المرة الأولى التى ذهبت فيها إلى «مرور القاهرة» فى الدراسة كانت فى الأسبوع الماضى.. ذهبت أعترض على مخالفة حررت ضدى بسبب «تعمد السير عكس الاتجاه وتعطيل حركة المرور دون مقتضى»، وهى مخالفة يبرئنى منها سجلى فى إدارات المرور على مدى نحو 50 سنة، يكاد يكون خاليا إلاّ من مخالفات هينة فى الانتظار فى الممنوع أو مؤخرا فى استخدام التليفون يدويا أثناء القيادة.. قدمت تظلما لأدفع عن نفسى هذا السلوك الفوضوى، فحكمت نيابة المرور بتخفيض الغرامة.. لم أفهم منطق الحكم، فإما أننى ارتكبت المخالفة وعندئذ يجب دفع الغرامة المقررة كاملة، وإما أنها لم تقع فأعفى من سدادها تماما، أما الحكم على هذا النحو فهو أقرب إلى «الفصال» فى وكالة البلح.
دفعت المبلغ فى النهاية وأنا أعزى نفسى.. لو كانت هذه هى ضريبة عودة الشرطة إلى الشارع فعلىّ أن أسهم بنصيبى وأسدد الغرامة عن طيب خاطر.. الحق أننا يجب أن نعترف بأن الوزير جمال الدين، الذى كان أحد أركان شرطة العادلى، قام بدور ملحوظ فى استتباب الأمن.. ربما لا يستطيع أمثالنا من الكتاب الذين يعيشون عادة فى الأحياء فوق المتوسطة أن يحكموا بذلك على نحو دقيق، لكننى لاحظت ذلك من تجوالى فى مناطق عديدة فى القاهرة، واستطعت أن ألاحظه أيضا من برنامج فقير وممل فى التليفزيون المصرى عن الأمن.. شاهدت فى هذا البرنامج لقطات لحملة قادها الوزير نفسه على بحيرة المنزلة، التى يبدو أنها كانت أكبر أوكار الجريمة فى مصر.
هذا هو الملف الأبرز الذى يزهو به الرئيس بين الملفات الخمسة التى وعد الرئيس بإنجازها فى المائة يوم الأولى من حكمه، أما الملفات الأربعة الأخرى «المرور، الخبز، النظافة، الوقود» فلم يلمس الشعب نتائجها رغم الأرقام التى حشى بها الرئيس خطاب 6 أكتوبر فى الاستاد.. الخطأ هنا ليس من القائمين على حل هذه المشاكل بقدر ما هو خطأ الرئيس نفسه.. يقول أصدقاؤه إنه بالغ فى الطموح عندما كان يعرض برنامجه وهو مرشح للرئاسة، ويقول خصومه إنه بالغ فى الخداع.. رأيى أنه فى كل الأحوال لم يحسن التقدير.. لا هو ولا غيره يمكنه أن يعرف خبايا البلد إلاّ بتولى الحكم.. عندئذ فقط يمكن له أن يتبين إلى أى مدى اختل نظام الإدارة فى مصر بعد عقود من حكم الاستبداد والفساد، وإلى أى مدى نزفت موارد البلاد، وإلى أى مدى تدنى سلوك الشعب وأخلاقياته بعد معاناة قاسية من الظلم والفقر وانعدام الفرص فى السكن والوظيفة والعلاج والتعليم ولقمة العيش.
لعل الاحتجاجات والإضرابات والاعتصامات التى تجتاح شوارع مصر دليل ناطق على الخلل.. لكنها أيضا مع كل مبرراتها المقنعة مؤشر على أن الناس مثلهم مثل رئيسهم، بالغوا فى الطموحات دون أن يتبينوا الواقع.. نتذكر جميعا بعد تنحى مبارك بأيام عندما قدرت جريدة «جارديان» البريطانية ثروته بـ70 مليار دولار، وجلس الناس فى التحرير يحسبون نصيب الواحد منا إذا وزعت هذه الثروة نقدا على أفراد الشعب.. الصدمة جاءت لأن نجاحنا فى الإطاحة بأركان الحكم بثورة سلمية أذهلت العالم وفاجأتنا نحن الذين قمنا بها، فجر فى داخلنا آمالا وثقة سرعان ما تحطمتا على صخرة الواقع المر.
هكذا اندفعت كل فئات الشعب بلا استثناء إلى الشارع تطالب بحقوق افتقدتها على مدى أعوام طويلة ماضية..
تعاطفت قليلا عندما ذهبت إلى مرور الدراسة مع سائقى الميكروباص المتظاهرين هناك، احتجاجا على المخالفات، لكننى سرعان ما تذكرت سلوكياتهم فى القيادة وما يحكى عن تعاملهم الفظ مع الركاب.. بالعكس من ذلك تفهمت إضراب الأطباء، ليس فقط لأننى درست الطب عدة سنوات، لكن لأنهم بذلوا جهدا فى شرح أهدافهم للمواطنين.. مع هذا فأنا لست من مشجعى الإضراب عندما يمس المرافق العامة.. أعرف أن حق الإضراب مكفول بالقانون، وكذلك بالمواثيق الدولـية، لكنه مقيد فى العديد من الدول الديمقراطية إذا مس مصالح الجمهور العام.
لن تتوقف هذه الإضرابات عندنا إلاّ إذا بذلت الرئاسة، وليس الحكومة فقط، جهدا أكبر فى شرح الأوضاع بشفافية للشعب.. عندها فقط يمكن أن نقتنع وربما أن نصبر أيضا ولو لفترة.. ومع ذلك فلن يكون هذا وحده كافيا، إذ يجب أن يصاحبه شرطان: أولهما أن تطرح الحكومة خطة للعمل مصحوبة بجدول زمنى للتنفيذ على كل قطاع، ويجرى تفاوض جاد بشأنها مع العاملين، والثانى أن تتخذ الحكومة إجراءات أولية حاسمة، وربما صادمة أيضا، فى طريق الحل.
أعرف أن موارد البلاد شحيحة، لكننى بالرغم من تحفظى الجذرى على سياسات الإخوان المسلمين الاقتصادية الرأسمالية، التى لا أعتقد أنها ستؤدى فى النهاية إلى عدالة اجتماعية حقيقية، لابد أن أعترف بأن الرئيس يقوم بجهد ملحوظ لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية، وإن كنا لم نر نتائجه بعد سوى فى وعود معلنة بمليارات الدولارات.. ربما كانت النتيجة الوحيدة سلبية: أننا على وشك أن نفقد 450 مليون دولار من المعونة الأمريكية بسبب حرق علم السفارة فى المظاهرات الأخيرة.
سواء كان إيقاف المعونة شيئاً إيجابياً - كما أعتقد - أم لا، فهو فى كل الأحوال يذكّرنا بضرورة الانتباه إلى الداخل قبل أن يهبط علينا المال من صندوق النقد أو من الدول الغربية والعربية.. فى الداخل لا يستطيع أحد أن ينكر أن الرئيس قام بضربة العمر التى أنهى بها حكم العسكر، لكنه من سوء حظه أن المشاكل الحياتية المتراكمة نفثت من الغبار ما أزاح هذه الضربة التى كان من المفترض أن تكون فاتحة نحو حكم ديمقراطى حقيقى، هو فى واقع الأمر الهدف الأساسى لثورة يناير.
يصعب على الكثيرين الثقة فى أن مرسى، سليل الإخوان المسلمين، سيكون حاكماً ديمقراطياً، ومع ذلك فإن شعبية الرئيس توهجت فى الاستاد، ويبدو أنها فى تصاعد مطرد وإن لم يكن هناك قياس موثوق للرأى العام يثبت ذلك، إلاّ أن هذه الشعبية تظل معلقة بمشروع الدستور الذى ستطرحه الجمعية التأسيسية للاستفتاء.. إذا عبّر هذا الدستور تعبيرا حقيقيا ومتوازنا عن الناس فسوف يساعد على خلق أجواء من الثقة تدفع بالكل: الرئاسة والحكومة والشعب، نحو اجتياز العقبات الداخلية واحدة بعد أخرى.. عندئذ فقط يمكن للناس أن تشارك الرئيس تفاؤله، وأن تنسى سقطة الأيام المائة، وأن توقن بأنها طموح زائد وليست خدعة ماكرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى