يحلم كثير من الساسة الفلسطينيين والعرب بما يسمونه الحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية وانتهاء الصراع العربى الإسرائيلى، فإن سألتهم ما هى رؤيتهم لهذا الحل، حكوا لك الحكايا عن دولة فلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة، عاصمتها القدس الشرقية.
وإذا سمح لى القارئ الكريم اليوم فأنا أقول إن الدولة الحلم، التى يريدها قادتنا نحن، هى ضارة ضررا بالغا بمصالح الفلسطينيين والعرب، وهى لن تعدو أن تكون كابوسا آخر من كوابيسنا الاستعمارية العديدة، وستكون أداة احتلالٍ وقمع للفلسطينيين لا أداة استقلال وحرية ونمو. وأزيد أن هذه الدولة الفلسطينية التى يريدها قادتنا فى الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، ستكون نائبة عن الاحتلال قائمة مقامه مؤدية وظائفه حالة محله كأنها هو لا فرق بينهما إلا فى الاسم والزى والشعار. وأزيد أكثر أنها ستكون كذلك حتى لو حكمها ملائكة من السماء، لأن سوءها وضررها ناتجان عن بنيتها وهياكلها، لا عن اختيارات قادتها. إن قادتها سيكونون مضطرين دائما، لا خيار لهم، إلا ما يمليه عليهم ضعف دولتهم من ظلم بنى جلدتهم وخدمة مستعمريهم، فلا فرق إن كانوا من أولاد الناس المهذبين الطيبين أو من الأفجاج المجرمين، فلا معنى لصفات المضطر، ولا يد له فى الخير والشر.
●●●
أتمنى أن أكون مخطئا لكن لنتخيل معا أن الدولة الحلم تلك قامت غدا فكيف ستكون؟
أولا، ستكون هذه الدولة إقرارا نهائيا من الفلسطينيين بأن عكا وحيفا مدن إسرائيلية، حق اليهودى البولندى فيها كحق المواطن المصرى فى القاهرة، وأن سادة من أمثال الدكتورعزمى بشارة، والشيخ رائد صلاح ومليون ونصف المليون من الفلسطينيين الواقعين تحت احتلال إسرائيل منذ عام ثمانية وأربعين ليسوا فلسطينيين، بل هم إسرائيليون من الدرجة الثانية، ومن لم يرد منهم أن يكون إسرائيليا فعليه أن يهجر مدينته ويتجه إلى الضفة الغربية أو قطاع غزة لينعم باستقلاله الوطنى مقابل تنازله عن وطنه الأصلى. أعنى أن الدولة الفلسطينيية فى الضفة وغزة تضع أهل عكا وحيفا أما خيار غريب، الاستقلال فى جهة والوطن فى جهة، وبينهما سور.
ثانيا، من الناحية الأمنية، ستصبح مصلحة الدولة الفلسطينية متوحدة مع مصلحة إسرائيل، لأن القادة الفلسطينيين سيعلمون أن أى هجوم على إسرائيل من الجبهة الشرقية مثلا، سيهدد وجود دولتهم، لأن إسرائيل ستفضل أن تدور المعارك على أراضيهم هم بدلا من أراضى السهل الساحلى الضيق. أى أن سلامة إسرائيل من أى هجوم عليها سيكون مصلحة يعمل على تحقيقها القادة الفلسطينيون. وأكثر من ذلك، سيعمل هؤلاء القادة على حماية إسرائيل من أية عمليات فدائية تنطلق من أراضيهم، خوفا من أن تكون ذريعة لاجتياح إسرائيلى يعيد احتلال الدولة الوليدة، أى أن خوفنا من احتلالهم لنا سيؤدى بنا إلى احتلال أنفسنا لحسابهم. سيكون استقلالنا من الناحية الأمنية على الأقل امتدادا للاحتلال الإسرائيلى، نحميهم من أهلنا فى المخيمات، ونحميهم من أهلنا العرب. والأدهى أن هذا الحلف الأمنى مع العدو سيمكن تبريره بصفته حفاظا على المصلحة العليا للدولة الفلسطينية الوليدة، وسيكون كذلك فعلا. لو أعدنا تعريف الذات، فسيعاد تعريف مصلحة الذات، ولو أصبح الوطن هو الضفة وغزة فقط، لأصبح التعاون مع إسرائيل وطنية ومقاومتها تهديدا لأمن ذلك الوطن.
ثالثا، من الناحية الاقتصادية، ستكون هذه الدولة معتمدة اعتمادا كاملا على الاقتصاد الإسرائيلى، حيث ستنشأ شركات مسجلة فى الدولة الفلسطينية يملك أسهمها إسرائيليون تسوق منتجاتها فى العالم العربى الواسع، وحيث رجال الأعمال الفلسطينيون يشترون السلع الإسرائيلية لبيعها فى الأراضى الفلسطينية وبلاد العرب، وحيث يشتغل بعض العمال الفلسطينيين فى إسرائيل لإعالة أسرهم. وقد رأينا نموذجا من ذلك فى أيام أوسلو الأولى، حيث كان ثلث اليد العاملة الفلسطينية فى الضفة الغربية وغزة يعمل فى إسرائيل، وكان الثلث الآخر معتمدا فى معيشته على بيروقراطية السلطة الوطنية الفلسطينية، التى تعتمد بدورها على إسرائيل، إذا خالفتها انقطع عنها مالها وعجزت عن دفع رواتب الناس، فكان ستة وستون بالمائة من المجتمع الفلسطينى فى الضفة وغزة معتمدأ بشكل مباشر أو غير مباشر على قوة الاحتلال. ولا شيء يدل على أن ذلك سيتغير إذا قامت الدولة غدا. ستكون دولة تابعة اقتصاديا، ومنكشفة عسكريا، ومتعاونة أمنيا.
رابعا: من الناحية السياسية، وحقوق الإنسان والحريات الأساسية، ستكون هذه الدولة دولة غير ديمقراطية بالضرورة. إن ثلث سكان الضفة تقريبا وثلثى سكان غزة هم من اللاجئين الذين أخرجوا من ديارهم عام ثمانية وأربعين، ولا مصلحة لهم فى هذه الدولة التى ستحرس إسرائيل منهم وتبقيهم معتمدين عليها فى خبز يومهم. لذلك، إذا تركت الحرية لهم، فإنهم سينتخبون قوى سياسية تعدهم بتغيير قواعد اللعبة وبالاستقلال الاقتصادى والسياسى والأمنى والعسكرى عن إسرائيل.
لكننا نعلم أن هذا يعنى تفكيك الدولة الفلسطينية الوليدة، حيث يضعها فى مواجهة لا قبل لها بها أمام إسرائيل، وعليه فإن أية عملية ديمقراطية فى فلسطين الجديدة ستكون مشروطة بأن لا تؤثر على السلام مع العدو، وأن لا تسعى للاستقلال الحقيقى عنه. وقد رأينا نموذجا من ذلك حين عوقب الشعب الفلسطينى كله بالتجويع والحصار لأنه صوت لحزب أو حركة لم تكن إسرائيل راضية عنها. ولا يقف ضرر غياب الديمقراطية عند هذا الحد، ففى غياب مجلس نيابى منتخب انتخابا نزيها لن تكون هناك رقابة حقيقية على الميزانية، وهذا يؤدى طبعا إلى استشراء الفساد، والفساد يعنى أن أى مال يصل لهذه الدولة مقابل سلامها مع إسرائيل وتعاونها الأمنى معها، لن يصل إلى فقرائها، بل سيبقى فى أيدى قادة الدولة والمتنفذين فيها، فيخرج الفقراء الفلسطينيون، واللاجئون منهم، فى الداخل والخارج، مقموعين محرومين، خاسرين حقهم فى العودة، وخاسرين حتى الثمن الذى بيع به هذا الحق.
●●●
ربما كانت الحسنة الوحيدة لهذه الدولة أنها ستمنح بعض الفلسطينيبن جوازت سفر صالحة، ومن المفارقة أن حسنتها الوحيدة هى أن تتيح لهم فرصة مغادرتها.
أما من يسأل ما البديل؟ فنحيله لما كررناه مرارا فى هذه الزاوية عن الحلف المتكون فى المشرق من تركيا وإيران والعراق وسوريا ولبنان وربما مصر، والذى يمكن أن يدعم مقاومة فلسطينية تدخل النظام الصهيونى فى حرب استنزاف لا يستطيع أن يحقق فيها نصرا، فنفكك النظام الذى يظلم الفلسطينيين بدلا من أن نبنى نظاما آخر بجانبه يظلمهم أيضا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى