-1-
سأروى هذه القصة حتى أضع النقاط على الحروف بشأن بعض من اختارهم الرئيس محمد مرسى ضمن فريقه الرئاسى، وعلى رأسهم نائبه المستشار محمود مكى ومستشاره القانونى المستشار محمد فؤاد جاد الله ودورهما فى صناعة البيان الأول لثورة 25 يناير وتقديمه لوسائل الإعلام العالمية.
بدأت فكرة البيان الأول للثورة تراودنى كما كانت تراود غيرى قبل أسبوع تقريبا من إجبار الرئيس المخلوع حسنى مبارك على التخلى عن السلطة فى الحادى عشر من فبراير من العام 2011، وتحديدا بعد موقعة الجمل التى نفذتها فلول الحزب الوطنى والرئيس المخلوع تحت رعاية رئيس الحكومة آنذاك أحمد شفيق فى 2 فبراير 2011، فمن دراستى للتاريخ العربى الحديث وسلسلة الانقلابات العسكرية التى بدأت بانقلاب حسنى الزعيم فى سوريا عام 1949 وما بعدها من انقلابات فى العالم العربى كان البيان الأول يلعب دورا أساسيا فى تحديد مسار هذه الانقلابات من خلال الإعلان عن الأهداف والمطالب ونهاية نظام وولادة نظام جديد،
كما كان يعطى دعما معنويا وسياسيا قويا للقائمين به ومؤيديهم، فما بالك وهذا ليس انقلابا عسكريا وإنما ثورة شعب أثبتت من أول يوم أنها من أعظم الثورات الشعبية التى قامت فى التاريخ الحديث؟ ومن ثم يجب على القائمين بها، وهم جموع الشعب المصرى، أن يجدوا من يعبر عنهم وعن مطالبهم وأهدافهم عبر بيان واضح يعلنون من خلاله مطالبهم وأهدافهم القريبة والبعيدة ليعلم بها الشعب، ويدرك العالم الذى يراقبها أنها ثورة نظيفة لها مطالب محددة ترمى إلى تحرير الإنسان المصرى من ربقة الفساد والاستبداد.
حينما تبلورت الفكرة فى ذهنى عرضتها على بعض الناشطين فى ميدان التحرير فلم يتحمسوا لها فى البداية؛ فقد كانت الأوضاع صعبة بعد موقعة الجمل، لكن بعد المظاهرات الصاخبة التى وقعت يوم الجمعة 4 فبراير ثم التى عمت كل أنحاء مصر ووصل عدد المشاركين فيها إلى ما يقرب من ثمانية عشر مليون مصرى والتى وقعت يوم الثلاثاء 8 فبراير 2011 أدركت أن كتابة البيان الأول للثورة أمر لا بد أن يتم الآن دون تأخير، وقد كان من أكبر مميزات هذه الثورة أنها لم يكن لها رأس وكانت كل إنجازاتها إفرازا للعقل الجمعى المصرى وليس لأحد أن يدعى أنه قائدها أو محركها.
أذكر أنى كنت مع بعض من تعرفت عليهم فى الميدان مثل الدكتور محمد فؤاد جاد الله، نائب رئيس مجلس الدولة آنذاك والمستشار القانونى الحالى لرئيس الجمهورية ورفيقى بعد ذلك فى كتابة بيانات الثورة وتأسيس اللجنة التنسيقية لجماهير الثورة التى قادت التنسيق بين القوى الثورية ونظمت المليونيات الرئيسية وعلى رأسها مليونية النصر فى 18 فبراير وهذا سر أكشفه للمرة الأولى: كنا نعمل مع آخرين من الشخصيات العامة التى كانت تجتمع فى شركة سفير للسياحة خلف المنصة الرئيسية فى الميدان ونشكل خلية تفكير ضيقة مثل غيرنا، كنا ندرس الفكرة ثم ندحرجها فى الميدان فيتلقفها الشباب وتتحول إلى خبر مهم فى وسائل الإعلام،
ومن أهم الأفكار التى دحرجناها فى الميدان ثم فى وسائل الإعلام فكرة حصار مبنى مجلس الوزراء ومنع أحمد شفيق من دخوله يوم الثلاثاء 8 فبراير 2011، وقد كانت الفكرة فى البداية من أحد شباب الميدان وكانت بغرض حصار مجلس الشعب وليس مجلس الوزراء بعدما قامت قوات الجيش التى كانت تحمى وزارة الداخلية بمنع الشباب من المرور فى شارع الفلكى، فاقترح أحد الشباب التحرك وحصار مجلس الشعب فى ظل عدم وجود قوات للجيش هناك،
ولأن مجلس الشعب مواجه لمجلس الوزراء فقد كان الأمر يعنى محاصرة مجلس الوزراء أيضا، وحينما احتشد الشباب أمام مجلس الشعب ومجلس الوزراء تصادف أن كان رئيس وزراء المخلوع أحمد شفيق فى طريقه لحضور اجتماع مع بعض وزرائه فى المجلس حينما منعه الشباب المعتصمون من الدخول فتمت دحرجة الخبر وأصبح هو الخبر الأول فى جميع وسائل الإعلام ونشرات الأخبار العربية والعالمية واضطر شفيق إلى نقل اجتماعاته إلى مقر وزارة الطيران فى مصر الجديدة وربما لم يعد لمجلس الوزراء بعد ذلك حتى أطيح به..
-2-
من الأفكار الأخرى التى دحرجناها فى ميدان التحرير فكرة حصار مبنى الإذاعة والتليفزيون وقد جاءت الفكرة فى أعقاب نجاح فكرة حصار مجلس الوزراء ومنع رئيس وزراء المخلوع أحمد شفيق من الدخول، وقد نفذت الفكرة ليلة الجمعة 11 فبراير بعد خطاب مبارك الأخير الذى لاقى اعتراضات هائلة فى الميدان ورغم أنى لم أكن أظهر على الإطلاق قبل هذا اليوم على المنصة الرئيسية فى ميدان التحرير وإنما كنت دائماً خلفها حيث أجيد التخفى طوال أيام الثورة حتى إن بعض زملائى لم يكونوا يتعرفون علىّ ومنهم أسعد طه الذى فاجأته يوماً فى الميدان وأخذته على حين غرة وأنا متخفٍّ وقلت له كما يقول ضباط أمن الدولة «فين بطاقتك يا أستاذ» ارتبك لكنى كشفت له وجهى وضحكنا،
كنت أتخفى لأسباب كثيرة أهمها أنى أفضل العمل وراء الكواليس فيما يحب الناس الظهور فيه، يكفى أنى ظاهر دائما أمام الناس من خلال شاشة التليفزيون، وأذكر أن المستشار محمود الخضيرى كان الأكثر دهشة حينما كان يرانى كل مرة متخفياً بشكل مختلف فيضحك من قلبه ويقول لى «والله ما عرفتك»، إلا أنه مع حالة اليأس التى كانت تتسرب للميدان فى بعض الأحيان دفعنى الشباب دفعاً لأتحدث إلى الناس وقالوا لى إن الناس بحاجة إلى رموز يحبونها تبعث فيهم الحماسة، هنا رضخت وكشفت عن رأسى ووجهى للمرة الأولى وتحدثت إلى الناس وقدت الهتافات من على المنصة الرئيسية مساء الأربعاء 9 فبراير، واشتعل الميدان خلفى بالهتافات التى كانت تنم عن الحب والاحترام لى ولقناة الجزيرة رغم أنى كنت أشارك هنا كمواطن مصرى وليس كإعلامى فى الجزيرة، وأذكر من الهتافات القوية التى رجت الميدان «الجزيرة.. . الحقيقة»، وكان هذا حجة لشباب المنصة بعد ذلك أنه كلما هدأ الميدان نادونى وقالوا «أشعل لنا الميدان بالهتافات يا أحمد» حتى ذهب صوتى، وحينما ظهرت على شاشة الجزيرة للمرة الأولى بعد نجاح الثورة يوم السبت الثانى عشر من فبراير كان صوتى شبه مفقود.
بعد محاصرة مجلس الوزراء ونجاح الخبر وانتشاره عالمياً وكان له تأثيره السلبى على شفيق وحكومته، تحدثنا كإحدى خلايا التفكير للعقل الجمعى المصرى فى ميدان التحرير وقلنا يجب أن نصنع كل يوم خبراً جديداً يكون هو الخبر الرئيسى فى وكالات الأنباء ومحطات التلفزة العالمية، فالمليونيات لم تعد خبراً جاذباً بعد تكرارها وبلوغها ذروتها فى مليونية 8 فبراير وإنما لا بد من ابتكار أفكار تجبر وسائل الإعلام على أن تضعها دائماً خبراً رئيسياً وجديداً، واقترحت عليهم أن نضع فى خطتنا كل يوم مكاناً قريباً من الميدان نحاصره حتى لا تتفتت قوة التجمع وحتى يمكن الإمداد اللوجستى بالطعام والبطاطين، ومن بين الأماكن التى حددناها مبنى الإذاعة والتليفزيون ودار القضاء العالى،
واستبعدنا القصر الجمهورى بسبب البعد والحرس، لكن بعد خطاب الخميس من مبارك وتحت ضغط الشباب هتفت فى الناس مساء الخميس 10 فبراير من على المنصة الرئيسية بعد خطاب مبارك مباشرة قائلا «على القصر الجمهورى» فانطلق الناس إلى القصر الجمهورى بل كان بعضهم قد انطلق بعد الخطاب مباشرة دون توجيه من أحد، من ثم فإن الأفكار لا تتحول إلى حقائق فى كثير من الأحيان إلا فى ظل اكتمال ظروف وعوامل كثيرة، حينها لا يكون الداعى بحاجة إلى جهد حتى يستجيب الناس، بل فقط إلى نداء، وهكذا كانت الثورة كلها فقد كان الشعب المصرى مهيأ وبحاجة فقط إلى النداء.
كانت ولادة هذه الأفكار نتاج تفكير جمعى، بمعنى أن ما كنت أفكر فيه كان عشرات وربما آلاف آخرون من المصريين يفكرون فيه مثلى، ولم نكن نحن كمفكرين وإعلاميين وقانونيين إلا معبرين عما يجول فى نفوس الشعب، لذا من الصعب أن يعلن أحد أن أى فكرة حتى التى يطرحها هو للمرة الأولى كانت فكرته هو، وإنما كنا جميعا نتحرك ضمن منظومة العقل الجمعى المبدع للشعب المصرى، حيث كان هذا أحد إبداعات حضارته على مر الزمان ومن هنا أيضاً جاءت فكرة البيان الأول للثورة،
-3-
التقيت عصر الأربعاء 9 فبراير 2011 مع الدكتور مرسى منصور والدكتور عصام النظامى والزميل داوود حسن خلف المنصة الرئيسية فى ميدان التحرير وقررنا الذهاب لمطعم «فلفلة» القريب من الميدان لنأكل أو نشرب شيئاً ونتحاور بهدوء حول فكرة جديدة بعيداً عن صخب الميدان.
بعد قليل غادر داوود بعد اتصال وبقيت مع د.عصام النظامى ود.مرسى منصور، وطرحت عليهما فكرة البيان الأول للثورة فرحّبا بها وأخرج الدكتور مرسى أوراقاً من حقيبته التى كانت تلازمه، وقال: حتى نكون عمليين.. ليكتب كل منا تصوره للبيان الأول للثورة ونخرج ببيان موحد تعرضه أنت على القوى السياسية فى الميدان حيث يثقون بك ويحترمونك، بعدما أنهيت كتابة المسودة أخذها الدكتور مرسى ولما قرأها بصوت عال حتى يسمع الدكتور عصام، أبدى كل منهما إعجابه بها، وقال الدكتور مرسى: هذا البيان يغنى عما كتبته، فقد حوى كل ما يريده الشعب من مطالب، كما أنه بصياغته الأدبية القوية ذكرنى ببيانات الثورات والانقلابات العسكرية، ضحكنا
ثم قلت لهم: لا بد أن نذهب حتى نعرضه على ممثلى القوى السياسية ونحاول أن نصدره اليوم إن استطعنا، تحركنا قبيل المغرب بقليل عائدين للميدان، كان البيان به ديباجة ومطالب مباشرة وقصيرة هى أهم ما يطالب به الشعب من إسقاط للرئيس مبارك ونائبه وحكومة أحمد شفيق وتشكيل مجلس رئاسى مؤقت وإلغاء الدستور وحل مجلسى الشعب والشورى وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، إلى غير ذلك من المطالب التى يطالب بها الشعب والمعتصمون فى ميدان التحرير،
عدنا للميدان حتى نعرض الفكرة والبيان على القوى السياسية الرئيسية.. عرضت البيان على الدكتور عبدالجليل مصطفى رئيس الجمعية الوطنية للتغيير والدكتور محمد البلتاجى من الإخوان المسلمين والمستشار محمود الخضيرى نائب رئيس محكمة النقض السابق والزميل محسن راضى والدكتور خالد عبدالقادر عودة العالم الجيولوجى المعروف وابن الشهيد الفقيه القانونى الدكتور عبدالقادر عودة الذى أعدمه عبدالناصر عام 1954 بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين كما عرضته على الدكتور صفوت حجازى وكثير غيرهم،
فوجدت تجاوباً كبيراً وترحيباً واسعاً من الجميع لم أجده من قبل، مع تعديلات كان يطلبها هذا أو يضيفها ذاك، وكان واضحاً أنى عرضت البيان فى لحظة تاريخية ونفسية كان ينتظرها الجميع، لكن المشكلة أن البيان كان بخط يدى وبه بعض التعديلات والإضافات وكان لا بد من طباعته على جهاز كمبيوتر بشكل واضح حتى نعلنه ونوزعه على الصحفيين ووكالات الأنباء،
أخذت أبحث عمن يطبع البيان وكان حولى بعض الشباب المتحمسين وبعض العناصر الفاعلة فى الميدان فقال لى عبدالجليل الشرنوبى مسئول موقع «إخوان أون لاين» آنذاك، أنا أستطيع أن أطبعه وأعود لكم به خلال وقت قصير.. بحثنا عن مكان أراجع فيه المسودة مع التعديلات مع عبدالجليل فلم أجد فراجعناها فى حضور جمع من الناس فى الممر خلف المنصة،
وذهب عبدالجليل الشرنوبى بمسودة البيان الأول التى كتبتها واعتمدتها من رموز القوى السياسية يوم الأربعاء 9 فبراير لكنه لم يعد ولم أره حتى كتابتى هذه السطور ولا أعرف مصير هذه المسودة حتى الآن، وقفت أنتظره وأبحث عنه حتى منتصف الليل لكنى لم أعثر عليه،
وشعرت بشىء من الإحباط فى نفسى، فقد كان أملى أن يقرأ البيان على وسائل الإعلام وعلى الشعب المعتصم فى الميدان فى تلك الليلة حتى نرفع المعنويات، ويعرف مبارك ونظامه أنه انتهى وأن البيان الأول للثورة قد صدر، وأن نصنع خبراً جديداً تتناوله وكالات الأنباء ووسائل الإعلام وفق الخطة الجديدة التى وضعناها أن نصنع كل يوم خبراً جديداً،
قلت فى نفسى وأنا أهم بمغادرة الميدان فى تلك الليلة، سأعيد كتابة البيان مرة أخرى حينما أعود لبيتى، وأحضره صباح الخميس 10 فبراير، لكنى حينما عدت وجلست لأكتب لم أجد الدفقة العاطفية والروح الوثابة التى كتبت بها المسودة الأولى فى مطعم «فلفلة» كما كنت مرهقاً إلى حد بعيد، فقلت لأبحث عن عبدالجليل فى الصباح ربما يعود بالبيان مكتوباً..
-4-
لم أكن أنام فى الميدان وإنما كنت أغادره إلى بيتى كل يوم عند منتصف الليل أو قبل ذلك أو بعده حسبما أشعر بالتعب أو الأرهاق أو ابنتى ندى التى كانت ترافقنى أحيانا وتلح على فى العودة لأننا كنا نبقى يومنا فى الميدان دون طعام إلا بعض التمر، ولم أكن أعبأ على الإطلاق بحظر التجول رغم أن بيتى كان يبعد عن الميدان مسافة بعيدة لم أكن أصادف خلالها أية دوريات عسكرية إلا واحدة فى مدخل القاهرة الجديدة حيث أقيم، وعادة ما كان قائد الدورية وكان برتبة رائد من القوات الخاصة ينتظرنى كل يوم حتى يناقشنى فيما يدور فى الميدان، وبظرافة المصريين وطيبتهم كان يرد على حماستى فى النقاش بقوله: « هتودوا البلد فى داهية يا أستاذ أحمد» ثم يودعنى بقلب متعاطف فى نهاية النقاش «ربنا يوفقكم».
عدت صباح الخميس 10 فبراير إلى ميدان التحرير على أمل أن أجد عبدالجليل الشرنوبى أو تعود لى دفقة الكتابة والروح الوثابة التى كتبت بها البيان الأول لكنى لم أجده ولم أكتب وغرقت فى دوامة العمل اليومى ونقاشات وإشكالات الميدان.
جاء يوم الجمعة 11 أبريل وهو اليوم الحاسم فى تاريخ مصر، صباح هذا اليوم التقيت مع الدكتور محمد فؤاد جاد الله نائب رئيس مجلس الدولة فى نفس المكان الذى كنا نلتقى فيه كل يوم خلف المنصة فى شركة سفير للسياحة التى تركها صاحبها لقيادات الثورة طوال أيامها وهذا موقف مشرف لصاحب هذه الشركة الذى لم يذكره أحد كثيرا، قررت أن أفاتحه فى فكرة كتابة البيان الأول للثورة، وقلت له لقد كتبت يوم الأربعاء صيغة للبيان الأول للثورة وعرضتها على معظم الموجودين ووافقوا عليها لكن شخصا أخذها للطباعة ولم يعد، فقال لى الدكتور جاد الله مندهشا: والله لقد راودتنى الفكرة أنا أيضا وكتبت مسودة أيضا للبيان يوم الثلاثاء 8 فبراير لكنى لم أعرف على من أعرضها وفكرت أن أفاتحك فى الأمر لأنك أقرب الناس لى فى الميدان لكنى خشيت ألا تجد القبول عندك، قلت له هل من المعقول أن كلا منا يفكر فى نفس الشىء فى نفس الوقت ويكتب كلا منا الفكرة؟، قلت له: أين ما كتبته قال: ها هو فى جيبى، حينما قرأته قلت: يا إلهى.. إنه لا يختلف كثيرا عما كتبته يوم الأربعاء، إنها إبداعات العقل الجمعى المصرى، لكن ديباجة ما كتبه الدكتور جاد الله كانت طويلة جدا مثل مقدمات الأحكام التى يكتبها القضاة فقمت باختصارها وأخذت منها فقرة ظلت هى التى تزين كافة بيانات «اللجنة التنسيقية لجماهير الثورة» التى أسستها مع الدكتور جاد الله بعد ذلك وكان نص هذه الفقرة التى تدمع عيناى كلما كتبتها أو قرأتها هو: « نحن جماهير الشعب المصرى صاحب السيادة الوحيد على أرضه ومصيره ومقدراته ومصدر كافة السلطات فى هذا البلد الذى استردها باندلاع ثورة 25 يناير الشعبية السلمية.. ».
أعجبتنى صياغة البيان التى تطابقت مع ما كتبته من حيث المطالب والأهداف لأنها فى النهاية كانت مطالب الشعب والثوار لكنى أدخلت عليها بعض التعديلات بقلمى واختصرت معظم الديباجة حيث أميل دائما للاختصار والمباشرة والحدة والبلاغة اللغوية الجامعة فى كتابة البيانات، وقد أبلغنى الدكتور جاد الله بعد ذلك أن المسودة بتعديلات خط يده ما زالت عنده وقد حصلت على صورة منها بالفعل، أما فكرة كتابته مسودة البيان الأول فقد جاءته كما أخبرنى وهو يجلس على منصة القضاء يوم جلسة الدائرة الأولى بمجلس الدولة وهو أحد قضاتها يوم الثلاثاء 8 فبراير 2011 وكتبها بالقلم الرصاص الذى عادة ما يستخدمه القضاة، وكان يجلس إلى جواره زميله المستشار سامى درويش نائب رئيس مجلس الدولة وأنه أطلعه على المسودة بعد كتابتها لكنها ظلت حبيسة فى جيبه لا يعرف مع من يتكلم فيها حتى تشجع وتحدث معى حينما فاتحته فى الأمر حول ضرورة إصدار البيان الأول صباح الجمعة 11 فبراير، وهذا يؤكد ما قلته وأكرره عن العقل الجمعى المصرى الذى أبدع كل مراحل هذه الثورة، ونكمل غدا.
-5-
طلبت من جميع الحضور فى مكتب شركة سفير للسياحة، وكانوا يمثلون أغلبية القوى الوطنية وشباب الثورة، أن ينصتوا لأمر مهم، وكان الجميع من فضل الله يحترموننى ويحترمون ما أطرحه من أفكار وآراء، فأخبرتهم بفكرة البيان الأول للثورة وذكرتهم بأنى سبق أن عرضت البيان عليهم يوم الأربعاء، ومنهم محسن راضى والدكتور عبدالجليل مصطفى والدكتور محمد البلتاجى وكثير من الشخصيات المستقلة وحتى الحزبية، وقلت لهم لقد تأخرنا ومعادلة الوقت مهمة فى الثورات لا بد من إصدار البيان الأول للثورة اليوم حتى يعلن الشعب نجاح الثورة ونهاية النظام ولا بد من إعلان أهداف ومبادئ ومطالب الثورة فى هذا البيان وأخبرتهم أن هناك مسودة أعدها الدكتور جاد الله لا تختلف عما أعددته من قبل لكن من الأفضل أن نختار لجنة لصياغة البيان من الحضور يكونون جميعا من المستقلين وما تقرره اللجنة من صياغة نصوت عليه ثم نصدره باسم جماهير الثورة المصرية، لاقى العرض قبولا من الجميع، وأود أن أذكر هنا الدور الذى لعبه معى الزميل محسن راضى الذى ساعد على أن تكون اللجنة من المستقلين، حيث كان البعض يميل إلى إدخال شخصيات حزبية فى اللجنة لكننا رفضنا رفضا قاطعا، وتم الاتفاق على تشكيل اللجنة من سبعة أعضاء برئاسة المستشار محمود الخضيرى، نائب رئيس محكمة النقض السابق، وعضوية المستشار محمد فؤاد جاد الله، نائب رئيس مجلس الدولة، المستشار القانونى الحالى لرئيس الجمهورية، وأحمد نجيب، من شباب الثورة، والدكتور هانى حنا، الأستاذ بمعهد الدراسات القبطية، والدكتور جمال زهران، أستاذ العلوم السياسية، والزميل حسين عبدالغنى وأحمد منصور، وشاب قبطى وأكاديمى، وكان هذا تقريبا نسيج الميدان.
لم يكن هناك مكان نجلس فيه، فالمكتب كان ممتلئا بالناس بعضهم جاء ليستريح أو يشاهد البث الفضائى، وكان الأمر بحاجة إلى الحزم حتى ننجز البيان فى أقرب وقت ولأنى دائما أتصدر لما فيه حزم ومواجهة قمت بقطع البث الفضائى وطلبت من جميع من ليس له دور أن يخرج من مقر الشركة، وكان على رأسهم حازم صلاح أبوإسماعيل، وكنت لا أعرفه آنذاك، ورغم أن أسلوبى الحازم أغضب البعض فإن الجميع تقبله، طلبت أيضا من أحد الشباب أن يغلق الباب وألا يسمح لأحد بالدخول، كما طالبت الجميع بعدم التصوير، رغم أن هذا يخالف عملى كإعلامى، فقد كنت دائما أخشى على الناس وأراعى المصلحة العامة، وحتى الآن ألوم نفسى أنى حرمت كثيرا من المصورين من تسجيل هذه اللحظة التاريخية، لكن البعض قام بالتصوير بأجهزة الهاتف النقال، جلسنا فى جانب من مكتب شركة السياحة وكنا كمن نجلس فى الشارع، فالمكان رغم كل ما فعلته كان ممتلئا بالحضور والنقاشات والحوارات المختلفة والمتطفلين وعملاء النظام، ووسط هذا الجو كنا نعمل وبعد ما يقرب من ساعة من النقاش والصياغات والمسودات ومراجعة دقة الألفاظ وقانونيتها واختصارها وحدتها لخصنا كل المطالب وانتهينا من المسودة النهائية للبيان وبدأ حسين عبدالغنى يبيض النسخة الأخيرة بخط يده، ما زالت عندى، وأعتقد أن حسين يمكن أن يدفع الكثير حتى يحصل عليها ويورثها لأبنائه وأحفاده، وكان يقوم الدكتور محمد فؤاد جاد الله بمراجعتها ثم يعطيها لى فأقوم بمراجعتها ثم قراءتها على رئيس اللجنة المستشار محمود الخضيرى وبقية الأعضاء حتى يبدوا ملاحظاتهم، ثم أقوم بإملائها بعد اعتماد كافة أعضاء اللجنة لها على شاب كان يكتبها على جهاز الكمبيوتر، وقد بقيت سبعة أشهر أبحث عن هذا الشاب حتى عرفت أن اسمه محمد رفاعى المراغى وهو مهندس من حى بولاق الدكرور وكان ضمن الفريق المتطوع الذى كان يساعد الزملاء فى قناة الجزيرة، الذين كانوا يقومون بتغطية الأحداث من ميدان التحرير رغم الإغلاق الرسمى للمكتب، وقد التقيت مع محمد رفاعى المراغى فى صلاة عيد الفطر فى ميدان التحرير يوم الثلاثاء 30 أغسطس 2011 وقد دلنى عليه الزميل سيد حافظ، أحد المسئولين عن الإذاعة خلال أيام الثورة، وقد سعدت كثيرا بهذا لأن محمد المراغى أضاف لى بعض المعلومات التى كنت أبحث عنها لاستكمال قصة البيان.
-6-
انتهينا من كتابة البيان الأول للثورة المصرية فى حدود الساعة الثانية والنصف أو الثالثة بعد ظهر الجمعة 11 فبراير 2011، ثم طلبت من كل من فى القاعة أن يصمتوا حتى أتلو عليهم البيان بصيغته النهائية، وبالفعل بدأت بتلاوة البيان بصوت مرتفع وأداء ثورى من جهاز الكمبيوتر المحمول مباشرة حتى نأخذ الموافقة النهائية عليه من الحضور فى القاعة وكانوا أكثر من أربعين شخصا يمثلون معظم القوى السياسية وشباب الميدان حتى نبدأ فى بثه وتوزيعه على وكالات الأنباء وتلاوته كذلك على المنصة الرئيسية أمام ما يقرب من مليونى متظاهر كانوا يوجدون فى ميدان التحرير فى هذا اليوم، وكانت صيغة البيان التى اعتُمدت على النحو التالى:
بيان رقم 1
جماهير ثوره 25 يناير 2011
بسم الله الرحمن الرحيم
نحن جماهير شعب مصر صاحب السيادة على أرضه ومصيره ومقدراته التى استردها كاملة باندلاع ثورة 25 يناير الشعبية، المدنية، الديمقراطية وتضحيات شهدائها الأبرار، نعلن استمرار هذه الثورة السلمية حتى النصر وتحقيق قراراتها التالية كاملة:
أولا: عزل رئيس الجمهورية ونائبه والحكومة.
ثانيا: إلغاء حاله الطورائ فورا.
ثالثا: الإفراج الفورى عن جميع المعتقلين السياسيين.
رابعا: إلغاء الدستور الحالى وتعديلاته.
خامسا: حل مجلسى الشعب والشورى والمجالس المحلية.
سادسا: إنشاء مجلس حكم رئاسى انتقالى يضم خمسة أعضاء من بينهم شخصية عسكرية وأربعة رموز مدنية مشهود لهم بالوطنية ومتفق عليهم.. على ألا يحق لأى عضو منهم الترشح لأول انتخابات رئاسية مقبلة.
سابعا: تشكيل حكومة انتقالية تضم كفاءات وطنية مستقلة لا تضم تيارات سياسية أو حزبية تتولى إدارة شئون البلاد وتهيئ لإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة فى نهاية هذه الفترة الانتقالية فى مدة لا تزيد على 9 أشهر. ولا يجوز لأعضاء الحكومة الانتقالية الترشح لأول انتخابات رئاسية أو برلمانية.
ثامنا: تشكيل جمعية تأسيسية أصلية لوضع دستور ديمقراطى جديد يتوافق مع أعرق الدساتير الديمقراطية والمواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان ويستفتى عليه الشعب خلال ثلاثة أشهر من إعلان تشكيل الجمعية.
تاسعا: إطلاق حرية تكوين الأحزاب على أسس مدنية وديمقراطية وسلمية دون قيد أو شرط وبمجرد الإخطار.
عاشرا: إطلاق حرية الإعلام وتداول المعلومات.
حادى عشر: إطلاق حرية التنظيم النقابى وتكوين منظمات المجتمع المدنى.
ثانى عشر: إلغاء جميع المحاكم العسكرية والاستثنائية وكل الأحكام التى صدرت بحق مدنيين من خلال هذه المحاكم.
أخيرا: نهيب بجيش مصر الوطنى البار ابن هذا الشعب العظيم الذى صان دماء الشعب وحفظ أمن الوطن فى هذه الثورة العظيمة أن يعلن تبنيه الكامل لكل هذه القرارات ومطالب الثورة وانحيازه التام إلى الشعب.
جماهير ثورة 25 يناير.
ما إن انتهيت من قراءة البيان حتى ضجت القاعة بالتصفيق الحاد من الجميع، فأدركت أن هناك إجماعا على البيان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى