أرجع المؤرخون حدة الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر وقسوة قلبه إلى ما عاناه في صغره على يد والده الذي عذّبه كثيرا بالسوط، فضلا عن كونه مولود غير شرعي، أما تشي جيفارا الذي نشأ في بيت ذات ميول يسارية، ووسط عائلة من أصول أيرلندية إسبانية باسكية، فكان من الطبيعي أن يخرج مناضلًا شجاعًا، حتى أن والده قال عنه: ''أول شيء يمكن أن نلاحظه، هو أن ابني يجرى في عروقه دماء المتمردين الأيرلنديين''.
كما يمكن أن يبرر ابتعاد جمال عبد الناصر عن والديه لوفاة أمه وهو في الثامنة من عمره، وانتقاله إلى العيش في منزل عمه، ارتباطه العاطفي المتبادل بالمصريين، وعمله لصالح الفقراء والمهضومة حقوقهم منذ أن كان ضابطًا صغيرًا في الجيش وحتى أصبح رئيسًا.
هكذا كانت النشأة والجذور مؤثرة في كل الشخصيات التي يذكرها التاريخ حتى الآن إما بالخير أو باللعن، لكن أحدًا لا يعرف شيئا عن التفاصيل الدقيقة في حياة الرئيس السابق حسني مبارك أو عن تاريخ عائلته، وكل ما تردد ويتردد في هذا الشأن، إما معلومات غير موثقة، أو انطباعات تعتمد على الاستنتاج وتشبيك الخيوط، فيما بقيت الحقائق التي لا تقبل التأويل غائبة تمامًا.
الصدفة وحدها أوقعتني على كنز من المعلومات الموثقة عن عائلة مبارك والرئيس السابق، كنا نجهز موضوعًا في مارس 2007 عن أمهات الرؤساء الثلاثة، ووجدنا جميع المعلومات الخاصة بوالدتي ناصر والسادات، بينما لم نجد في الأرشيف الإلكتروني والمطبوع معلومات تذكر عن والدة مبارك، بل إننا حتى لم نجد اسمها.
وعندما بحثنا في دار الوثائق عن نعي السيدة التي توفيت في أواخر السبعينات بينما كان ابنها نائبا لرئيس الجمهورية، كانت المفاجأة، فحتى النعي المنشور في صحيفة الأهرام لم يذكر اسمها، وكُتب فقط ''السيدة والدة نائب رئيس الجمهورية''، عندها كان القرار: ''سأسافر إلى كفر المصيلحة''.
بعد ساعات من المرور على أقارب الرئيس وأبناء عمومته الموجودين في القرية، لم يعرف أحد منهم شيئا عن الاسم، وتوقعت أن يكون بعضهم يعرفون لكنهم يتخوفون من التصريح به، فالرئيس مبارك كان وقتها راسخًا في السلطة، والأجهزة الأمنية تعمل فقط لإبعاد أي خطر يهدد حكمه مهما كان صغيرًا.
أخيرا وجدته.. أقرب أبناء كفر المصيلحة نسبًا إلى مبارك. لم أخبره صراحة برغبتي في معرفة اسم والدة الرئيس لأن هذا الأمر خط أحمر عند الفلاحين، ووجدت عنده رغبة في الحديث، والأهم من الحديث أنه كان يدعم كل معلومة يقولها بورقة في أرشيف ورقي ضخم، اصفرت معظم أوراقه بفعل الزمن.
كما أرشدني إلى عدد من كبار العائلة في كفر المصيلحة وقويسنا بالمنوفية، وزاوية البحر بمحافظة البحيرة، بل واتصل بهم بنفسه لتوصيتهم بمساعدتي، وسمح لي بتصوير بعض الوثائق والاحتفاظ بها، وكان من بين الوثائق التي احتفظت بها شجرة عائلة مبارك التي تضم بين طياتها سردًا مختصرًا لتاريخ العائلة.
كثيرون يعتقدون أن قرية كفر المصيلحة هي الموطن الأصلي لعائلة مبارك، لكن المفاجأة الأولى التي تكشفها الوثائق والمراجع أن العائلة عاشت لفترة طويلة في قرية المصيلحة التابعة لمركز شبين الكوم، قبل أن تنتقل إلى كفر المصيلحة بعد أحداث دراماتيكية.
تعود جذور العائلة إلى قرية زاوية البحر التابعة لمركز كوم حمادة بمحافظة البحيرة، حيث ضريح ''سيدي مبارك'' الذي كان يؤمه الناس لطلب كراماته، حتى منتصف التسعينات، وبعدها تراجعت قيمة الضريح فجأة، وأصبح مجرد مبنى مهجور تمر أيام وأسابيع دون أن يقصده أي زائر.
بحثت كثيرًا عن دليل دامغ يثبت صحة نسب عائلة مبارك إلى هذا صاحب الضريح فلم أجد سوى تأكيدات أقطاب العائلة أنفسهم في كفر المصيلحة وزاوية البحر، الذين يتحدثون عن هذا النسب دون أدنى شك، حتى أن كتيب شجرة العائلة يشدد في أولى صفحاته على أن سيدي مبارك هو الجد الأكبر.
وبحسب هذا الكتيب الذي يحمل عنوان ''شجرة الأسرة المباركة'' وتتصدره صورة كبيرة للرئيس السابق، والذي تمت طباعته وتوزيعه على منازل العائلة، دون تسريب أي نسخ خارجها، فإنه في أوائل القرن التاسع عشر انتقل الجزء الأكبر من العائلة من البحيرة إلى قرية المصيلحة، وعاشت فيها لنحو قرن قبل أن تحدث خصومة ثأرية كبيرة بين العائلة وعائلة أخرى، ولأن عائلة مبارك كانت أقل عددًا وأضعف ركنًا، كانت خسائرها أكبر من خسائر خصمها طوال الوقت، حيث فقدت عددًا من أبنائها بسبب هذه الخصومة فضلا عن خسائرها المادية.
اجتمع رموز العائلة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر للتباحث حول مخرج من هذه الأزمة، وكان القرار الخروج من القرية تمامًا حقنا للدماء، وهو ما حدث، وانتقلت العائلة إلى منطقة أراض زراعية على الضفة الأخرى من بحر شبين الكوم، وبنى أفراد العائلة منازلهم في هذه المنطقة، قبل أن تتحول هذه المنطقة إلى قرية مستقلة بعدما توسعت المباني، وانضمت عائلات أخرى إلى هذا التجمع السكني، وعندما حان وقت اختيار اسم القرية، أطلقت عليها عائلة مبارك اسم ''كفر المصيلحة''.
هذه القصة تحكيها الأسرة بصورة مقتضبة في كتيب عائلة مبارك، من منطلق افتخارها بأنها هي من أسست كفر المصيلحة، لكنها لم تكن تعلم أن هذا السلاح يُمكن أن يكون بابًا نعرف من خلاله أن اللواء عمر سليمان عندما وقف يوم 11 فبراير 2011 معلنا تنحي حسني مبارك عن حكم مصر، لم يكن يعلن بذلك أول تنحي في تاريخ العائلة، فالعائلة كلها أعلنت التنحي من قبل.
حكيت هذه القصة للدكتور محمد المهدي، أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، فقال إنها تفسر إلى حد كبير أسباب تمسك مبارك بالسلطة طوال الثلاثين عامًا الماضية، وخوفه الشديد الذي كان يصل إلى حد الذعر من اليوم التالي لتركه السلطة، وإصراره على تقوية الجهاز الأمني وتسليم البلد إليه ليضمن ولاءه في مواجهة أي خطر يهدده، مؤكدًا أنه علم من مصادر قريبة من الرئيس السابق أنه في حين كان يُظهر عدم تمسكه بالسلطة وزهده فيها، كان في الواقع لا يتصور ترك المقعد في حياته.
''المهدي'' يضيف أن هذه العائلة التي تم تهجيرها وإخراجها قسرا من قريتها، كان من الطبيعي أن يتخوف ابنها من المستقبل، ويحرص على الاستقرار الذي يصل إلى حد الجمود، وأن هذا الأمر يبرر أيضًا تمسك مبارك بإبقاء أسرته وتاريخها بعيدًا عن الإعلام، بعكس عبد الناصر والسادات اللذان كانا حريصين على التحدث عن أسرتيهما طوال الوقت.
* في المقال المقبل نكشف عن أسرار جديدة في حياة المواطن السيد مبارك، والد الرئيس السابق، وسبب الخلافات بينه وبين عائلته، وكذلك عما استفاده أبناء عائلة مبارك من موقع ابن عمهم..
تامر أبوعرب
مصراوى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى