نحتاج إلى معجزة كي نتفاءل بالعام الجديد، لأن شواهد الحال تدل على أننا مقبلون على عام صعب وخطر، مصريا وعربيا.
(1)
الحالة المصرية تعد نموذجا اجتمعت فيه صعوبة الموقف مع خطورته. ولعل القصة التي نشرت يوم السبت الماضي (29/12) عن الأسرة التي تخلصت من رضيعها بسبب الفقر. تسلط الضوء على مدى عمق الأزمة في البلد. فقد نشرت صحيفة “المصري اليوم” يومذاك أن أبا وأما قررا التخلص من طفل أنجباه، اقتناعا منهما بأنهما لن يستطيعا إطعامه إلى جانب ابنة ولدت قبله، فذهبا به إلى إحدى دور الأيتام بحي مدينة نصر في أطراف القاهرة، ولكنه لم يقبل لأن الدار لا تستقبل أطفالا آباؤهم على قيد الحياة. فما كان منهما إلا أن وضعا الرضيع في لفافة أمام مدخل الدار، ثم أبلغا الشرطة بأن الطفل تم اختطافه.
“
لا نستطيع أن نغفل تأثير طبائع فترة الانتقال التي عادة ما تعقب الثورات، وتهتز فيها وترتبك كل أوضاع المجتمع، لكننا مع ذلك ندرك أن تلك الاهتزازات أصابت واقعا مختلا وموشكا على الانهيار
“
اكتشفت الشرطة الأمر، فقال الأب للضابط المختص إنه فضل أن يتربى ابنه في دار الأيتام لأنه سيجد طعاما وستوفر له التعليم والعلاج. في حين أنه لا يستطيع أن يوفر شيئا من ذلك لابنته. وقالت الأم وهي تبكي إنها فعلت ذلك لأنها لا تريد لابنها أن يعيش ذليلا ومعذبا.
إذا لاحظت أن ذلك حدث في مدينة القاهرة، فلك أن تتصور المدى الذي بلغه الفقر في أقاصي الصعيد مثلا، الذي تعيش فيه قرى بكاملها في أوضاع مماثلة لتلك التي دفعت الأب والأم لأن يفعلا ما فعلاه بحق ابنهما الرضيع. علما بأن القصة التي نحن بصددها لا تعبر فقط عن يأس من الماضي، ولكنها تشير أيضا إلى يأس من المستقبل يجعل الأفق مجللا بالسواد.
أضف إلى ذلك أن 40٪ من السكان يعانون من الفقر بدرجاته المختلفة، وهي ذات نسبة المصريين الذين لم تصل إليهم المياه النقية ويعانون من أزمة الصرف الصحي، وذلك يصور لك مدى ثقل التركة التي ورثتها الثورة عن نظام مبارك الذي جثم على صدر مصر طوال ثلاثين عاما تنافس فيها الظلم السياسي مع الظلم الاجتماعي، حتى حول البلد إلى مجموعة من الخرائب والأنقاض.
لا نستطيع أن نغفل تأثير طبائع فترة الانتقال التي عادة ما تعقب الثورات، وتهتز فيها وترتبك كل أوضاع المجتمع، لكننا مع ذلك ندرك أن تلك الاهتزازات أصابت واقعا مختلا وموشكا على الانهيار.
ليس أدل على ذلك مثلا من أن مصر تستورد شهريا سلعا بقيمة خمسة مليارات دولار. (ما يعادل دخل قناة السويس) 60٪ منها مواد غذائية، لا يذهب منها شيء للصناعة أو الزراعة أو الخدمات.
(2)
بسبب الوضع الاقتصادي المأزوم واضطراب الأسواق الذي حدث في أعقاب الثورة، فإن الدين العام في مصر بات معادلا لحجم الناتج المحلي (نحو تريليون و475 مليار دولار)، بمعنى أن الحكومة إذا قررت أن تسدد كل ديونها مرة واحدة، فلن يتبقى جنيه واحد في موازنة الدولة، ولن يستطيع الموظفون قبض رواتبهم، ولن يكون هناك أي اعتماد لاستيراد المواد الغذائية، بما فيه القمح الذي يعتمد عليه في إنتاج الخبز. وستتوقف محطات الكهرباء والمصانع عن التشغيل نظرا لعدم وجود الموارد التي تغطي تكلفة الطاقة اللازمة لها.
على هامش الأزمة الاقتصادية، يتعين تسجيل الملاحظات التالية:
- إن مصر لم تتلق بعد الثورة أية مساعدات مالية من الدول النفطية العربية باستثناء أربعة مليارات دولار من قطر، ونصف مليار من السعودية. بل إن بعض الدول الخليجية كانت ترسل بواخرها المحملة بالبوتاغاز والسولار إلى ميناءي الإسكندرية وبورسعيد، وتشترط دفع قيمة الشحنة المستوردة قبل تفريغها، وفي بعض الحالات فإن وزير الخارجية المصري كان يجري اتصالات مع نظرائه في الدول المعنية للموافقة على تفريغ الشحنات على أن تسدد قيمتها في وقت لاحق.
- إن بعض الدول النفطية قدمت مساعدات مالية إلى البحرين والأردن والمغرب، في حين أنها امتنعت عن مد يد العون لمصر.
- من المفارقات أن الجزائر التي لديها فائض مالي هائل من تصدير الغاز، قدمت قرضا لصندوق النقد الدولي قيمته خمسة مليارات دولار، في حين اتجهت مصر إلى الاقتراض من الصندوق، علما بأن بعض الدول الخليجية اشترطت على مصر أن تتفق أولا مع صندوق النقد قبل أن تقدم إليها أية مساعدات.
“
هناك أسباب متعددة لإحجام الآخرين عن مساعدة مصر في أزمتها الاقتصادية، فهناك أطراف تمنعت لأنها لا تريد أن تساند أي ثورة، وأطراف أخرى لا تريد النهوض لمصر، وأطراف ثالثة لا تريد مساعدة الإخوان المسلمين
“
- في الوقت الذي تقف فيه الدول النفطية العربية من مصر هذا الموقف، وجدنا أن الاتحاد الأوروبي هبَّ لنجدة اليونان وإسبانيا للأخذ بيدها في مواجهة أزمتها الاقتصادية، فقدم إلى اليونان مساعدات بقيمة 147 مليار يورو، وقدم لإسبانيا 70 مليار يورو. وللعلم فإن صندوق النقد تقدم لمساعدة الحكومة الإسبانية، ولكن الاتحاد الأوروبي اعتذر، وأبلغ مسؤولي الصندوق بأنهم سيتولون المساعدة المالية، على أن يتولى صندوق النقد تقديم المساعدات الفنية.
- إن الإدارة الأميركية لم تكن بعيدة عن هذه الأجواء. ونقلت هذه الرسالة إلى مصر السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية والسيدة آن باترسون السفيرة الأميركية لدى القاهرة. وكانت خلاصة الرسالة أن تجاوب مصر مع السياسة الأميركية من شأنه أن يفتح خزائن الخليج لها -العبارة قيلت هكذا نصا- وفي حدود علمي فإنه في إحدى مراحل التفاوض مع صندوق النقد الدولي فإن الرئيس محمد مرسي اتصل هاتفيا مع الرئيس باراك لتذليل بعض الصعوبات. وقام الرئيس الأميركي بما يلزم في حينه.
- إن مصر في رهانها على المساعدات الخارجية -ولم تجد التجاوب الذي توقعته كما ذكرت توا- لم تفكر في أن تمد بصرها إلى أميركا اللاتينية خصوصا البرازيل والأرجنتين، في حين أن البلدين وخاصة البرازيل، أبديا رغبتهما في ذلك. وفوتت مناسبة القمة اللاتينية العربية التي كانت فرصة مواتية لمد الجسور مع تلك الجبهة، إلا أن التفكير التقليدي فوت الفرصة.
- إن هناك أسبابا متعددة لإحجام الآخرين عن مساعدة مصر في أزمتها الاقتصادية. فهناك أطراف تمنعت لأنها لا تريد أن تساند أي ثورة كي لا تطالب باستحقاق داخلي هي لا تريده ولا تقدر عليه (على صعيد الحريات العامة والمشاركة في السلطة مثلا). وهناك أطراف أخرى أحجمت عن ذلك لكي لا تقوم مصر على قدميها وتنهض، لأن لذلك تداعياته غير المرغوبة في العالم العربي. وهناك أطراف ثالثة لها خصومتها مع الإخوان ولا تريد لنظام تقوده أو تشارك فيه الجماعة أن ينجح. وقد أقدمت إحدى الدول على إلغاء اتفاق مع دولة أوروبية متوسطية كانت مصر وسيطا فيه، وقال ممثلوها صراحة إنهم لا يريدون تقديم أية مساعدة لحكومة الإخوان.
- إنني أحد الذين يستشعرون الحزن والأسف إزاء بعض ما سبق ذكره من مواقف، إلا أنني أزعم أن ما جرى أيا كان رأينا فيه لا يخلو من إيجابية، تتلخص في أن البلد إذا تطلع لأن يساعده الآخرون، فينبغي أن يساعد نفسه أولا. وإذا قصر في مساعدة نفسه فلا يلومن إلا نفسه.
(3)
في الحالة المصرية ليس أسوأ من الاقتصاد سوى السياسة. وما قلته عن حرج الموقف الاقتصادي والقلق على المستقبل الذي يلوح حتى يكاد يسد الأفق، ينطبق بذات القدر على الشأن السياسي، إذ أزعم أن أسوأ ما في المشهد السياسي المصري الآن هو الانقسام المخيم عليه، وعدم الثقة بين أطرافه. ولا أعرف حالة في التاريخ الحديث انقسمت فيها مصر على نفسها بالصورة التي نراها الآن سوى ما حدث في مستهل عشرينيات القرن الماضي، حين توزع البلد على معسكرين أحدهما مع سعد باشا زغلول زعيم الأمة والثاني مع رئيس الوزراء عدلي باشا يكن.
وكان موضوع الخلاف هو الموقف من المفاوضات مع الإنجليز، بين تشدد وإصرار سعد باشا في التعبير عن المطالب المصرية، ومرونة عدلي باشا (يسمونها اعتدالا في زماننا). وقد تصاعد الخلاف وبلغ ذروته بين السعديين والعدليين في عام 1921، حتى خرجت مظاهرات السعديين في مختلف الأقاليم والمدن المصرية منددة بعدلي باشا، ورد العدليون بمظاهرات مماثلة. واشتبك الطرفان في ميدان الخازندار بالقاهرة، ووصف حكمدار العاصمة الإنجليزي مظاهرة الميدان بقوله إنه تجمع فيه (800 شخص معظمهم من “الرعاع” حاملين النبابيت وفروع الأشجار).
وامتدت الاشتباكات إلى الإسكندرية التي سقط في أحدها ثلاثون قتيلا بين مصريين وأجانب. وذهبت حدة الاستقطاب بين الطرفين حدا رفع فيه البعض شعار “الاحتلال على يد سعد خير من الاستقلال على يد عدلي” (لمزيد من التفاصيل انظر كتاب سعديون أم عدليون، لمؤلفه عمرو سميح طلعت، الصادر عن دار الشروق).
“
الذين في الحكم فشلوا في التواصل واحتواء المعارضة، والذين في المعارضة رفعوا سقف مطالبهم بحيث قطعوا الطريق على إمكانية التواصل مع سلطة الحكم
“
الفرق الأساسي بين انقسام عشرينيات القرن الماضي والانقسام الراهن في مصر، أن الأول كان معركة الوطنية المصرية ضد المحتل الأجنبي، في حين أن الثاني معركة بين قوى الجماعة الوطنية ذاتها. والأولى أوضح لأن العدو فيها ظاهر للعيان. أما الثانية فهي أخطر وأعمق لأنها مع مخالف وليس عدوا، إلا أن التجييش والاستقطاب حولا الخلاف إلى عداء كاد يجهز على ما هو مشترك بين الطرفين، حتى أصبح الإقصاء بديلا عن العيش المشترك. وبلوغ هذه النقطة أصبح بمثابة إعلان عن فشل الطرفين، الذين في الحكم والذين في المعارضة التي تحولت إلى جبهة رفض.
فالذين في الحكم فشلوا في التواصل واحتواء المعارضة، والذين في المعارضة رفعوا سقف مطالبهم بحيث قطعوا الطريق على إمكانية التواصل مع سلطة الحكم. وفي ظل ذلك التقاطع أصبحت مصر في العام الجديد على شفا “هاوية السياسة”.
وحين بلغ التقاطع ذلك المدى اختلطت الأوراق، فأصبح الإخوان والسلفيون يقفون في جانب، في حين احتشد في الجانب المعاكس خليط من المعارضين الوطنيين جنبا إلى جنب مع فلول النظام السابق والذين رفضوا الثورة وأرادوا إفشالها وغيرهم ممن أرادوا إسقاط نظام الإخوان فضلا عن الذين أرادوا استمرار تقزيم مصر واستمرار انكسارها. إلى هذا المدى وصلت الهاوية السياسية.
(4)
ثمة علامات استفهام كبيرة معلقة على لائحة العام الجديد. واحدة حول مصير الأزمة الاقتصادية تتساءل عن احتمالات الفوضى وثورة الجياع. وأخرى حول نتائج الانتخابات النيابية التي يفترض أن تجرى مع بداية الربيع، وخريطة القوى السياسية التي ستسفر عنها. والثالثة حول مصير الانقسام وعلاقة الجماعة الوطنية بعضها ببعض وتأثير ذلك على جدول أعمال وأولويات المستقبل. والرابعة تتعلق بمستقبل الأوضاع في سيناء وهل ستتجه إلى التهدئة أم التصعيد.
أستبعد إقلاع مصر في العام الجديد، لكن أدعو الله أن تستقر في مكانها ولا تتراجع للوراء، لأن تلك هاوية من نوع آخر.
في الأسبوع القادم بإذن الله نستشرف وضع العالم العربي في العام الجديد.
فهمي هويدي يكتب : عام صعب.. مصر على شفا الهاوية
قسم الأخبار
Tue, 01 Jan 2013 07:13:00 GMT
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى