ولادة قيصرية
بقلم: ماهر حمود
ما حدث في استاد بورسعيد هو مجزرة تشير الدلائل وشهود العيان ومقاطع الفيديو إلي أنها مدبرة بالفعل، غير أنه من الغباء أن نقف عند تلك الصورة المحدودة المرتبطة بانتقام الداخلية والعسكر من شباب الألتراس، ونغفل المشهد السياسي بمنظوره الأوسع. هنالك ثورة قامت، ونظام لم يسقط، وجيش عريض من القوي التي تدعي دعمها للثورة علنا وتعمل جاهدة علي إجهاضها سرا، وهو أمر منطقي، فخيارهم محصور بين التمسك بحصانة السلطة أو القبوع خلف قضبان طرة.
دعونا نستشهد بأحد دروس الثورة الرومانية التي فشلت. فعندما سقط نيكولاي تشاوشسكو وزوجته إيلينا بعد أن تم إعدامهما عام 1989. انتقلت السلطة فورا ليد إيون إليسكو، أحد حلفاء تشاوشسكو السابقين، والذي ادعي انتماءه ودعمه للثورة هو ومجموعة ضخمة من المتحولين الذين عملوا بشتي الطرق علي إجهاض الثورة الرومانية وحماية رؤوسهم من التطاير في حال سارت الأمور في مسارها الصحيح.
أيدوا الثورة جميعا واحتفلوا بها مع المحتفلين، وقاموا بتخوين كل من كان يمثل تهديدا لهم (الشباب والطلاب والمثقفون) واتهموهم بإحداث الفوضي الأمنية وتدمير الاقتصاد، ونجحوا بالفعل في إقناع الرأي العام بذلك. إما الأمن والاستقرار، وإما الفوضي، فما كان من جموع الشعب الساذج إلا أن تحول ضد شباب الثورة واستهدفهم اعتداء وقتلا، وأطلق عنان السلطة لمجموعة الفلول علي قمتها يفعلون ما يشاؤون، وقد نجحوا بالفعل.
الآن وبعد ثلاثة وعشرين عاما علي سقوط تشاوشسكو الطاغية، ماهو حال رومانيا؟ أسفا، أسوأ مما كانت! شعب مازال يرضخ تحت خط الفقر، ونظام يتنافس علي لقب الأفسد في العالم، ودولة تعد بين الأكثر طردا للسكان في أوروبا التي لا تخلو شوارعها من متسول روماني هنا أو هناك.
نحن أو الفوضي! هكذا تصلنا الرسالة في مصر اليوم. هكذا تفكر العقلية الأمنية المصرية «عسكر وداخلية وفلول». عقلية قمعية عتيقة تربت علي أيدي سفاحي السوفييت قديما، وفساد الأمريكان حديث في إدارتهم لدولة عجائز كاريكاتورية.
يستنسخون درسا تآمريا من هنا، وآخر من هناك بغية فرض السيطرة علي البلاد وتشبثا بالحصانة المدعومة بسلطتهم المتدلية بأقدامها فوق دابة القانون. ذلك القانون الذي لو طبق، لما وجدوا لهم مكانا سوي خلف نفس أسوار سجونهم. غير أنهم عبثا دائما ما يفقدون السياق.
فيبدو أن تلك العبقريات توقفت عقارب ساعاتها الثمينة عند عام 1989، حينما كان الفاكس رجزا من عمل الشيطان، ولم يكن للشعب الروماني آنذاك سوي مصدر حكومي واحد للمعلومات نجح في تضليل أمة بكاملها وقلبها علي ثورتها بسلاح رعب الفوضي والانهيار الاقتصادي.
لم يكن لهؤلاء المساكين رفاهية وجود التليفونات المحمولة ذات كاميرات الفيديو واليوتيوب والفيسبوك وتويتر، وكل ما يدعم مواقع التواصل الاجتماعي. وهنا لا يجب أن نتحدث فقط عن سرعة توصيل الفكرة وفضح المؤامرات الرخيصة والغبية، بل هناك عنصر هام وفاعل، ألا وهو التوثيق القانوني والتاريخي. ألا يسألون أنفسهم أين سيهربون من كل تلك الوثائق والقرائن المستحيلة الحجب؟
ربما ينقسم الشعب المصري إلي جمهور إلكتروني ذي درجة عالية من الاستقلالية وصاحب قرار في التفريق بين المصادر والانتقاء بينها، وآخر ليس بالقليل مازال يجعل من أذنيه مباول رحبة للإعلام الحكومي مطبوعا ومرئيا ومسموعا. غير أن الكذب دائما مبتور الأرجل، وما تم توثيقه من جرائم وادعاءات ومؤامرات بفضل تكنولوجيا اليوم، حتما سيؤدي لوضع أي من كان حيث يجب أن ينتهي مآله، مهما طال الزمن، ومهما تأخر التقاء جمهور الفضاء الإلكتروني بجمهور "المواطنين الشرفاء" عبيد الرعب الإعلامي. فهي فقط مسألة وقت، غير أن الفاتورة اصبحت عالية، دما ووقتا!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى