ابراهيم الهيضيبى
حسنا فعل عمر سليمان، نائب الرئيس المخلوع ومدير مخابراته، بترشحه للرئاسة بعد سنة وثلاثة أشهر من إزاحته عن مناصبه، فقد قطع الشك باليقين فيما يتعلق بموقف القائمين على الحكم من الثورة، وأعاد تقسيم المعسكرات لا بحسب الاتجاهات الأيديولوجية وإنما الموقف من الثورة وتحرير إرادة المصريين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينة.
فمشهد ترشح سليمان، الذى أظهر احتفاء الحكام به، ومعاملتهم إياه كمسئول تشترك الأجهزة العسكرية والشرطية فى تأمينه لا كممثل لنظام أفقر المصريين وأهانهم، هو النتيجة الطبيعية لسياسات العسكر الحاكمين، والتى تمثلت فى مسارين، أولهما فض عموم المواطنين عن الثورة بتحميلها مسئولية التراجع الاقتصادى والتسيب الأمنى، الذى يتحمل المجلس العسكرى فى الحقيقة مسئوليته بوصفه حاكما، وثانيهما المساهمة فى العودة التدريجية لرموز النظام القديم، بتجنيب أغلبهم المحاكمة الجنائية، وتعطيل قوانين العزل السياسى، وتصديرهم تدريجيا للمشهد بدءا بوزير خارجية مبارك مرورا برئيس وزرائه وانتهاء بنائبه.
وسليمان الذى ظل بعيدا عن المحاكمات رغم كثرة ما وجه إليه من اتهامات، وظل كذلك قريبا من دوائر صنع القرار رغم إزاحته عن منصبيه المخابراتى والرئاسى، لم يكن ليقدم على الترشح من غير وجود فرصة فى الفوز، وهى غير موجودة فى المناخ الديمقراطى، وإنما يرتبط وجودها بعدة أمور، أولها قدرته على استخدام أدوات المخابرات فى التأثير على سير العملية الانتخابية، وثانيها ما يجرى من استخدام بعض الإعلاميين والمنابر الإعلامية الخاضعة لسلطان الدولة للترويج له باعتباره الرجل القوى القادر على ضبط الأمن ومن ثم تحريك الاقتصاد وطمأنة القلقين من الصعود المرتبك للإسلاميين، وثالثها ارتباط نزاهة الانتخابات بالإرادة السياسية للعسكر لتعدد المداخل التى يمكن من خلالها التلاعب بها، ورابعها إحجام البعض عن فضح سليمان بنشر الوثائق الدالة على تورطه فى قضايا تعذيب بالوكالة، وفى عقاب الفلسطينيين لصالح إسرائيل، لاستمرار تمكن الخوف منهم والرهبة الموجودة عند عموم المصريين من جهاز المخابرات.
إلا أن القوى السياسية تتحمل هى الأخرى قسطا كبيرا من مسئولية هذا التراجع الثورى، وذلك بسبب استمرار الاستقطاب البينى، الذى قام على أسس خاطئة، وأعجزها عن العمل المشترك، وبسبب إصرار الأطراف الرئيسة على الانقسام حول قضايا أقل مركزية، واستعداد بعضها استدعاء العسكر للتدخل عند الخلاف مع القوى الأخرى، وعدم إدراك البعض الآخر لدقة الوضع واستلزامه تضافر الجهود من أجل استكمال معركة تحرير الإرادة واستعادة الكرامة.
وهذا الوضع الجديد الناتج عن ترشح سليمان وغيره من الفلول مع غياب ضمانات نزاهة الانتخابات يفرض على الأطراف السياسية إعادة حساباتها، إذ هو بمثابة تصريح بأن معركة الثورة الرئيسة لم تكتمل، وعليه فلا بد من الاتحاد لإنجاز القدر المشترك، وهو القضاء على إمكانية إعادة تصنيع نظام مبارك، وتأمين الانتخابات الرئاسية من التزوير، وهاتان نقطتان يمكن أن تتعاون فيهما حملات المرشحين الرئاسيين من غير الفلول.
كما أن ترشح سليمان يؤكد مركزية الانتخابات الرئاسية فى معركة الثورة، الأمر الذى يوجب إعادة تصنيف المرشحين لا بحسب اتجاهاتهم السياسية ومرجعياتهم الأيديولوجية والفكرية وإنما بحسب موقعهم من الثورة وتحرير إرادة المصريين، وهم بحسب هذا التقسيم ثلاثة أقسام، أولها أصحاب الرؤى الثورية، الذين لا تربطهم بنظام مبارك رابطة، ويرغبون فى قطع الصلة بالعهد الماضى، وإعادة هيكلة الدولة بما يضمن استعادة القرار السياسى لمجموع الجماعة الوطنية المصرية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحقيق الاستقلال الحقيقى عن الخارج بالمعنى السياسى والاقتصادى والثقافى.
ثانى الأقسام القوى الإصلاحية، وهم أصحاب الصلات بنظام مبارك، بوصفهم من معارضته التى اعتادت العمل فى ظل نظامه ومن أصحاب العلاقات بالدولة العميقة المتمثلة أساسا فى أجهزة الأمن، وهؤلاء يسعون لإدخال بعض الإصلاحات على النظام مع إبقاء جوهره كما هو، وأقصد بجوهره بنية الدولة المصرية، بمركزيتها القوى وهيمنتها الكاملة على المجتمع، والدور المهم للأجهزة الأمنية والإعلامية فيها، والنفوذ الخارجى ــ الجزئى على أقل تقدير ــ فى هذه المؤسسات.
وأما القسم ثالث فهم فلول نظام مبارك ودولته العميقة، المدافعون عن بقائها ووجودها، لا بنفس هيكلتها فحسب، وإنما بنفس استبدادها وتوجهاتها السياسية المتحالفة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، والمنعزلة عن محيطها العربى والإسلامى، ورغم اشتراك هذا القسم مع الثانى فى تحجيم سيادة الشعب وهيمنة مؤسسات الدولة عليه وتأثرها بالخارج، فإنهما متمايزان من حيث الفروع، كنظافة يد الأفراد، والمضمون الذى يبث من خلال الدولة، والسياسيات التى تعتمدها، وبعض العلاقات الدولية بما لا يغير الأسس التى تقوم عليها، أى أن دولة كامب ديفيد باقية مع المعسكرين الثانى والثالث بدرجات متفاوتة، كما أن القسمين متمايزان من حيث استعداد الثانى لقبول لاستكمال تحرير الوطن لو بادر غيره بذلك، فيما الثالث له وجهة مضادة.
والموقف من الثورة وتحرير الإرادة المصريين ينبغى أن يقدم على الاعتبارات الأخرى عند اختيار الرئيس، إذ لا معنى لجعل معيار الاختيار الهوية أو الاتجاه السياسى، وصرف الجدل إلى تعريف علاقة المؤسسات الدينية بالسياسية، وتنظيم العلاقات بين مؤسسات الدولة، إذا لم تكن هذه الدولة محل النظر حرة، ولم يكن للمواطنين فيها السيادة الكاملة على القرار السياسى، بأن كان هذا القرار صادرا بطريقة لا تعبر عن عموم الموطنين وإنما عن مصالح ورغبات هيئات نظامية غير منتخبة، أو كان معبرا عن مصالح وإرادة أطراف خارجية لم تنجح الثورة بعد فى إقصائها على دوائر صنع القرار، بل أظهرت بعض القوى قبولا متزايدا لتواجدها خلال الأشهر الماضية.
واختيار الرئيس على هذا الأساس، مع توكيد كافة الأطراف على إيمانها بالعملية الديمقراطية ــ الأغلبية بإظهار قدر أكبر من المرونة وصناعة صياغات عريضة للمعادلات السياسية، والأقلية بسعيها تحسين أوضاعها السياسية من داخل الإطار الديمقراطى لا باستدعاء أطراف من خارجه ــ كفيل بإقصاء فلول مبارك بالكامل عن العملية السياسية، إذ سليمان اليوم هو أضعف ولا شك منه وقت كان نائبا لرئيس الجمهورية، ولم تعصمه هذه القوة وقتئذ من الخلع ونسف سيناريو تفويضه بالسلطات، ولم يقو الفلول إلا بانقسام الشارع المصرى.
لا يمكن أن يُطلب من القوى الوطنية عدم الاختلاف، فهو واجب فضلا عن كونه ــ فى كثير من الأحيان ــ محمودا، ولا يمكن كذلك أن يُطلب منها التوافق التام، فهو يفترض وحدة النسيج الوطنى لا مجرد تماسكه، غير أن المطلوب هو تأجيل هذه الخلافات والصراعات، لأنها مسبوقة فى الأولوية كون المعركة التى فرضها ترشح الفلول ــ سليمان وغيره ــ للرئاسة هى معركة تحرير الإرادة، الاختيار فيها بين الحرية والعبودية، وبين الحق فى الاختيار وعدمه، وتحرير إرادة المصريين من أسر المؤسسات ينبغى أن يسبق تحديد اختيارات هذه الإرادة الجمعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى