انا اللفافة، إذا كنت لا تعرفنى فأنت لم تلبسنى بعد.
إذا كنت غنيًّا أو مسنودًا فأنت لن تلبسنى إطلاقًا، ربما تصافحنى كفك بعد أن أنتقل إليها من كف «ديلر» يبيعك ما أحمله بداخلى من مخدرات، وعندها سأنتقل من كفك إلى جيبك أو إلى صندوق سيارتك أو إلى جيب حقيبتك، من ملامح وجهك وماركة سيارتك سأعرف من أول نظرة أننى لن أندسّ فى فمك أو مؤخرتك سواء كان ذلك طواعية أو عنوة، التجارب الطويلة علمتنى أن الفقراء وغير المسنودين والغرقى فى بحر الحياة هم وحدهم الذين يضعوننى فى أفواههم ومؤخراتهم طواعية لكى يعبروا بى وبما أحمله من مخدرات من مطارات العالم المتقدم، أو يضعنى الضباط والمخبرون والجلادون فى أفواههم ومؤخراتهم عنوة فى أقسام وسجون وشوارع العالم المتردى.
أنا اللفافة، تحدث الكثيرون وظللت صامتة، لا لأننى جماد أخرس لا يتحدث، بل لأننى لو نطقت لما صدق الناس حرفا مما أعرفه عن دناءتهم ووضاعتهم وتحجرهم، مغلوبة أنا على أمرى، أُستدعى وقت الطلب لأحمل أوزار الناس، ولأصير لعبة يتقاذفها بإتقان ضباط شرطة وخبراء طب شرعى ووكلاء نيابة وصحفيون وساسة ومتفرجون ماتت ضمائرهم، إذا أدى كل واحد من هؤلاء الدور المرسوم له عندها فقط أنجح فى إحراز الهدف، أما إذا تمرد أحدهم على دوره المرسوم فأظل لعبة حائرة لا تستقر على مرمى، بل أحيانا تنكشف اللعبة لأجد نفسى عرضة لأضواء البحث وأصابع الاتهام ونظرات الشك، وعندها سيتحدث الجميع وسأظل صامتة، محتفظة بسرى أنوء بحمله، مستقرة داخل كيس بلاستيكى قمىء فى دولاب أحراز عتيق متمرس فى معاشرة الزور، كلما تم إغلاقه أخذت الأحراز تحدّث أخبارها، فيحكى الحرز الصادق عما رآه من بشاعة، ويلعن الحرز المدسوس من دسه بمهارة، ويعترف الحرز المتلاعَب به باسم الأيدى التى امتدت عابثة إليه، هذه رصاصة خارجة من جسد شهيد تسأل نفسها متى يستبدلون بها رصاصة أخرى، وتلك شظية تعلم أنها لن تكون كافية لإنصاف جريح أخرجوها من جسده، وتلك ورقة مزورة تعرف أنهم لن يمسكوا أبدا باليد التى زورتها، وذلك قرص مدمج يعلم أنه سينقرض قبل أن يصلوا إلى حقيقة ما يحمله، وهناك فى أرجاء متناثرة من الدولاب تستقر لفافات مليئة بالمخدرات كلهن أرقى منى وأكبر حجما وأشد امتلاء وأثقل وزنا، وكلهن يأنفن منى لأننى إما قادمة من فم حُشِرت به أو مؤخرة دُسِست فيها، لكننا جميعا نعلم أننا مُجبَرون على أن نظل إلى النهاية صامتين لا نستطيع أن نكشف الحقيقة التى ننوء بحملها، علينا فقط أن نتفرج على من سينال جزاء حمله لنا حقا وعدلا، ومن سيحمل أوزارنا ظلما وعدوانا.
أنا اللفافة، أحمد الله وأبتهل إليه لأنه لم يخلقنى إنسانا وأنعم علىّ فجعلنى جمادا لا يحس ولا يشعر، كلما شاهدت ظلم البشر بعضهم بعضا أسخر من نفسى لأننى ظننت أن حياة البشر يمكن أن تكون أكثر إمتاعا ودفئا، خدعنى ما أراه من ملامح النشوة التى تبدو على وجوههم عندما يفضّوننى ويتناولون ما أحمله شما أو حرقا أو حقنا، خدعتنى ضحكاتهم المجلجلة أحيانا، ومشاعر الرضا التى تنتابهم عقب وليمة طعام ساخنة أو لحظات جنس حميمية أو ساعات دفء عائلى أو مشاعر ندم يجهشون بعدها ببكاء مهيب، كان ذلك قبل أن أكتشف أن كل تلك المشاعر لا قيمة لها إلى جوار لحظة ظلم واحدة أراها تحل بإنسان يهوى تحت أحذية ضاربيه على الأسفلت، أو تتمزق أربطته فى غرفة التعذيب، أو ينتفض جسده بفعل كهرباء تصعقه، أو يرتفع رأسه هاربا من مياه كادت تغرقه ليبحث عن نفس يُحيِى موات رئتيه، أو يرى من يحب أمامه عاريا أو مُهانا أو خائفا. لا، لا أريد أن أكون بشرا، أريد أن أكون كما أنا، خامدة جامدة لا تمتلك إرادة ولا روحا ولا قرارا، فذلك أكرم بكثير من أن تكون لى إرادة يسلبونها منى، وأن يكون لى روح ينتهكه كل من هو أقوى منى، وأن يكون القرار الوحيد الذى أقدر على اتخاذه هو قرار التخلص من الحياة التى منحها لى الله.
أنا اللفافة، ما زلت أذكر اللحظة الأولى التى دخلت فيها إلى داخل جسد إنسان عنوة بعد أشهر من التنقل بين المطارات والموانى والتقلب بين أيدى المهربين وضباط البوليس والتجار والموزعين، قبلها كنت أجلس فى دولاب داخل قسم شرطة لأشهر دون أن أفعل شيئا مفيدا، أتفرج على الداخلين إليه والخارجين منه وأستمع إلى حكايات تغرى بمخاصمة الجمود وتحرّض على الصراخ فى وجوه البشر قرفا وحنقا، أخرجنى الضابط الذى كنت من نصيبه من الدولاب وأعطانى لمخبرين كان يتبادل معهما نكاتا بذيئة لم أسمع مثيلا لسفالتها منذ أن لُفِفت وأصبحت لافّة ودايرة، استقررت فى جيب أحدهما، وعندما خرجت من ذلك الجيب العفن وجدت أمامى وجها جميلا لشاب بهى الطلعة يمسك المخبران بفمه ويفتحانه عنوة ويقومان بحشرى داخله عنوة، سيطاردنى وجه ذلك الشاب إلى أن أفنى تماما وأترك هذه الدنيا البائسة، كان وجهه الصبوح مليئا بأمارات التحدى والشجاعة، لكننى رأيت الخوف يسكن فى عينيه، وإلى جوار الخوف رأيت فى عينيه صورا مدهشة تتسابق على المثول فى ذاكرته، رأيته يقبل رأس سيدة محجبة جميلة، رأيته يحتضن جيتارا ويغنى، رأيته يتغزل فى فتاة فاتنة، رأيته يمسك مصحفا ويقرأ بصوت جميل، رأيته على مائدة العشاء مع فتاة تشبهه وأسرة تحبه، رأيت وجوه قاتليه تطرد كل هذه الصور من حدقتى عينيه وتكسوهما بسواد يزداد حلكة كلما أجبرونى على أن أدخل أكثر إلى أعماق فمه الذى ضاق بى وحاول مرارا لفظى خارجه قبل أن يتوقف عن المحاولة فأدرك ما تسببت فيه، وأستقر داخل فمه صامتة حزينة، أتنقل من يد إلى يد وأخرج من دولاب إلى آخر، وأسمع كذبا كثيرا يقسم قائلوه عليه بالمصحف الشريف، قبل أن أرى صورة الشاب الذى وضعونى فى فمه وهى تكسو جدران الشوارع التى أعبر بها من مبنى إلى مبنى بين حين وآخر، وعندما استبشرت خيرا لأنهم أخرجونى أخيرا من الدولاب لكى يعرفوا الحقيقة، حاولت أن أساعدهم وأصرخ بها، لكننى فشلت، وكانت هذه المرة الأولى التى أندم فيها لأننى خُلقت جمادا، قبل أن تمر أشهر لأعرف الحكم الذى صدر بحق من وضعونى فى فم الشاب، فأرضى بصمت أبدى يليق بكل ما عايشته من قبح.
اليوم وأنا مستقرة فى هذا الدولاب الكئيب، أنتظر مصيرى النهائى، وجدت لفافة أخرى صغيرة الحجم تدخل إلى الدولاب صامتة حزينة، يقولون هنا إنها جاءت من داخل جسد شاب فقير قتلوه بأحد السجون، كلما سألها أحد من أين أتت تجهش بالبكاء وترتجف ربما من هول ما رأته، أنظر إليها حزينة لأنها ستخوض نفس الرحلة التى خضتها، قبل أن تستقر فى نهاية المطاف مثلى محبطة عاجزة خامدة، تقول لنفسها هذه العبارات الساخرة المريرة التى أقولها لنفسى منذ أن صدر الحكم الأخير: «أنا اللفافة، أنا الحل السحرى، أنا المبرر، أنا العذر، أنا الحجة، أنا الخلاص، أنا المهرب، أنا المخرج، أنا سبيل الظالمين إلى النجاة، متى ستلبسنى؟».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى