ثلاثة أو أربعة وأراهم يخرجون من عنده وهم ينتحبون، ثم قام وارتدى البدلة ونزل للدور الأول ومكث معهم لوقت قصير. وصعد إلى حجرته مرة أخرى وخلع البدلة وارتدى البيجاما ورقد فى السرير وأخذ مهدئا وقال: سأنام. وكان محمد علوبة الخاص بخدمته قد صعد وخبط على الباب ومعه مذكرة وأوراق فقال لى الرئيس: قولى له لا يحضر أى أوراق وينصرف، وبقيت بجانبه وأصوات الجماهير تزداد حول البيت. نمت حتى الصباح وقمت كالعادة وأصوات الجماهير والهتافات لم تنقطع وتعلو بشكل لا أقدر أن أصفه، وخرجت من الحجرة وظل هو راقدا على السرير.. وكنت عندما أخرج من الحجرة فى الصباح أخرج بهدوء ولا أدخلها حتى أسمع الجرس ليدخل الخاص بخدمته. وبعد وقت أدخل له ونتبادل تحية الصباح ثم أتركه ويكون قد بدأ فى القراءة والاتصالات.. حتى يطلب الإفطار ويطلبنى لأجلس معه. لم أدخل الحجرة فى هذا الصباح إذ كان يدخل له زوار فرادى يمكثون وقتا قصيرا ويخرجون.. وهو فى حجرته لم يغادرها. وقت الظهر وجدت الحديقة من الخلف يرص فيها كراسى صفوفا، ووجدت الإذاعة والتليفزيون تجهز فى الحديقة، ورأيت مذيعا من الإذاعة وفريقا من الأخبار فى التليفزيون، ونظمت الكراسى ووضعت منضدة أمام الصفوف. سألت: ما هذا؟! فقيل لى إن مجلس الأمة سيجتمع هنا. وكان ترتيب الكراسى والصفوف بشكل أدهشنى وكأنها صالة مجلس الأمة فى الهواء الطلق.. فقلت فى نفسى: لقد رأيت كثيرا من المواقف والمفاجآت الغريبة فى حياتى، وها هى تختتم بمجلس أمة فى البيت. تركت الفراندة، وكنت أعد أكلا خاصا للرئيس فذهبت لإكماله.. فدخلت ابنتى منى وقالت: يا ماما أنور السادات ــ وكان فى منصب رئيس مجلس الأمة ــ يعلن فى التليفزيون أن بابا رجع رئيسا للجمهورية وأنت يا ماما هنا؟ فذهبت للصالة ورأيت أنور السادات وقد قرب من الانتهاء من الحديث فسألت: وما هذا مجلس الأمة الذى أعد فى البيت فى الحديقة والإذاعة والتليفزيون؟ فقالوا لى: إن أعضاء مجلس الأمة لم يمكنهم الحضور لشدة ازدحام الشوارع بالجماهير، وهم مجتمعون الآن فى مقر المجلس بعد أن قبل الرئيس بالعدول عن التنحى. كل هذا والرئيس فى حجرته لم يخرج منها.. دخلت له فى الحجرة ووجدته راقدا على السرير.. ولم أقل شيئا. فى صيف سنة 1967 بقينا فى القاهرة حتى شهر أغسطس فقال لى الرئيس: اذهبى إلى إسكندرية مع الأولاد، وظل هو فى القاهرة. وفى شهر سبتمبر حضر الرئيس للإسكندرية بعد أن أحبط مؤامرة دبر لها المشير عبدالحكيم عامر للرجوع لمنصبه بالقوة، بعد تغيير الرئيس للقيادة فى القوات المسلحة. أمضى جمال أياما قليلة معنا وفوجئ بانتحار المشير.. تلقى النبأ بحزن عميق ورجع للقاهرة.. ورجعت مع الأولاد فى اليوم التالى. وجدت الرئيس حزينا وأشد ما أحزنه أنه عبدالحكيم عامر الصديق، وظل مدة على وجهه الحزن. كان الرئيس يعمل باستمرار.. وأثناء الليل كنت فى أى وقت وبعد أن ينام أسمع جرس التليفون ويكون من القيادة.. والقائد يطلبه فى أى وقت وهو يطلبهم ويعطى أوامر وتوجيهات، وتكون عمليات عسكرية مرتبة وينتظر معرفة النتيجة، ومنها ما كان لا ينفذ حسب تعليماته وتوجيهاته وتحدث أغلاط فكان ينفعل.. وهذا أثناء الليل وأنا بجانبه وأرى على وجهه الضيق. والمذكرات ترسل له فى أى وقت من الليل أو النهار ووقت الغداء الذى كما ذكرت لم يكن له ميعاد.. يجهز الأكل على الترابيزة وأذهب له وأخبره ونجلس كلنا.. الأولاد الموجود منهم على السفرة التى هى فى الجانب من المدخل فى الدور الثانى، وننتظر حضور الرئيس إلى السفرة وهو فى حجرته مشغول بالحديث فى أمور العمل حتى يدخل ويجلس لدقائق يتناول فيها الغداء، وإذا تأخر وطال انتظارنا كان يقول: لقد تأخرت عليكم.. لِمَ انتظرتمونى؟
سنة 1968..
شعر الرئيس بألم فى ساقه استمر لأشهر، ولم أره قد قلل من شغله أو استراح أبدا. قابل السفير محمد عوض القونى فأخبره أنه كانت عنده الأعراض نفسها فى ساقه، وذهب لبلد فى الاتحاد السوفييتى حيث توجد مياه معدنية تعالج هذه الحالة، وعمل حمامات لمدة ثلاثة أسابيع وشفى تماما بعد فترة، وكررها فى العام الذى تلاه وأصبح لا يشعر بتعب وقد مضت عدة سنوات. وكان الرئيس فى زيارة للاتحاد السوفييتى فى الصيف، وقبل عودته للقاهرة عمل له فحص طبى هناك وطلب منه الأطباء أن يقلع عن التدخين.. وتوقف عنه وهو فى الاتحاد السوفييتى، وكانت آخر سيجارة أطفأها هناك. قالوا له أيضا عن العلاج بالحمامات بالمياه المعدنية فرد: سأحضر للعلاج.. وكان ترحيبا بالغا وعاد للقاهرة. كان أول حديث له معى أنه توقف عن التدخين قبل يومين، وحدثنى عن السفر للاتحاد السوفييتى للعلاج وقال: سترافقينى ــ إن شاء الله ــ وسيرافقنا أولادنا خالد وعبدالحكيم وعبدالحميد. فى آخر يوليو غادرنا القاهرة على طائرة سوفييتية خاصة بالرؤساء جاءت للقاهرة خصيصا لنسافر عليها. وصلنا لجمهورية جورجيا فى مطار حربى، وكان فى استقبالنا رئيس الجمهورية وزوجته، ورافقونا لبلدة سخالطوبو التى توجد فيها المياه المعدنية والحمامات لعمل العلاج، وتبعد نصف ساعة بالعربية عن المطار، وهى بلد صغير به ثلاث أو أربع مصحات، ومنظم لإقامة المرضى ومرافقيهم من أهلهم فقط، وبه شارع كبير واسع حوله أشجار منسقة ومقاعد، وفى آخر الشارع توجد محال أغلبها لبيع المرطبات والفاكهة، وكل شىء لخدمة المرضى والمرافقين لهم، ولا توجد مبان للسكن، ولا يذهب إليها إلا المواطنون الروس. أخليت مصحة لإقامة الرئيس، وكان يزوره كبار الأطباء، وأقام معنا طبيب ليتولى مباشرة العلاج، وكان الرئيس قد أبدى رغبته بأن تكون الزيارة للعلاج فقط ولا يقابل المسئولين هناك. رتبت رحلة لأولادنا لقضاء وقت على الشاطئ فى البحر الأسود وزيارة موسكو. وكان الرئيس يخرج كل صباح إلى الحمام الذى يبعد عن المصحة بدقائق ويرجع ونتناول الإفطار سويّا، ويخرج فى المساء حسب تعليمات الأطباء ليمشى لوقت فى الشارع، ويرافقه الدكتور المصرى الصاوى حبيب والروسى والسفير المصرى والسكرتير الخاص والضباط المرافقون. وكنت أخرج أمشى مع حرم السفير وكان يقيم معنا فى المصحة، وأحيانا كنا نتقابل مع الرئيس ونراه وهو جالس على أحد المقاعد ومعه المرافقون، وما زلت أحتفظ بصورة وأنا أمشى فى الشارع وهو جالس على المقعد. كان الترحيب بالرئيس أثناء إقامته فى سخالطوبو بالغا من الموجودين هناك، يقفون لينتظروه وهو ذاهب للحمام، وهو يتمشى فى الشارع فى المساء. كان كل ليلة بعد الساعة التاسعة مساء يجرى اتصالات بالتليفون فى القاهرة، والحديث كله شغل وتوجيهات وتعليمات، وترسل له الجرائد العربية والأجنبية ويستمع للإذاعة. انتهت أيام العلاج ورجعنا للقاهرة وقد مضت 23 يوما.. وكان الأطباء الروس قد قالوا إن نتيجة العلاج سوف لا تظهر مباشرة، وسيستمر الألم فى الساق لأكثر من شهر ثم يزول بالتدريج.. وشفى الرئيس وذهب عنه الألم الذى كان فى ساقه والحمد لله.
عبدالحميد فى الكلية البحرية
فى سبتمبر سنة 1968 التحق عبدالحميد بالكلية البحرية، وكانت رغبته وهو لايزال فى الثانوى أن يلتحق بكلية عسكرية واختار الكلية البحرية. بعد الأسبوع الأول من ذهاب عبدالحميد للكلية كنت أجلس مع الرئيس وقال: وحشنا ميدو.. فقلت: إن أهالى الطلبة يزورونهم كل أسبوع.. فقال: يمكنك أن تزوريه وتقابليه خارج الكلية إذا كنت ترغبين.. فقلت: نعم. وفى الأسبوع التالى ذهبت إلى إسكندرية بمرافقة إخوته، وعمل ترتيبا لخروج عبدالحميد وقت الزيارة المحدد لأهالى الطلبة، ومقابلتى فى العربة بجوار سور الكلية. عندما وصلت للكلية رأيت ضباطا واقفين عند الباب.. حيونى ومشيت بالعربة حتى آخر السور، وخرج عبدالحميد مع ضابط وجاء لى بمفرده فهلل إخوته عند رؤيته وهو حالق شعره ويرتدى الملابس العسكرية. بقى معنا حوالى عشر دقائق ورجع للكلية، ودخل مع الضابط الذى كان ينتظره بجوار الباب.. كانت توجد حجرة بجوار الباب يقابل الطلبة فيها أهلهم. قال لى الرئيس: إن شاء الله يا تحية نذهب سويّا فى حفل التخرج ونرى عبدالحميد ضابطا بحريا. كنت أذهب كل أسبوع لزيارة عبدالحميد حتى انتهت الفترة التى يظل فيها الطلبة المستجدون فى الكلية ولا يسمح لهم بالخروج، وفى آخر مرة أمطرت السماء أثناء الزيارة. قبل حضور عبدالحميد فى أول إجازة قال لى الرئيس: اطلبى المصور ليأخذ لنا صورا معه وهو بالملابس العسكرية وقت حضوره ومقابلتنا له. طلبت المصور قبل وصول عبدالحميد، وأخبرت الرئيس بميعاد حضوره فقال إنه مشغول الآن، وحضر عبدالحميد وأخذت لى صورا معه فى الحديقة عند دخوله البيت. تخرج عبدالحميد فى الكلية البحرية فى 29 يونيه 1972.. زارنى قائد الكلية لدعوتى لحضور حفل التخرج.. وبعد انتهاء الحفلة دعانى وزير الحربية وقائد الكلية لتناول الشاى، وحضر المدرسون وطلب قائد الكلية الضابط عبدالحميد جمال عبدالناصر لمصافحتى.. وهنأته وودعونى بالترحيب وكأنى مع الرئيس.
الانشغال بالقوات المسلحة
الرئيس مشغول جدا وأهم ما يشغله هو القوات المسلحة وإعادة بناء جيش قوى وطرد اليهود. كان يتصل فى أى وقت من الليل بقائد القوات المسلحة، والمقاتلون يقومون بعمليات داخل سيناء، وينتظر رجوعهم ولا ينام حتى يعرف النتيجة. وإذا حصلت خسائر أرى الحزن على وجهه.. هذا فى الوقت الذى أكون فيه بجانبه، وعند نجاح العمليات أرى على وجهه الارتياح. وفى مرة كان الطيران قد قام بعملية وطائرة فقدت وكان الوقت بعد الظهر، حزن على الطيار.. وكنت معه فى الحجرة وسمعت ما دار من حديث. وفى المساء.. وكنت أمشى فى الحديقة ونزل.. وكان يمشى أحيانا لدقائق قبل حضور زائر، فقابلنى وقال لى: لقد وجد الطيار وهبط بالمظلة سالما.. ورأيت على وجهه الارتياح وقال لى: إنى أخبرك لأنى أعرف أنه يسعدك أن تعلمى بسلامة الطيار. وكنت أتأثر جدا عند سماعى لخسائر وأرتاح لنجاح العمليات، ولا أعلق بكلمة كما هى عادتى. وكان الرئيس يطلب منى كثيرا الدعاء بالنصر أثناء تأديتى للصلاة ويقول لى: ادعى على اليهود. لم أكن أتكلم معه فيما يختص بالسياسة أبدا إلا إذا هو تكلم.. وكان قليلا ما يتكلم معى فى موضوع يتعلق بالسياسة. وفى مرة كنت أتحدث معه فقلت له: أنا لا أتحدث إلا عن أشياء عادية ربما تضايقك فقال لى: تكلمى كما أنت.. وهذا يعجبنى منك ويسلينى ولا يضايقنى أبدا بل العكس إنه يريحنى حديثك الذى يبتعد عما يتعلق بالشغل أى السياسة. الرئيس مشغول جدا ببناء الجيش والحصول على السلاح وتدريب الجيش.. وكل الحديث الذى أسمعه عن الحرب والسلاح. والضيوف.. رؤساء الدول الصديقة يحضرون بكثرة، والعشاء يقدم فى البيت حيث توجد حجرة كبيرة للسفرة التى تستخدم صالة للسينما، وترتب فيها المائدة وتقام مأدبة العشاء ويحضر الضيف والوفد المرافق له ونواب الرئيس ووزير أو اثنان، وكنت أحضر العشاء وأرافق الرئيس فى استقبالهم فى المطار، إذ غالبا ما يكون الضيف ترافقه زوجته.
النوبة القلبية الأولى صيف 1969
بعد انتهاء امتحان خالد وحكيم ذهبت إلى إسكندرية إذ كان الرئيس يحب أن أكون مع الأولاد هناك، وكان يذكرنى بأن أنبههم ألا يذهبوا بعيدا فى البحر، وظل هو فى القاهرة فى منشية البكرى حتى شهر أغسطس. حضر إلى الإسكندرية.. وبقى بضعة أيام أمضاها كلها فى مقابلات وشغل.. يجلس فى صالون يطل على البحر أو فى مكتبه وأمامه دوسيهات يعمل باستمرار. قال لى إنه سيسافر ــ إن شاء الله ــ للاتحاد السوفييتى ويقابل المسئولين فى موسكو، ثم يذهب لسخالطوبو لعمل العلاج بالحمامات هناك مرة أخرى، وكان الأطباء السوفييت نصحوه بأن يكرر العلاج بعد سنة. وقد بنى بيت جهز لاقامة الرئيس وقت العلاج، وقال لى الرئيس: سترافقينى، وسيكون السفر فى شهر سبتمبر فى الأسبوع الأول إن شاء الله. رجع الرئيس إلى القاهرة، وبقيت فى إسكندرية حتى شهر أغسطس. فى أول سبتمبر قامت ثورة ليبيا وانشغل الرئيس بأخبارها وتأجل السفر للاتحاد السوفييتى، ولم تمض إلا أيام قليلة وحضر قادة الثورة فى زيارة للرئيس.. فقال لى: إن السفر سيكون فى منتصف سبتمبر ــ إن شاء الله. بعد أيام شعر بتعب وارتفاع فى درجة الحرارة، وأشار عليه الأطباء بالراحة فى السرير.. وكانت النوبة القلبية. لم يخبرنى وقال لى إن عنده إنفلونزا، وكان قد أوصى الأطباء بألا يخبرونى عن مرضه. وبعد أيام.. وكنت أقابل ضيوفا فى المساء فى الدور الأول.. وبعد انتهاء الزيارة وجدت أدوات بجوار السلم فسألت: ما هذا؟ فقالوا لى إنها لعمل أسانسير.. ففهمت وصعدت السلالم وأنا أبكى. قابلنى الدكتور الخاص خارجا ووجدنى أبكى فقلت: إنى رأيت استعدادا لعمل أسانسير.. إن الرئيس به شىء فى قلبه. وطبعا الدكتور نفى وقال لى: إن أحد الأطباء المعالجين له مريض بالقلب ولا يستطيع أن يصعد السلالم، وسيجهز الأسانسير من أجله.. وطبعا الدكتور فوجئ ولم يجد كلاما يقوله لى غير هذا. ودخلت حجرتى وبكيت كثيرا. لم أظهر أى شىء أمام الرئيس ولم أذكر الأسانسير.. وبقيت كما أنا بجانبه.
كيف أمضى الرئيس أيام المرض؟
كان يتحدث بالتليفون طوال اليوم فى توجيهات مع القوات المسلحة والوزراء وغيرهم، وقد لاحظ ذلك الطبيب الخاص الصاوى حبيب الذى كان يقضى وقتا فى البيت، ويقوم بتحضير الدواء فى أوقاته وينتظر حتى تنتهى المكالمة. وكنت قد لاحظت المجهود الزائد الذى يقوم به الرئيس رغم أنى لم أكن أعلم عن المرض فى الأيام الأولى إذ كان يطلب وجبات الطعام تجهز على ترابيزة صغيرة فى الحجرة، وأجلس معه ونتناول الطعام سويا.. أى لم يكن يرقد فى السرير كما أعرف عن مرضى القلب.. ويقوم للحمام ويحلق ذقنه كالعادة، وكل ما كان يفعله ألا يذهب للصالة حيث حجرة الطعام الملحقة بها، أى أنه لم يكن يستريح فى السرير كل الوقت، وأحيانا كان يجلس على فوتيه موجود فى الحجرة فى مكانه للآن. وقد أخبر الطبيب الخاص الأطباء المعالجين فنصحوه بالراحة التامة لكنه ظل كما هو. وبعد أقل من أسبوعين كان يطلب الزائر، ويصعد للدور الثانى ويقابله فى المكتب الملحق بحجرته ويجلس معه لوقت.. والمقابلة شغل. وبعد شهر سألنى: هل انتهى عمل الأسانسير؟ فظهر علىّ الارتباك.. فقال: إنى أعلم أنه يجهز فى البيت أسانسير، وقد سألنى الأطباء ووافقت وإنك لم تقولى لى عنه.. فقلت: نعم إنه انتهى العمل فيه.. وقال: غدا ــ إن شاء الله ــ سأنزل للدور الأول. وفى اليوم التالى حضر مقابلة، وظل حوالى شهر يقابل الزوار فى الدور الأول، وأحيانا فى مكتبه فى الدور الثانى. بعد مضى شهرين حكى لى الرئيس عن مرضه وقال: إنه كان نوبة قلبية لكن حاجة بسيطة الحمد لله.. فقلت: إنى فهمت وكنت أعرف، وابتدأت أشعر بالدموع فخرجت من الحجرة.. بعد شفائه جاء شهر رمضان.. وكان أول مرة يفطر فيه الرئيس ولم يصمه.. يتناول وجبة خفيفة وقت الظهر ويتناول معنا الإفطار وقت المغرب.
عودة إلى العمل المكثف
فى شهر يناير سنة 1970 سافر الرئيس لموسكو ورافقه طبيب اختصاصى مع الطبيب الخاص فى زيارة قصيرة لمدة أربعة أيام. استمر الرئيس يخرج فى المساء، ويجتمع بالضباط فى القيادة، ويسهر لساعة متأخرة كما كان يفعل قبل مرضه. كان بعد أن ينتهى من الشغل والمقابلات فى الدور الأول.. يطلب البالطو وقت الشتاء ويخرج، ولم يقلل من شغله أبدا، وكان الأطباء يطلبون منه الراحة ويقول لهم: إنى أنفذ كل ما تطلبونه من علاج إلا أن أستريح وأقلل من الشغل.. فهذا ليس فى إمكانى تنفيذه. وكان يذهب للجبهة ويجتمع مع المقاتلين ويبقى يوما أو يومين. وفى مرة بعد عودته من زيارة الجبهة قال لى: كنت أتمنى لو أبقى هناك حتى لو أموت.. وكان قد أمضى يومين بين المقاتلين وحرب الاستنزاف على أشدها.. مع المجندين والكثير منهم من خريجى الجامعات والمعاهد ويقومون بعمليات بطولية داخل سيناء. كان الرئيس عند حدوث خسائر يحزن حزنا شديدا.. وقال لى يوما: عندما أرى خالد ابنى أكاد لا أقدر أن أنظر اليه ويزداد حزنى إذ أراهم مثله تماما ويذكرنى بهم.. وكان خالد وقتها طالبا فى كلية الهندسة جامعة القاهرة. ذهب الرئيس لاستراحة القناطر الخيرية وكنت فى منشية البكرى، وكان يوم عيد ميلاده فى 15 يناير 1970. ذهبت والأولاد لنقضى اليوم معه فى القناطر، وكنا ــ أولاده وأنا ــ كل واحد يقدم له هدية رمزية ونحتفل بعيد ميلاده. ولم يكن يشاركنا أبدا فى الاحتفال، ونحضر حلوى ونضع عليها الشموع ونطفئها كلنا، وكان يخرج من حجرته لينزل للدور الأول فيرى الحلوى على الترابيزة فى حجرة السفرة الملحقة بالصالة فيبتسم ويحيينا وينزل لمكتبه أو يخرج.. وكان البيت يملأ بالأزهار المهداة للتهنئة بعيد ميلاده. رجعت بعد الظهر لمنشية البكرى واحتفلنا بعيد ميلاده وأطفأنا الشموع، وظل هو فى استراحة القناطر حيث أمضى يومين. فى فبراير 1970 ذهبنا بالقطار لأسوان، وكان الرئيس تيتو رئيس جمهورية يوغوسلافيا سيحضر ومعه السيدة يوانكا حرمه فى زيارة لمصر، وأبدى رغبته أن تكون مدة إقامته فى أسوان. رافقنا فى الرحلة أنور السادات، وكان الرئيس قد عينه فى منصب نائب رئيس الجمهورية حديثا، كما رافقنا فى الرحلة حسين الشافعى وعلى صبرى وزوجتاهما. أمضى الرئيس تيتو أربعة أيام فى أسوان، وبقينا هناك ورجعنا للقاهرة بعد أن قضينا أسبوعا. لم يكن الرئيس يتنقل داخل الجمهورية بالطائرة، حتى أسوان كان يفضل الذهاب إليها بالقطار، وعند ذهابه إلى إسكندرية يذهب اليها بالعربة أو بالقطار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى