الكاتب الكبير يتحدث إلى صحيفة الأخبار: لحظات الحقيقة فى التاريخ ومع كل أثقالها اختبار لمقدرة الشعوب
الأستاذ محمد حسنين هيكل في حوار مع جريدة الأخبار
حوار - ياسر رزق
قبل أن نبدأ
إذا لم يتكلم «الأستاذ» الآن، فمن يتكلم إذن؟!
«الأستاذ» بالنسبة لجيلى وجيلين آخرين، سابق ولاحق لنا، كان ولم يزل هو «البوصلة».
نهتدى به حين ينزل الضباب، وتختلط الاتجاهات، وتتوه المعالم، وتغيب الحقائق.
نسترشد بكتاباته، بأفكاره ورؤاه وتحليلاته، عن أمة أُريد لها أن تنسى تاريخها، لتفقد حاضرها وتضيع مستقبلها، وأُريد لها أن تغفل عن جغرافيتها، لتضل الطريق، وتخطئ المسير، وتنأى عن المقصد.
●●●
مثلنا ينظر «الأستاذ» لكنه يرى ما لانراه.
بعضنا يرى المشهد بسيطا، باللونين الأبيض والأسود. وبعضنا يراه محدودا، ببعدى العرض والارتفاع وبعضنا يراه بألوانه وأضوائه وظلاله، وببعده الثالث.. بالعمق.
غير أن الأستاذ يراه فوق ذلك مشهدا مركبا.. بعنصر المكان ومقتضياته، وبُعد الزمان وتأثيراته، بالحركة وأسبابها وتداعياتها، وعلاقات المتحرك بالثابت فى قلب المشهد وعلى أطرافه.
يحلو لـ«الأستاذ» أن يقول عن نفسه ــ مستغنيا ومكتفيا وربما عازفا ــ إنه وضع مستقبله وراءه.
لكننا فى هذه اللحظة الفارقة من عمر الوطن، نضع مستقبلنا أمامه.
ليس عرَّافا هو، لكنه عارف، بحكم خبرة من عاش وسمع ورأى وشارك وصنع، وبحكم تجربة صحفى متفرد وسياسى متبصر، وبعمق نظرة أديب أغوته الصحافة، وشاعر استهواه النثر، ومفكر أضنته السياسة حين تنكّبت الحكمة!
●●●
على قدر ما طفت ببلدان العالم فى خمس قارات، وعلى قدر ما التقيت زعماء وقادة فكر ورأى وشخصيات عالمية جاءت إلى مصر أو قابلتها خارجها، ظل لقاء «الأستاذ» والحوار معه فى مكتبه المطل على النيل بالجيزة أمنية تتغلب على ما عداها من أمنيات.
وعلى قدر ما عايشت من حروب وأزمات فى البؤر الساخنة، من العراق إلى الكويت إلى البلقان إلى غزة إلى جنوب لبنان إلى إيران إلى دارفور، وعشت بين هدير القصف ورائحة البارود ولون الدماء، فإننى لم أتهيب مهمة صحفية، بقدر ما تهيبت هذه المهمة على شوقى لها!
●●●
هذا الحوار مع الأستاذ محمد حسنين هيكل، لاحت فرصته فى الأفق منذ عام. وأخذت أتحينها وسط الأحداث العاصفة على مدار اثنى عشر شهرا.
وأخيرًا.. حل أوانها.
هذه المرة كان اتصالى بـ«الأستاذ» عبر المحمول بغرض واحد، هو إجراء حوار طال انتظارى له.. المناسبة هى مرور العام الأول على قيام ثورة ٢٥ يناير، والهدف أن يجيب لنا «الأستاذ» عن: ماذا؟.. وكيف؟.. وإلى أين؟!
لم يتردد «الأستاذ».. وعلى الفور وافق قائلا بطريقته المعهودة: «pleasure , Alright»
●●●
خمس جلسات كاملة، قضيناها، الأستاذ هيكل وأنا فى مكتبه. كل منها استغرق ساعتين أو أكثر قليلا، عدا واحدة طالت إلى 5 ساعات كاملة، وتخللها غداء دعانى إليه الأستاذ متكرما، فى منزله الذى يفصله عن شقة المكتب باب من خشب.
كان الشأن المصرى الداخلى هو المهيمن على مجريات حوارنا غير ان الشأن العربى كان يرد ذكره فى الحديث عن مصر، لأنه إذا كان الفصل بين ما هو مصرى وما هو عربى ممكنا بداعى الفحص والتدقيق، فلا يمكن لأحدهما أن ينفصل عن الآخر بحكم ارتباط القلب بالجسد وأطرافه.
●●●
متعة أن تجلس إلى «الأستاذ».. أن تشاهده وهو يتكلم. أن تستمع إليه وهو يتحدث.
لكن ما أصعب أن تجلس إليه صحفيا تسأل. تراودك شهوة الصحافة أن تقاطع وتستفسر وتلح. لكن يستبد بك العقل أحيانا، ويكبح جموح الصحفى، فيتريث حتى لا يفقد اتصال فكرة واكتمال موضوع.. فضلا عن متعة الاستماع.
ثلاث حلقات هى حصاد حوارى مع الأستاذ محمد حسنين هيكل، تنشرها «الأخبار» يوميا ابتداء من هذا العدد تحت عنوان «مصر أمام لحظة حقيقية».
ياسر رزق
كان الوقت هو منتصف النهار، حينما وصلت إلى مكتب «الأستاذ».
عبر زجاج شرفة الصالون الملحق بغرفة المكتب، بدت مياه النيل تتهادى شمالا من مجراها الواسع، إلى فرعين يحتضنان جزيرة الزمالك من طرفها الجنوبى.
الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل يتحدث إلي الزميل ياسر رزق رئيس تحرير جريدة الأخبار
على امتداد البصر، لاح مبنى مجلس قيادة ثورة 23 يوليو الذى شهد لقاءات ممتدة واتصالات مطولة لرئيس وأعضاء المجلس مع رئيس تحرير «آخر ساعة» محمد حسنين هيكل الذى عرفهم وعرفوه منذ حصار الفالوجا فى حرب 1948.
إلى اليسار يخطف البصر برج الجزيرة، ينهض بشموخ شاهدا على واقعة تكشف عن طهارة قائد واستقلال إرادة ثورة، حينما أرسلت المخابرات المركزية الأمريكية ثلاثة ملايين دولار إلى جمال عبدالناصر، لرشوة رئيس مجلس قيادة الثورة المصرية، والتأثير على مواقفه من القضية الجزائرية، فقرر عبدالناصر أن ينشئ بالمبلغ الضخم بمعايير تلك الأيام من عام 1956، برجا يعلو عن ارتفاع الهرم الأكبر بنحو 34 مترا، ليكون كما اسماه الأمريكان، «شوكة» فى عين أمريكا!
إلى اليمين، وعلى مسافة عشرات من الأمتار، يقع منزل الرئيس الراحل أنور السادات، الذى جاءت منه ابنته ذات ليلة من شهر مايو عام 1971، إلى منزل «عمها» هيكل تبلغه رسالة من والدها الرئيس يطلب منه المجىء. ولم يجد السادات وسيلة أكثر أمنا من ابنته لنقل رسالته فى ظل مراقبة تليفوناته ممن اصطلح على تسميتهم فى ذلك الحين بـ«مراكز القوى».
دخلت إلى غرفة المكتب، استقبلنى الأستاذ ببشاشة وترحاب. بدا أنيقا كما هى العادة، متألقا بحضور طاغ أخاذ، مفعما بحيوية تعبر عنها إشارات يدين، تبوحان أحيانا بأفصح من عبارات الكلام، وتطل من عينيه الذكيتين، تلك النظرة التى تفحص وتزن، وتدقق فى التفاصيل وهى ترنو إلى مجمل مشهد.
جلست إلى «الأستاذ» أمام مكتبه. ومن خلفى جزء من مكتبته التى تلتف أمام جدران الشقة بأكملها تقريبا.
إلى اليمين من «الأستاذ» نسخة من تمثال «الكاتب المصرى» تتربع فوق قطعة أثاث تحوى أرفف كتب.
يجذب «الأستاذ» نفسا هادئا من سيجاره الفاخر ماركة «كوهيبا». مازال يدخن «السيجار» منذ عقود طويلة دون انقطاع سوى أسابيع معدودة، لكنه الآن يكتفى بسيجار واحد يوميا.
الصحفى المستحوذ على وجدان «الأستاذ» وكيانه، هو الذى بادر بالحديث. سألنى عن مجريات الأحداث وآخر الأخبار. ولم أفاجأ بأنه يعرف أكثر مما يعرف الجالسون فى صالات تحرير الصحف وأمام أجهزة استقبال الأخبار الواردة من وكالات الأنباء.
أدرى أن المقعد الذى أجلس عليه قد جلس عليه رؤساء الوزراء الثلاثة الذين تعاقبوا على تولى هذه المسئولية الصعبة بعد انفجار ثورة يناير. جلست عليه أيضا قادة كبار من أعضاء المجلس العسكرى، وشخصيات عامة طرحت نفسها للترشح لرئاسة الجمهورية، وجلس عليه قيادات لقوى سياسية من مختلف ألوان الطيف، ورموز لحركات شبابية بشرت بالثورة، ودعت إليها فى العالم الافتراضى، ثم شاركت فى تفجيرها فى ميدان التحرير وغيره من الميادين.
● قلت للأستاذ: أظنها أول مرة تتحدث فيها لجريدة «الأخبار» رغم أنك كنت أحد رؤساء تحريرها، قبل أن تنتقل إلى الأهرام عام 1975.
- الأستاذ هيكل:
إننى سعيد أن تُتاح لنا فرصة حوار مشترك، ولكونى صحفيا قديما فإنه يسعدنى كثيرا أن أرى حركة تقدم الأجيال وتواصلها، ثم إننى سعيد أيضا أن ألتقى قارئ «الأخبار» بعد سنوات طويلة من الغيبة، لكى أكون صريحا معك فلابد أن أقول إن حياتى المهنية فى «الأهرام» أخذت الجزء الأكبر من عمرى داخل المؤسسات الصحفية، وتلك التجربة فيه مازالت أغنى تجارب حياتى، لكن المفارقة أن التفرغ للعمل الطليق بالمتابعة والكتابة، ونشر الكتب سواء فى العالم الخارجى أو فى العالم العربى، أو الحديث من على قناة «الجزيرة» وغيرها ـ كله مع بعضه أخذ أطول مساحة من حياتى المهنية، وكانت ذروتها وخاتمتها، وهذه أهمية هذه المرحلة بالنسبة لى... هل تتصور أن كل عملى كان أقل من نصفه... أى ثلاثين سنة... داخل المؤسسات الصحفية، من «الإچيبشيان جازيت» إلى «أخبار اليوم» إلى «الأهرام» حيث قضيت قُرابة ثمانية عشر عاما، وبعد ذلك كان عملى ونشاطى كله من خارج المؤسسات لأكثر من خمس وثلاثين سنة، ومن هذا المكتب البعيد عن أى مؤسسة.
لقد كنت ذات يوم أحد رؤساء تحرير «الأخبار»، ومديرا لتحرير «أخبار اليوم» فى نفس الوقت، وكذلك فإن الحديث معك اليوم يعيد إلىَّ ذكريات شبابى الباكر، شباب ما تحت الثلاثين سنة، حين جلست على المقعد الذى تجلس أنت فيه اليوم.
هذا سبب يسعدنى... العودة إلى شبابى الباكر... والعودة إليه معك، أضف إلى ذلك أننى هذه اللحظة بالتحديد أؤثر اللجوء إلى انضباط الحرف بالحبر على الورق، وأعرف بالطبع أن التليفزيون هو أداة الإعلام الأوسع وصولا للناس فى هذا العصر، لكن المشهد التليفزيونى فى هذه اللحظة يبدو لى مزدحما بأكثر من اللازم، صاخبا بأكثر مما هو ضرورى، وأنا أرى نجومه وأعجب بالكثيرين منهم، ومعظمهم أصدقاء، وكلهم تفضَّل ودعانى إلى برامجه، لكنى حتى هذه اللحظة أجد نفسى مترددا، فلا يكفى أن نرى الصورة على الشاشة، ونشعر بالألفة مع الملامح والأصوات، ولكن المهم أيضا ما وراء الصور والشاشات.
لذلك خطر لى أن أحتمى بانضباط الكلمة المطبوعة بالحبر على الورق كما قلت، أنا لا أتصور أن أبادر أحدا بشك فى نوايا أو مقاصد، لكن الوضع أمامى ملتبس كما هو مزدحم، وأحاول جاهدا أقلمة نفسى معه، ثم إن تليفزيون الدولة تفضَّل، ودعانى بكل لسان ـ سواء بلسان المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أو بلسان وزراء الإعلام المختلفين بعد الثورة، وقد اعتذرت أيضا، على الأقل فى هذه اللحظة، وقلت لمن تفضلوا بدعوتى للكلام فى تليفزيون الدولة إننى لن أقول غير رأيى، وقد أجد نفسى مختلفا مع أصحاب الدعوة، ولست أريد أن أسبب حرجا لأحد... لا لغيرى ولا لنفسى!!
● قلت: كيف ترى المشهد المصرى بعد عام من قيام ثورة 25 يناير، بين فورة انفجار فاجأت الجميع، وأجواء ضباب نعيشها هذه الأيام؟!
- الأستاذ هيكل:
اعتقادى أن مصر الآن أمام «لحظة حقيقة» تجمعت فيها مشاكل وقضايا وعقد كثيرة داخلية وخارجية، متشابكة مع بعضها، وبعضها سابق وبعضها لاحق وبعضها مستحق، وقد أصبح المتراكم منها كتلة حرجة، وليست لهذه الكتلة الحرجة حلول أو منافذ سهلة أو قريبة المنال أو متهاودة فى التكاليف، جزء كبير من المسئولية علينا جميعا، فقد رضينا حين كان ينبغى ألا نرضى، وقبلنا حين لم يكن يجوز القبول، وسكتنا حين لم يكن يصح السكوت ـ أنت تشهد أننى لم أسكت، وإنما تكلمت، وفى وقته، لكن ذلك لم يعد مهما الآن ـ ما حدث هو أن خطايا الماضى تراكمت على خطايا الحاضر، قبل «مبارك»، وفى زمن «مبارك» وبعد عام من سقوط «مبارك»، بما يجعل المستقبل محفوفا بالخطر، وكذلك فرضت لحظة الحقيقة نفسها.
إننى طوال الأسبوع الأخير ـ أسبوع الذكرى الأولى لثورة 25 يناير 2011 ـ وهى حدث عظيم بكل المقاييس ـ كنت أتابع حركة التجمعات فى ميادين مصر، وكنت أراقب المسيرات فى شوارعها، وأتأمل ملامح الناس فى الميادين والشوارع، وكنت طول الوقت أشعر بنوع من الوجع، وأنا أرى التحركات حائرة، والجموع قلقة، والنداءات جريحة وكلها زحام بالأسئلة، ملأى بالأسئلة وليس هناك جواب، ليست هناك فكرة ملهمة، وليست هناك قيادة موثوقة، بل ليس هناك أفق ولا بوصلة، وتلك كلها علامات لحظة حقيقة.
ولحظات الحقيقة فى التاريخ ومع كل أثقالها اختبار لمقدرة الشعوب، إما أن تتخبط فيها بلا إرادة، وإما أن تقف وأن تمسك بأقدارها وتتدارك، ثم تفكر وتتصرف.
الواقع أننا فى حاجة إلى وقفة، إلى فهم، إلى تدبر!!
ما نواجهه فى لحظة الحقيقة أكبر وأعمق مما يتصور معظمنا من ظاهر التصرفات.
ما يواجهنا الآن أوضاع لا تكفى لحلها انتخابات برلمانية، ولا مجلس أعلى للقوات المسلحة، ولا مليونيات الشباب، ولا دستور جديد أو رئيس يُنتخب رئاسيا أو برلمانيا، والسبب أن الواقع فى الشأن المصرى داخليا وخارجيا مزعج، والغاطس من الحقائق أكبر من الظاهر، وذلك فى الغالب أهم سبب لما نراه من تخبط، ومن صراع فى الظلام بين القوى من أفعال.. متسرعة أو متأخرة أو مرتبكة، دون افتراض سوء النية مسبقا!!
ظاهر الصورة يقول إننا فى معركة.. كلنا مع بعضنا.
المجلس العسكرى ـ كما يختصرون اسم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مع أنى فى الحقيقة لا أحب هذا الاختصار ـ فيه شبه تصادم مع الشباب.
والأحزاب كلها فى معركة علنية أو صامتة مع بعضها ـ المدنى ضد الدينى ـ والدينى ضد بعضه ـ والمدنى ضد المدنى ـ والأحزاب ضد المرشحين النجوم، والمرشحين النجوم كلهم ضد بعضهم.
وأنا أعرف أن الكل حريص على المستقبل، ولكن المشكلة أن المستقبل مرتبط بفهم الحقائق الراهنة، وهذه الحقائق الراهنة لا يقترب منها أحد، مع أنها الأصل والأساس.
الأصل والأساس يمكن تلخيصه فى عدة نقط:
ـ نحن بلد شاء أو لم يشأ ـ أدرك أو لم يدرك ـ رهن جزءا مهما من إرادته.
ـ وأضاع جزءا مهما من ثروته.
ـ وبدَّد جزءا مهما من قوته.
ـ وتهاون فى جزء مهم من قيم الثقافة والعدل، وفى حافز العمل العام، وداعيه فى أى مجتمع.
ـ واستغنى عن جزء مهم من هويته وشرعيته فى المنطقة التى يعيش فيها.
أتوقع أن البعض سوف يغضب مما أقول، أو يعتب، ولا حيلة لى فى ذلك، لأن ذلك هو جوهر الأزمة.
وهذا فى الصميم هو ما دعا إلى قيام الثورة.
وقد قامت الثورة فعلا... بداياتها ظهرت من سنوات... بدأت حالة ثورية منذ التسعينيات الماضية، ومرحلة تصاعد ثورى بلغ أقصاه فى 25 يناير الماضى، وانفتحت الأبواب لفعل الثورة ذاته، أى للتغيير الشامل والانتقال من أحوال لم يعد ممكنا قبولها، إلى أحوال مرجوة ومطلوبة، لكن عاما بأكمله من يناير 2011 إلى يناير 2012 لم يحقق كثيرا، وكان يمكن أن يتحقق فيه الكثير، وللأمانة فإن هدفا واحدا تحقق بامتياز، وهو أن جماهير الشعب المصرى خرجت من عزلتها ومن إحباطها، وأمسكت بيدها مقدراتها، ولم تغادر الساحة بل أصرت على البقاء، وهذا هدف كبير تحقق، حتى وإن كان لم يواصل تقدمه إلى ما بعده حتى الآن... السبب أننا ندور فى حلقة مفرغة... مفرغة من الحقيقة لأننا لا نريد أن نواجهها، ولأن قوى الشعب المصرى كله بقيت أو أبقيت بعيدا فى تيه الأوهام، والنتيجة أن هذه القوى جميعا تصادمت مع بعضها فى الظلام، وهذه هى المشكلة الأولى التى نواجهها هذه اللحظة، صدام فى الظلام ـ احتكاك فى الزحام ـ اختر الوصف الذى ترضاه.
المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى احتكاك أو صدام مع شباب الثورة لا مبرر له ـ وشباب الثورة غير واثق لا فى المجلس الأعلى ولا فى القوى السياسية، وذلك لا مبرر له ـ والقوى السياسية لا تعرف مواقع أقدامها، وهذا لا مبرر له ـ والنجوم الذين يتكلمون معظمهم يفعلون أحد شيئين: إما كلام فى العموميات بعيدا عن واقع الحال، وإما عرض أنفسهم على الناس، وكل يزكى نفسه بصورته، وذلك لا يكفى!!
والنتيجة أن الكل فى مأزق.
●●●
هذه بالضبط الأوضاع التى أخذت البلد إلى الثورة، وأهداف الثورة لا يصعب إنجازها إلا إذا جرت مواجهة الحقائق أولا.
دعنى أذكرك أن أهداف الثورة المصرية هى أهداف كل ثورة فى الدنيا، وكل ثورة فى مصر: الحرية ـ العدل ـ والتقدم هذه قصة الأمل الإنسانى باستمرار، وعلى طول التاريخ سواء بالتطور أو بالثورة، هذه هى «ثلاثية» المطلوب، ثم إن كل عصر من العصور يتحرك بهذه المطالب الثلاثة فى ظروف متغيرة وعصور مختلفة، وهو يكيف فعله بإدارة عناصر هذه الظروف والعصور وفق ما هو متوفر له من فكر وطاقة فعل.
الظروف والعصور تتغير والمطلوب محدد دوما وثابتا، ثلاثة مطالب: الحرية والعدل والتقدم، تذكر أن نفس النموذج تقريبا موجود فى الأدب، فكل قصة لها ثلاثة أبطال، رجل وامرأة، وطرف ثالث وأى مؤلف من «سوفوكل» إلى «شكسبير» إلى «نجيب محفوظ» يحرك هؤلاء الأطراف الثلاثة فيما يكتب وفق الظروف والعصور.
وطلب الحرية والعدل والتقدم فى مصر، وبعد تصاعد الثورة وبلوغها حد الذروة يوم 25 يناير ـ كان هناك ثلاثة من الأبطال مسئولين عن أهداف الحرية والعدل والتقدم فى ظروف عصر مستجد، لكن الكل وطوال سنة كاملة وقع فى حيرة لا يعرف كيف يرسم دوره، حتى ليصدق على الجميع تعبير شاعرنا العظيم «أحمد شوقى» فى قوله أثناء حوارات مسرحية «مجنون ليلى»: «نحن الثلاثة ارتطمنا بالقدر»، وهذا بالفعل ما حدث، ثلاثة أبطال فى يدهم مفاتيح الفكر والفعل ارتطموا بالقدر، وبرغم حسن نواياهم فإنهم جميعا واجهوا مأزق الدوران فى الحلقة المفرغة، لأنهم جميعا لم يروا الحقائق الغائبة، أو أنهم رأوها ثم هالهم ما رأوا، فابتعدوا.
● فى تقديرك. كيف حدث ارتطام كل طرف بالقدر؟.. ومن المسئول عن مأزق «الحلقة المفرغة»؟!
- الأستاذ هيكل:
فى ثورة 25 يناير ثلاثة أطراف كما اتفقنا:
ـ جموع الشباب الذين صنعوا التفجير الثورى الذى استجاب له الملايين فى أرجاء مصر، وليس فى ميدان التحرير وحده، تذكر دائما هذه الحقيقة.. الملايين وليس ميدان التحرير وحده ـ من الميدان جاء الإلهام، ومن الملايين جاء الزحف الذى فرض وحسم.
ـ يأتى بعد ذلك دور المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى تسلم سلطة الدولة عهدة مؤقتة وأمانة.
ـ ثم تجىء القوى السياسية كلها جديدها وقديمها، ابتداء من القوة الزاحفة للإخوان المسلمين إلى أصغر تجمع يسارى على الساحة.
الأطراف الثلاثة «الطلائع من الشباب ـ والمجلس الأعلى ـ والأحزاب» وقعوا فى مأزق ربما لم يكن من صنع أحد منهم، لأنهم جميعا ارتطموا بالقدر على حد تعبير «أحمد شوقى»، والارتطام بالقدر هنا معناه ليس مجرد أن يواجه أحد الأطراف عقبات لم تكن من صنعه، ولكن أيضا أن يواجه ما لا يقدر على التصرف فيه، ولا يقدر على تجاهله فى نفس الوقت.
لكى أشرح قصدى، دعنا نستعرض معا أوضاع كل طرف من الأطراف الثلاثة فى ثورة 25 يناير، ولندرس معا كيف ارتطم كل منهم بالقدر؟.
●●●
القوات المسلحة المصرية كانت أول من ارتطم بالقدر فى مصر، وللإنصاف فقد كان ذلك حاصلا منذ البدايات الأولى وحتى من قبل ثورة سنة 1952.
لم نستطع فى أى وقت وضع القوات المسلحة فى مكانها الصحيح من نظام الدولة المصرية الحديثة وفى فعلها.
فكرة الجيش فكرة عميقة فى الوجدان المصرى، فالجيش يمثل ركنا أساسيا فى قيام الدولة المصرية، وفى نظامها وفى حمايتها، لكن الجيش ـ فكرة وتنظيما ـ ظل مستهدفا على الدوام من جانب القوى الخارجية التى لا تريد فى مصر دولة حديثة قادرة على حماية نفسها، وأداء دورها فى إقليمها، الجيش المصرى ربما هو الوحيد فى العالم الذى وقع حله ثلاث مرات فى أقل من قرن.
جرى حله بعد ضرب تجربة «محمد على» ـ وجرى حله بعد ضرب الثورة العرابية سنة 1882 ـ وجرى حله (تقريبا) بعد اغتيال سرداره البريطانى السير «لى ستاك» سنة 1924 ولم يعد الجيش على استحياء إلا بعد معاهدة سنة 1936 وكان التصور أن يظل جيش احتفالات ومراسم!!
لكن الأمة حرصت فى كل الظروف على فكرة الجيش وعلى تجسيدها وتأكيدها، وفى الحقيقة فإن معركة السويس 1956 لم تكن مجرد الأمل فى بناء السد العالى، وإنما كانت فى ذات الوقت تطلعا إلى القوة بكسر احتكار السلاح، وضمن كل مؤسسات الدولة كانت مؤسسة الجيش، هى المؤسسة التى تحققت لها حصانة لم تتوافر لغيرها من المؤسسات.
لكننا ومن قبل الثورة، وفى بلد لم يزل محتلا بالإنجليز، دفعنا الجيش إلى فلسطين دون تحديد للهدف، ودون استعداد يمكنه من تحقيق ما يُطلب منه، والنتيجة سيئة.
بعد ثورة 1952 وبعد كسر احتكار السلاح، تعرضت القوات المسلحة سنة 1956 لتجربة القتال على جبهتين... على جبهة «سيناء» وعلى جبهة «قناة السويس»، وهى لم تكن استوعبت بعد سلاحها الجديد، لكن الانتصار تحقق بالمقاومة الشعبية إلى جانب القوات، وبالإدارة السياسية المقتدرة فى ظرف دولى يسمح بالحركة.
وفى سنة 1967ـ جاء القرار المؤدى إلى الحرب مفاجئا للقوات، ثم وقع الخطأ المروع بسحب جيش بأكمله من سيناء فى ليلة واحدة، بينما الظروف مختلفة بقسوة عما كانت عليه سنة 1956 والنتيجة مؤلمة.
وفى سنة 1973 ـ كانت القوات المسلحة تركيبة مختلفة شعبا وجيشا، أو جيشا وشعبا، وتحقق فى الأيام العشرة الأولى من الحرب أداء رائع فى ميادين القتال، كان يمكن أن تترتب عليه نقلة فى الأحوال مدهشة، لكن السياسة اختارت طريقا آخر رأته عين الحكمة فى ذلك الوقت، والنتيجة أنه حتى المعركة العسكرية اختلفت نهايتها عما كانت عليه فى بدايتها.
كان تصورنا لخلاص أمريكى هو الخطيئة عينها ـ من يومها وحتى هذه اللحظة.
يكفيك أن تراجع بعض ما جرى فى الشهور الأخيرة بعد الثورة، سواء فى القاهرة أو فى واشنطن:
فى القاهرة وبالزيارات المتكررة من مسئولين سياسيين، ومن دبلوماسيين أمريكيين، ظهرت الولايات المتحدة على الساحة السياسية جهارا نهارا، تتصل بكل الأطراف، وتسعى بينهم، وتراجع تعهداتهم، وتفتش حيث تشاء حتى فى المكاتب، وحتى فى القلوب!!
وفى «واشنطن» ربط الكونجرس الأمريكى ـ بمقتضى قراره 1601 لشهر سبتمبر الماضى ـ اعتماده للمساعدات الأمريكية السنوية المقررة لمصر ـ بما يضمن سلطة قادرة على التحكم فى التصرفات شديدة الغلاظة.
لأول مرة لم يحدد مبلغ المعونة العسكرية بكذا «مليار وثلث تقريبا»، وإنما جرى وضع كلمة غريبة لشرط المنح وهو أولا أن يكون المبلغ المعتمد ليس مبلغ كذا... وإنما بما لا يتجاوز مبلغ كذا وهذا معناه التفاوض فى كل اعتماد، أى ربط كل تصريح بصرف أى مبلغ من حساب المعونة بشروط، وأصعب من ذلك أن التصريح له مقدمة تسبقه وتقتضى شهادة «حُسن سير وسلوك» من وزارة الخارجية الأمريكية، منها أن الحكومة المصرية ملتزمة بشروط السلام مع إسرائيل، ملتزمة بمكافحة الإرهاب..، ملتزمة بقبول كل خطوة من خُطى السياسة الأمريكية.. إلى آخره.
ومن المفارقات أن كل القوى السياسية التى ظهرت على الساحة دفعت مقدما تأكيدا مسبقا بالتزامها بكل بنود معاهدة السلام وترتيباتها، وبكل ترتيبات الشراكة مع أمريكا، وهى لا تعرف الكثير عنها.
وفى الواقع فإن أحدا لم يكن يطالب هذه القوى بالتسرع إلى نقض شىء، أو سحب التوقيع عن اتفاق، لكن هذه القوى السياسية كانت تستطيع أن تعترف بالمواثيق والتعهدات الدولية على وجه العموم، ثم تعطى لنفسها الوقت على مهل لتعرف وتدرس.
أقول ذلك وأعتبر نفسى ضمن الداعين فى هذه الظروف إلى تجنب أى تعقيدات، وأى خطوات غير محسوبة والتصرف بروية وصبر.
●●●
كانت تلك أعباء ترتبت على توجهات سياسية سابقة، استحقت الآن ضرائبها:
ـ أولى الضرائب: أن الولايات المتحدة أصبح لها فى مصر من النفوذ أكثر مما ينبغى، وأكثر مما هو صحى، وهو لها بحكم اتفاقات مربوطة، وترتيبات على أساسها سار العُرف عليها.
ـ والضريبة الثانية: وهى موصولة بسابقتها: أن مصر التزمت بأن حربها فى أكتوبر 1973 هى آخر الحروب، ومن تداعيات ذلك، أن القوات المسلحة وضعت بين المطرقة والسندان، مطرقة السياسات الطارئة على استراتيجية الأمن القومى المصرى، وسندان الحقائق المستجدة على مسئولية الأمن القومى المصرى وضروراته فى الإقليم، ذلك أنه بصرف النظر عن الانتماء القومى ـ وهو مسألة حيوية ـ فإن هناك حقيقة جغرافية، وهى أن خط حدود مصر الدولية لا يصلح مرتكزا للدفاع عن مصر، وهذه حقيقة أكدتها عصور التاريخ من «تحتمس» إلى «عبدالناصر»!!
هنا يشير الأستاذ هيكل إلى الخلف، حيث الجدار ـ كمعظم جدران المكتب ـ مرصع بلوحات خرائط كلها لمصر، بعضها يرجع إلى 4 قرون مضت.
ثم يمسك الأستاذ بقلم ويرسم على ورق «دشت» من ذلك الذى يستخدمه المحررون فى صالات تحرير الصحف، خريطة دقيقة لمصر والمشرق العربى. ويحدد على الخريطة موقع قناة السويس ثم مضايق سيناء، وخط الحدود بين مصر وفلسطين التاريخية، مدللا على أن الدفاع عن مصر ـ كما تثبت دروس التاريخ وحقائق الجغرافيا وقواعد الاستراتيجية ـ يبدأ من الشام.
- ثم يعود الأستاذ هيكل إلى حديثه قائلا:
ـ الضريبة الثالثة: هى حصر مصر وحصارها فأمامها إما أن تؤدى الدور المطلوب منها أمريكيا، وإما أن تتقوقع فى هذا المربع المحشور وسط الصحراء فى شمال شرق أفريقيا، وتنقلب الدنيا حولها، وهى ساكتة مشغولة بهمومها، تجتر أحلاما قديمة، مغتربة عن حاضر يجرى حولها، ولا شأن لها به حتى وإن كان فى صميم أمنها من «غزة» إلى «ليبيا»... من «السودان» إلى «سوريا»... من «العراق» إلى «الجزائر»... من الخليج إلى المحيط كما كنا نقول ذات يوم!!
ـ هناك ضريبة رابعة: ذلك أن مصر إلى جانب التزامها بأنها «آخر الحروب»، والضمانات الحقيقية لتحقيق ذلك، التزمت وتعهدت بأن التزاماتها إزاء إسرائيل (والولايات المتحدة) تسبق أية التزامات دولية أخرى وقَّعت عليها من قبل، معنى ذلك أن هذا الالتزام يشمل مسئولية مصر فى عالمها العربى، ومحصلته فى النهاية أن السياسة المصرية قامت بعزل مصر نفسها عن محيطها وعن أمتها.
وعند التطبيق فإن ذلك تأكد، جرى احتلال نصف «بيروت» و«القاهرة» ساكتة، وإذن فإن موجبات حقوقها على الآخرين نسيان لحقيقة أن القيادة مسئولية وليست وظيفة، وأن الدور ممارسة مستمرة وليست ذكريات أمس مجيد، وجرى ضرب «غزة». ولم تحرك «القاهرة» ساكنا، واعتدى الطيران الإسرائيلى على «العراق» وعلى «تونس» وعلى «السودان»، ومصر لا تحتج حتى بكلمة، وليس هناك من يطالب بردة فعل متسرعة، ولا بقعقعة فى السلاح خطرة، لأنى أزعم أن هيبة الدول بالقوة تكفل فى حد ذاتها أن يُحسب حسابها، وأن يراعى جوارها، فأسوأ ما يمكن أن تُصاب به دولة هو أن يصبح تصرفها فى أى موقف أو أزمة أمرا مفروغا منه ومقدورا عليه.
كل ذلك له تداعياته ومضاعفاته وعواقبه، من الهيبة السياسية إلى الاقتصاد ومن التجارة إلى الثقافة.
ولسنا الآن فى معرض الخوض فى ذلك كله، فإن مصر بعد ثورة 25 يناير كان عليها أن تكتشف أن الضرائب المفروضة عليها ثقيلة وغليظة، وأنها فى أوضاعها الراهنة ومهما قيل ويُقال قيد على حرية الحركة وعلى إرادة صُنع القرار!!
وظنى أنه يكفى فى هذه اللحظة أن يتعرف الشعب المصرى على واقع الحال، يعرف حقائقه، يستوعبه، يتدبر أمره.
وفى الحقيقة فليس هناك بلد فى العالم ولا فى التاريخ قال لنفسه وللآخرين أنه خاض «آخر الحروب»، فلم تفعلها «أمريكا» بعد أن انتصرت فى الحرب العالمية الثانية بالضربة النووية القاضية فى «اليابان» ـ ولم تفعلها إنجلترا حتى بعد انتهاء الإمبراطورية ـ ولم تفعلها «فرنسا» كذلك ـ ولم تفعلها «الهند» ـ ولا «الصين».
بمعنى أن أى دولة من واجبها تجنب الحرب، ولكنها لا توجد دولة لا تحتفظ لنفسها بحق الدفاع عن نفسها، وتوفر لذلك شروطه، بأنها لن تدافع عن نفسها وعن أمنها كما تقدره، وكما تضع نظريتها لأمنها الوطنى والقومى!!
●●●
دعنا نترك مصر فى حالها لحظة، ونتحدث عن القيادة العسكرية لأى جيش فى العالم.
قل لى ما هو وضع أى قيادة عسكرية يُقال لها ويُفرض عليها أنها فى لحظة معينة خاضت «آخر الحروب»!!
لاحظ أرجوك عدة اعتبارات شخصية وعامة:
ـ أننى لست داعية حرب، بالعكس فقد خبرت الحروب، ولمست تجربتها كمراسل حربى، ورأيت ميادين القتال من «البلقان» فى فلسطين، إلى «كوريا» و«ڤيتنام»!!
ـ ثم إننى لا أتصور ولم يحدث من قبل على طول الحقب والأزمنة، أن بلدا من البلدان اعتمد استراتيجية تقضى بعدم اللجوء إلى السلاح فى نهاية المطاف لصد تهديد أو لتأكيد أمن!!
لاحظ أيضا مسألة ثالثة وهى أن الذين طالبوا مصر بالتعهد أن أكتوبر «آخر الحروب» سوف يعملون على ضمان ذلك عمليا على الأرض، وأولى الضمانات أن يحددوا قدرة سلاحها، وأن يحددوا إمكانية حركتها بما يرون من الوسائل الضرورية، وهذه نقطة لمسناها فيما تعرضنا له قبل قليل.
بعد ذلك نمضى خطوة ونسأل:
ـ ماذا يحدث إذا قلت لأى قيادة عسكرية أنها لن تحارب بعد الآن؟!!
بالطبيعة.. تتأثر رؤيتها لدورها، لأن مبرر وجودها يصبح موضع تساؤل.
بالطبيعة.. تتأثر ثقافتها المهنية والمؤسسية، لأن أى متابعة لابد أن تتصل بممارسة محددة، حتى لو كانت الممارسة بمجرد الاستعداد والتأهب، مع العلم بأن مجرد الاستعداد والتأهب يفعل فعله دون إطلاق نار، وهذه أقصى درجات القوة.
بالطبيعة.. تتأثر علاقتها بمجتمعها، لأنها إذا لم تكن مكلفة، ولم تكن قادرة على أداء دورها الطبيعى إذن فكيف ترتب علاقاتها مع هذا المجتمع وموقعها ومهمتها فيه.
فوق ذلك هناك آثار جانبية:
بالطبيعة أيضا.. سوف تترتب على ذلك مشاكل جانبية، ولكنها شديدة الخطر.
أولاها، أن هذه القيادة العسكرية سوف تفقد صلتها بخيرة شبابها، وعلى سبيل المثال فقد كان بين الميزات الكبرى فى حرب أكتوبر أن 147 ألف شاب من شباب الجامعات والمعاهد العُليا وما يوازيها، كانوا فى صفوف القوات المسلحة فى معارك تلك الحرب، وذلك التواجد فى ميدان القتال أوجد لغة وفهما وألفة بين الشباب: الكتائب والفرق والجيوش، وأوجد صداقة حميمية، وأوجد شراكة وثيقة جرى تعميدها بالنار والدم.
فإذا قيل إن القوات المسلحة لن تخوض حربا بعد سنة 1974 إذن فالأولى أن تترك خيرة الشباب لمواقع العمل المدنى، فذلك أجدى وأنفع!!
وإذا كانت حرب 1973 «آخر الحروب» فعلا، فما الذى يدفع إلى التجنيد الإجبارى حتى لغير شباب المؤهلات؟!!
●●●
هناك قضية أخرى لا تقل أهمية، وتلك أنه عندما تكون حرب بالذات هى «آخر الحروب» فى حياة وطن، فإن الروابط تتأثر بين أى مؤسسة جيش وبين جموع شبابها.
أنت وربما غيرك يقول لى إن «آخر الحروب» تنطبق ـ فى الحالة المصرية ـ على إسرائيل فقط، وهنا يثور سؤال.. أى تهديد، هناك حول مصر يمكن أن يدعوها إلى حمل السلاح؟!، والجواب أن إسرائيل وحدها مصدر أى تهديد محتمل.
والرد أنه ليس حول مصر تهديد محتمل يقتضى حربا مسلحة غير إسرائيل، لأن محيطها من كل النواحى فى الشرق والغرب والجنوب محيط عربى، وليس عليه، ويصعب فى أى مستقبل أن يكون عليه مصدر لتهديد محتمل، والواقع أن التهديد المحتمل الوحيد إسرائيلى، فإذا كان ذلك محظورا، إذن فنحن أمام وضع شديد الغرابة!!
ويُقال لى مرات أن العقيدة القتالية المعهود بها إلى القيادة العسكرية المصرية لاتزال تعتبر أن الشرق مصدر التهديد أى إسرائيل.
لكن المشكلة التى تطرأ هنا أن أى معادلة سياسية ليست مجرد مقولة، وإنما كل شرط فى السياسة الدولية له ضمانات تؤكد مفعوله، بمعنى أن الذين وضعوا هذا الشرط، وفروا له من الضمانات ما يجعله ملزما.
فالسلاح الآن عندنا أمريكى بالدرجة الأولى، وأى سلاح أمريكى فى مصر لا يُقدَّم لها إلا وفق قانون أمريكى معروف ومشهور، مؤداه أن إسرائيل يجب أن يكون لها تفوق كامل على كل الجيوش العربية مجتمعة، وهذا يقتضى ألا يجىء إلى مصر مسمار واحد أمريكى لا توافق عليه إسرائيل، وهو خلل فى الموازين يصعب القبول بأحكامه، لأن ذلك هو الختم النهائى الذى تتحقق إسرائيل به من أن حريتها فى العمل مكفولة، وذلك ما يسمونه فى واشنطن استراتيچية التفوق النوعى لإسرائيل Qualitative advantage وبمقتضاه فإن إسرائيل لابد أن تتأكد على أن ما لديها يجعلها أقوى من محيطها كله مجتمعا!!
ويُقال لنا أحيانا إن تحت التصرف سلاح غير أمريكى، وهذا ليس دقيقا، إلا أن التسليح الحديث نظم رئيسية، وليس مجرد إضافات هامشية على تلك النظم.
إلى جانب ذلك فهناك من سنة 1974 ترتيبات على الأرض فى «سيناء» تجعلها معرضة للانكشاف، خصوصا أن التواجد العسكرى فيها محدود، والحركة نحوها مقيدة.
من المفارقات أن «آخر الحروب» تنطبق على مصر، وليس على إسرائيل، فمنذ حكاية «آخر الحروب» شنت إسرائيل حروبا على «لبنان»، وعلى «غزة»، وهى تجهز نفسها الآن لحرب مع «إيران» بدأت مقدماتها الكترونيا باغتيال علماء المشروع النووى الإيرانى، وبما يجرى الآن فى الإقليم على طرق الاقتراب من «إيران»!! لأن إسرائيل يجب أن تحتفظ وحدها بالسلاح النووى تحتكره فى الإقليم وحدها!!
وأما بالنسبة لمصر فإنها لم تحارب، ففى أثناء اعتماد هذه السياسة عمليات عسكرية ضمن حرب الصحراء مع غزو «العراق» بعد احتلال «الكويت»، وشاركت فى الحرب حتى بعد خروج العراق من «الكويت»، ثم أُسندت إليها عمليات حفظ سلام فى بلدان مثل «البوسنة»، وبعض البلاد الأفريقية، وبصراحة مادمنا نتكلم بصراحة فإن هناك بلدانا متخصصة فى تقديم قوات لحفظ السلاح تحت علم الأمم المتحدة فى بعض مناطق الأزمات، ولكن ذلك مخصص لدول صغيرة مثل «تاهيتى» أو «هندوراس» أو «نيبال»، وهى تحترف تقريبا هذا النوع من المهام، أما القوات المسلحة المصرية فلديها مهام من نوع مختلف.
بلد مثل «سويسرا» يستطيع أن يقول إنه منصرف عن الحروب، لأنه بلد محايد، لكننا ننسى أن مصر ليست كذلك، ثم إن الحياد السويسرى كان مطلب كل جيران سويسرا لتكون منها أرضا مفتوحة بين المتحاربين فى أوروبا وغيرها إذا احتاجوا (!) ـ إلى لقاء أو اتصال تحت مظلة الصليب الأحمر مثلا، مع ملاحظة أن الجيش السويسرى من أقوى جيوش أوروبا، لأن الدولة السويسرية والشعب السويسرى يعرفون بجلاء لا يقبل العتمة أنه ما لم تتأهب الأمم للدفاع عن نفسها بشراسة، فإن حرمتها مستباحة!! ومصر قضية مختلفة ـ ومختلفة جدا.
أمريكا نفسها وهى الترسانة النووية العظمى فى العالم، لم تقل إن انتصارها المدوى فى الحرب العالمية الثانية هى «آخر الحروب»، حاربت بعد ذلك كثيرا، ربما زادتها فى ممارسة الحرب من كوريا إلى «ڤيتنام» إلى «العراق» إلى «أفغانستان»!!
على أية حال هنا بالضبط حدث ذلك الارتطام بالقدر، ونشأ سوء الفهم بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة وبين شباب الثورة، وعدد من القوى السياسية فى الوطن.
المجلس الأعلى للقوات المسلحة حين تسلم المسئولية دعى إلى مسئولية غريبة عنه، وإلى ميدان لم يكن مهيأ له، وإلى التعامل مع اطراف تباعدت صلته بهم، صحيح أن المجلس الأعلى جاء حاميا ودخل حاميا وأدى دوره حاميا، لكن العقدة أن دور الحامى لا يبرر ما تصوره البعض من أنه دور الحكم والحاكم!!
وبدأت من أول لحظة أسباب الخلاف!!
وفى كل الأحوال فهو خلاف لابد من حله، وحله بتصميم ووضوح، وبجسارة فى النوايا وفى التصرفات.
●●●
● لماذا كان الخلاف، وأين تكمن أسبابه فى رأيك، لاسيما ان القوات المسلحة كانت ترفض التوريث وتعتبره إهانة للعسكرية المصرية، وأن الثورة انفجرت لأسباب عدة، على رأسها تدشين مشروع التوريث؟!
- الأستاذ هيكل:
يوم 25 يناير كان الكل متفقا على مطلب واحد من مطالب الثورة، وهو مطلب منع التوريث وانتقال السلطة من أب لابنه فى مناخ مكفهر وعاصف.
لكن الطرق راحت تتباعد بعدها مباشرة.
والغريب أن الحوار الذى دار بين الطرفين جاء حوار طرفين لا يفهم كلاهما الآخر، لا يستوعب مقاصده، لأنه لا يفهم لغته.
فهدف الثورة لم يكن فقط منع التوريث، لكن المجلس الأعلى كان يتحرك فى هذه الحدود.
المجلس الأعلى للقوات المسلحة تصرف فى حدود الاستجابة لما قدر ورأى، وتصور بالفعل أنه فعل ما يستطيع، وهذا صحيح وهو موضع تقدير.
فهو ـ وفى حدود ما تصور ـ أسقط بالاستفتاء ست مواد من الدستور القديم كانت تمهِّد للتوريث، وكان الشعب ـ وفى طليعته الشباب ـ يقاومها بكل جهده وطاقته، وكانت تلك فى تقدير المجلس الأعلى للقوات المسلحة استجابة، لكنها كانت فى تقدير الشباب ـ خطوة أولى، خصوصا وأن الدستور القديم.. دستور 1970 جرى إسقاطه فى اليوم الثانى بإعلان دستورى مؤقت، وبدأ الكلام عن دستور جديد لابد من كتابته!!
ثم إن هذا الاستفتاء ربط مسار ما بعد الثورة فى حبل غليظ يجر إلى طريق شبه مغلق!!
وافترقت الطرق، وراحت تتباعد كل يوم.
من ناحية المجلس الأعلى، كان تساؤله ماذا يريدون، لقد حمينا خروجهم، ثم إننا منعنا التوريث.
ومن ناحية الشباب، فإن 25 يناير لم يكن فقط لمنع التوريث، وإنما كان طلب ثورة كاملة لمطلب الحرية والعدل والتقدم، أى مطلب تغيير شامل لأوضاع قائمة رغم سقوط التوريث، وسقوط رأس النظام ذاته.
وكان الشباب فى نظر المجلس الأعلى متزيدا فى طلباته.
وكان المجلس الأعلى فى نظر الشباب غير قادر على المهمة، وبذلك فإنه يتحول إلى عقبة!!
وفى الواقع فإن الحوار المطمئن بين الطرفين تعقد وتعثر.
ولم يكن الحوار بين الطرفين مجرد وقوع فى سوء فهم، وإنما كان وقوعا فيما هو أخطر، وكانت الحقائق الغاطسة فى الحالة المصرية موجودة حتى وإن لم تكن هذه الحقائق ظاهرة أمام الطرفين، فإن مفعول هذه الحقائق كان محسوسا فى الوعى العام دون تعبير واضح عنه.
وحدث أن كل طرف لم يحسن تقدير موقف الطرف الآخر.
فى خيال الشباب أنه حتى ولو لم يستطع المجلس أن يساعد على التغيير، فإنه لا يصح له اعتراض طريقه، وفى حالة أى خلاف فإن استفحاله دعوة إلى التجاوز، خصوصا وأنه بمنطق الشباب فإنه إذا لم تكن هناك حرب أو احتمال حرب أو مواجهة تهديد ـ إذن فمن أين العصمة؟!!، وعلى نحو ما فإن هذا التجاوز زاد أحيانا عن حده فى شعارات وحتى أناشيد متحدثة عن «حكم العسكر» وعن «الخروج الآمن للعسكر»، وبعض ذلك شرد عن القصد وابتعد عن العدل!!
ومن جانب المجلس الأعلى للقوات المسلحة فإن الحقائق تحكم ـ وهو يشعر بقيودها على حركته، وحتى إذا كان يتفهم، وحتى إذا كان يريد أن يتجاوب، فإن هناك محاذير، وهناك مخاطر!!
وكذلك ـ وفى ظروف معقدة ـ أصبح التفاهم بين الطرفين صعبا، ولم يكن يحله غير حوار صادق وعميق بين شركاء فى المقصد وفى المصير.
ودواعى الخلاف ظهرت مبكرا جدا، وعلى سبيل المثال فإننى أظن أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم يكن يفكر فى تقديم «مبارك» للمحاكمة، بل حدث عندما قمت بلفت النظر مرة إلى ما يجرى فى موقع «شرم الشيخ»، عندما كان «مبارك» يعيش فيها، وقد أقام فيها شهورا كما لو أن شيئا لم يحدث فى مصر ـ جرى أن أحد أعضاء المجلس العسكرى غضب علنا مما قلت، وحجته «أن الرئيس «مبارك» رجل عظَّمنا له (أدينا له التحية العسكرية) ثلاثين سنة»، ومثل هذه الحجة فى حد ذاتها نسيان لحقيقة أن الشعب المصرى ثار على هذا الرجل الذى عظموا له ثلاثين سنة، وأن هذا الشعب أسقط ذلك الرجل، وأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة تسلم مسئوليته، لأن جماهير الشعب المصرى بعد تجربة ثلاثة عقود ثارت على «مبارك» وأسقطت حكمه.
ثم إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بدا وكأنه لا يستجيب إلا تحت الضغط إلى درجة قبول الابتزاز، ثم تكون الاستجابة فى بعض الأحيان نوعا من العلاقات العامة فيه مرات من «الأبوية» أكثر ما فيه الثقة بين شركاء، وأعترف أننى شخصيا لم أفهم الإصرار على أن الاستجابة للمطالب لا تبدأ إلا فى مناسبات معينة، وتحسبا لمواقف بالذات يُراد تجاوزها، ولم أفهم سياسة تأجيل قضايا مُلحة مرة «لأنهم لا يريدون مشاكل»، ومرة أخرى بذريعة أن «هذه موضوعات تُترك للأوضاع الدائمة بعد المرحلة الانتقالية»!!.
تفاقمت الأمور عندما استجاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة لطلب محاكمة «مبارك»، لكن المحاكمة جرت بعيدا عن السياسة تماما، أو بعيدا عن التاريخ، كأننا أمام قضية اختلاس أو فشل، أو سرقة أسلاك كهرباء!!
وما يهمنى فى هذا الموضوع بالدرجة الأولى فى هذه الظروف المتأزمة التى نواجهها:
ـ أن الحوادث باعدت ما بين الشباب وبين القيادة العسكرية، فالشباب مطالب بالحرية، والقيادة مقيدة بالحقائق وأحيانا بالأوهام، من نوع أن هناك من أدى له التحية ثلاثين سنة، وفى ظروف ثورة مثل 25 يناير!!
ـ ثم إن تدافع الحوادث وتراكم سوء الفهم أحدث توترات فى العلاقة بين الطرفين الأكبر فى شراكة الثورة، والمشكلة أن هذا التوتر كارثى!!
فنحن أمام خلاف لا يصح لأحد أن ينتصر فيه، ولا لطرف أن ينكسر، إذا انكسر المجلس الأعلى فهذه كارثة وطنية، وإذا انكسر الشباب فهذه كارثة تاريخية ـ وكلاهما غير مسموح به، خصوصا فى هذه الظروف!!
والمجلس الأعلى للقوات المسلحة مثقل، فالقيود كلها عليه، والمحاذير كلها أمامه، وللأمانة فإن هذا المجلس العسكرى وجد نفسه فى موقف لم يكن من صنع أعضائه، ولا تم بحضورهم ورضاهم، وإنما هم وجدوه أمامهم أو وجدوا أنفسهم أمامه، ولعلهم أحسوا أنهم من ضحاياه، وليسوا شركاء فيه، فقد جرى ترتيبه مبكرا، وكان «مبارك» شريكا فيه، ثم جاءت رئاسته ثلاثين سنة تكريسا له، وهذا هو نفسه.. أكيدا ومؤكدا هو الارتطام بالقدر!!
أما الشباب فهو مظلوم، فالثورة فى طلب الحرية والعدل والتقدم مطلبه، وللشباب عنفوانه، لكنه وجد نفسه يصطدم بغيبة الحقائق.
وكذلك فإن كلا الطرفين ارتطم بالقدر!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى