صديقك من صدقك لا من تمحلس لك، ولذلك اسمح لى أن أزعجك باندهاشى لأنك تعتبر أن إنزال العلم الإسرائيلى من على السفارة الإسرائيلية ورفع العلم المصرى بدلا منه يشكل انتصارا سياسيا أو حتى انتصارا رمزيا، كنت أظن أننا لم نعد فى حاجة بعد ثورة يناير إلى انتصارات رمزية بقدر مانحتاج لمواصلة انتصاراتنا الواقعية، فى رأيى إذا كان ذلك الفعل يرمز لشىء فهو يرمز لخيبتنا القوية وعدم إدراكنا لحقائق الأشياء من حولنا، ويكشف أن بعضنا أصبح للأسف أسيرا لانتصارات رمزية لا تقع إلا فى الميادين الغلط.
لكى تفهم فكرتى الرخمة بشكل أوضح، دعنى أنقلك مما حدث أمام السفارة الإسرائيلية إلى ماحدث أمام وداخل مقرات أمن الدولة، هل تتذكر كيف فرح آلاف الناشطين باقتحام مقرات أمن الدولة التى تم تمهيد طريقهم إليها بشكل محسوب، وكيف ابتهجوا بالعثور على وثائق تم تركها لهم اتضح أن بعضها مزور لكى يختلط الحق بالباطل وتظل الأسرار الحقيقية هناك فى الأرشيف الإلكترونى الذى لا تطاله الأيدى الغاضبة، واعتبر الناشطون أن ماحدث كان انتصارا تاريخيا لم يتحقق من قبل ثم وصلت فرحتهم إلى ذروتها عندما صدر قرار بحل جهاز أمن الدولة وإنشاء جهاز إسمه الأمن الوطنى، وهاجموا المتخاذلين من أمثالى الذين ط
البوا بعدم حل جهاز أمن الدولة بل بالإبقاء عليه تحت رقابة قضائية كاملة، وتشكيل لجان للتحقيق فى ممارساته طيلة السنوات الماضية وفحص ثروات كبار ضباطه وعلاقاتهم، واعتبروا أن هذا الكلام يفسد فرحة تحطيم رمز الطغيان والاستبداد. طيب الآن وبعد مرور خمسة أشهر على سقوط الرمز، دعونا نسأل بعضنا البعض: أين هى الرقابة القضائية على جهاز الأمن الوطنى وكافة أجهزة الداخلية والتى كان يمكن أن نعرف من خلالها حقيقة ماحدث للناشط السكندرى محمود شعبان مثلا؟، من ينصف الآلاف الذين تعرضوا للتعذيب داخل مقرات الجهاز وضاع مستقبلهم بسببه؟، هل تم فحص ثروات الضباط المتورطين فى قضايا التعذيب والتلفيق وانتهاك حقوق الإنسان؟، من يضمن أنهم لا يمارسون التخريب فى المواقع التى تم نقلهم إليها؟، هل انشغل الناشطون بشىء من هذا كله أم أنهم اكتفوا بنشوة تحطيم الرمز الخادعة؟.
تعال نعود ثانية إلى ماحدث أمام السفارة وعلى سطحها حيث تم إنزال العلم المصرى على يدى شاب جدع إسمه أحمد الشحات، أكثر ما أعجبنى فى قصته أنه يعمل نقاشا ستة أيام فى الأسبوع وينزل إلى التحرير يوم أجازته، وهو بذلك يصلح رمزا لأكبر إنجاز أرى أن ثورة يناير قد حققته وهى أنها أدخلت ملايين السكان الأصليين لمصر إلى دائرة الفعل بدلا من الإكتفاء بالفرجة والعيش فى الواقع الموازى الذى تخندقوا داخله لآلاف السنين. شاهدت حوارا تلفزيونيا لأحمد فاستجدعته وعشقت نقاءه ودعوت له أن يكفيه الله شر المتسلقين الذين لو جرى وراء جعجعتهم سينسوه الصنعة التى فى يده وسيشحت فعلا لا سمح الله. استجدعت أحمد لكننى لا أظنه الرمز الذى تحتاجه مصر فيما يتعلق بصراعها مع إسرائيل، لم أفرح كثيرا بما فعله ربما لأننى هرمت، وربما لأننى منذ ثورة يناير لم أعد أتعاطى المخدرات السياسية وعرفت أن الطريق إلى هزيمة إسرائيل بدأ بتحرير قصر العروبة وسيكتمل بإيصال الرجل المناسب إلى داخله، وربما لأننى لم أستطع أن أنسى أنه فى اللحظة التى كان يتسلق فيها السفارة كان هناك شاب إسرائيلى يجلس فى مفاعل ديمونة لكى يزيد من طاقة بلاده النووية، وشابة تجلس فى معمل تدعمه الدولة بالملايين لتكتشف علاجا لمرض عضال ستكسب إسرائيل منه المليارات، وشاب إسرائيلى يتظاهر مرتاح البال لأنه يعلم أن أحدا لن يحيله إلى محاكمة عسكرية أو يهتف به بالعبرية أن ينزل على ركبه، وأنه حتى لو تهور أحد واعتدى على حريته سيأخذ حقه منه بالقانون وسيكون ذلك سببا فى إسقاط الحكومة فى الإنتخابات التى لن يجرؤ أحد على تزويرها، وأنه لن يحتاج إسرائيلى حويط إلى أن يتسلق مبنى السفارة المصرية لإنزال العلم المصرى لأنه يعلم أن قوة أى دولة لا تكمن أبدا فى قطعة القماش التى ترفرف فوق أى سفارة.
أعلم أن أغلب الذين تجمهروا أمام السفارة ليسوا مغيبين ويعرفون أن ماحدث ليس نهاية لصراعنا مع إسرائيل، وأغلبهم بالمناسبة هم الذين يتظاهرون بكل شجاعة ضد المحاكمات العسكرية للمدنيين ويهتفون بسقوط حكم العسكر، لكننى حزين لأنهم يوما بعد يوم لا يدركون أنهم لازالوا يبحثون عن الانتصارات الرمزية ويبتعدون عن الطريق الصحيح لإسقاط حكم العسكر، يحزننى أنهم يتركون الساحة لتيارات تعرف كيف تتحرك وسط الناس وكيف تخاطب همومهم وآلامهم، يحزننى أنهم يعتقدون أن المواطن المصرى يمكن أن يتعاطف حقا مع شعارات تدعو للحرب مع إسرائيل بينما هو يحتاج إلى الانتصار أولا على أعداء الداخل من المستبدين والفاسدين والمستغلين، يحزننى أنهم لا يدركون أنهم يتم استخدامهم سياسيا كثيرا هذه الأيام، يحزننى أنهم لا يسألون لماذا تم السماح لهم بفعل كل مافعلوه هذه المرة بالذات، تماما كما لم يسألوا لماذا تم السماح لهم بالوصول إلى العباسية بينما كان من الممكن أن يتم منعهم فى ميدان عبد المنعم رياض مثلا، تحزننى هذه الطاقة الثورية التى تتبدد كل يوم فى الرفض المجانى والمهاترات العبثية بدلا من أن يتم توظيفها فى عمل سياسى أو حزبى يصنع قيادات متواصلة مع الشارع، لكى لا يظل الناشطون كتلة صماء يتم استنزافها فى معارك غير محسوبة لتدرك بعد فوات الأوان أنها صارت منبوذة من غالبية الشعب الذى ثارت لأجله، فلا يوجد فى الدنيا من يتحمل شخصا كل موهبته الرفض أيا كان نقاؤه.
أنا من جيل كانت أقصى أحلامه أن يصل إلى ماوصل إليه الذين تجمهروا أمام السفارة، لو كنت قلت لأحد منا ونحن نتظاهر طيلة التسعينات أن شابا مصريا يمكن أن ينزل العلم الإسرائيلى من على السفارة لاعتبرنا ذلك محض هلوسة، كان أقصى أحلامنا يوم مظاهرة محمد الدرة أن نصل إلى العتبة ثم نموت هناك، والآن وقد تحققت تلك الأحلام ونحن أحياء أصبحنا ندرك أن وصولنا إلى سطح السفارة ولا حتى إلى داخلها لن يقدمنا خطوة إلى الأمام، وأننا سنكسب معركتنا الحضارية مع إسرائيل إذا كنا أطول نفسا وأكثر هدوءا وأرجح عقلا وأشد تماسكا وأقل تركيزا على المظاهر والرموز، فهل تدرك الأجيال التى تلتنا ذلك وتكسب وقتا أضعناه نحن والأجيال التى سبقتنا؟.
إذا اعتبرت كل هذه السطور رخامة صديق تستحق التفكير، فكثر ألف خيرك، أما إذا اعتبرت أنها ستكون سببا للقاطوعة الفاصولة بينى وبينك فدعنى أقل لك إنها كانت مجرد مسودة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى