كثيرون هم الشعراء الذين كانوا وقودًا للثورات، للمعارضة السياسية، لقلقلة الأنظمة السلطوية، لمحاربة الاستعمار، يحتفظ التاريخ لنا بعدد من هؤلاء الشعراء الذين استطاعوا أن يحلموا بعالم المُثل وسعوا إلى تحقيقه في الواقع، من دانتي ألجيري الذي تغضب عليه الكنيسة والسلطة السياسية وتنفيه خارج بلاده ويموتُ بالمنفى، إلى ريتسوس اليوناني الذي سجن أكثر من مرة وعُذب..
يحفظ التاريخ العربي أيضًا أسماء العديد من هؤلاء الشعراء محمود سامي البارودي، أبو القاسم الشابي، بالتأكيد ينتمي أمل دنقل إلى هذه الفئة من الشعراء.
أمل دنقل
الشعر في ميدان الثورة!
يستطيع النقاد أن ينظروا إلى شعر أمل دنقل نظرة نقد، أن يرجحوا أن شعره لم يكن قويًا فنيًا، مالا يستطيع النقاد أن يغفلوه أو ينكروه أنَّ هذا الشاعر الفقير الذي جاء مغتربًا من صعيد مصر إلى القاهرة رائدة المدنية في الخمسينيات ظلَّ شعره وقودًا للمعارضة، استلهم المعارضة من التراث العربي في شعره، التحم بالأحداث السياسية التي يمر بها الوطن العربي، وكتب، وظل يكتب إلى أن انتشله المرض في مثل هذا اليوم 21 مايو 1983.
كانت كامب ديفيد سبباً في كتابة دنقل قصيدة”لا تصالح
ظلَّ شعر دنقل حيًا. مع أحداث الثورة في يناير 2011 كانت أشعار دنقل ترتل في الميادين، وبعد الثورة، في لحظات الصراع بين “الشارع” و”السلطة” كانت أشعار دنقل ترتفع:
لا تصالح ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأُ عينيك
ثم أثبتُ جوهرتين مكانهما
هل ترى؟
هي أشياءٌ لا تُشترى!
ابن القرية، ينبهر بأضواء القاهرة
نشأ دُنقل في بيتٍ فقير، لكنَّ والده كان يمتلك مكتبة كبيرة كونه شيخًا أزهريًا، يمتلك أيضًا قريحةً شعريةً كان لها أثر في طفله. لكنَّ والده لم يعش ليرى ابنه الفقير يعيش في القاهرة، متنقلاً بينَ المقاهي الأدبية، شاعرًا، صديقًا لكبار الشعراء، ومعارضًا.
في العاشرة من عمره القليل نسبيًا، كانَ دنقل يتيمًا، إضافة إلى يتمهِ كان مسؤولًا عن أمه الأرملة وأخويه الصغيرين “أمنية” و”أنس”. سافر دنقل إلى القاهرة للدراسة ثم ترك دراسته ليجد قوت يومه.
يحكي في إحدى اللقاءات المتلفزة معه عن انبهاره بأضواء القاهرة للوهلة الأولى، اندهاشه من دور السينما والمقاهي والترام والأتوبيس والبشر، قال دنقل: كانَ يجبُ عليَّ أن أكونَ سريعًا في فهم ما يحدث حولي، أن أستجيب سريعاً للمتغيراتْ، لكن كان على العالم أن يسمعني، لن أخضع لأيّ شئ، جئت من قنا لتسمعني القاهرة!
التراث العربي مصدر لرموز دنقل الشعرية
اتسمت الحركة الشعرية في الخمسينيات باتخاذها رموزًا شعرية وأدبية من الميثولوجيا اليونانية والإغريقية، كانَ على دنقل، وهو الذي تربى في بيتٍ أزهري، أن يصنعَ صوته المختلف تمامًا، اختار دنقل في كل مناسبة سياسية أو قومية رمزًا من الرموز العربية، رمزًا من التراث العربي، ليعبر فيه عن فكرته.
النكسة وسقوط حلم عبد الناصر كان حدثًا موحيًا لدنقل وسببًا لمعارضته النظام
بعد نكسة 1967 اشتعل دنقل، فأخرج بعد سنتين فقط ديوانه “البُكاء بين يدي زرقاء اليمامة” وأثناء اتفاقية كامب ديفيد، تجرع دنقل مرارة الألم بهذه الاتفاقية فبدأ في التنقيب عن موقفٍ مماثل من التراث العربي، حتى كان ديوانه “أقوال جديدة عن حرب البسوس” الذي يحمل قصيدته التي يتغنى بها المعارضون وشباب الثورة “لا تصالح”. غير أن دنقل لم يكتفِ بالتراث العربي فقد استعار التراث الروماني أيضًا في قصيدة “كلمات سبارتاكوس الأخيرة”.
حرب البسوس: تعتبر حرب البسوس أحد الحروب التي خرجت عن الوعي العربي، قتل الأمير كُليب، فأخذ أخوه “المهلهل بن ربيعة” بثأره لمدة أربعين عامًا، قتل فيها النساء والصبيان وفني الشيوخ.
دنقل صوتُ المعارضة
“أنا أعتبر أن الشعر يجب أن يكون في موقف المعارضة، حتى ولو تحققت القيم التي يحلم بها الشاعر، لأن الشعر هو حلم بمستقل أجمل، والواقع لا يكونُ جميلاً إلا في عيون السذج!”
*من حوار مع دنقل 1975
بدايةً من النكسة التي عبر عنها دنقل في قصائده، مرورًا بوصول السادات للحكم في مصر ووعوده المتتالية بالرد على اسرائيل، هاج الشباب في انتفاضة 1972 ضد السادات، هنا بدأ دنقل يتحسس سلاحه الوحيد: الشعر.
كتبَ دنقل قصيدته المشهورة “أغنية الكعكة الحجرية” معبراً عما حدث في ميدان التحرير حينها، نشرت القصيدة في مجلة”سنابل”في العام نفسه والتي كان يصدرها الشاعر محمد عفيفي مطر، تسبب نشر القصيدة في إغلاق المجلة حينها.
عندما تهبطينَ على ساحةِ القوم
لا تبدئي بالسلام
فهم الآن يقتسمونَ صغارك
فوقَ صحاف الطعام
بعدَ أن أشعلوا النارَ في العشِّ
والقشِّ
والسنبلة..
*من قصيدة أغنية الكعكة الحجرية
هذا الموقف المعارض جعل دنقل في مواجهة السلطة، لم تكن مضايقات دنقل كغيره من الشعراء الذين كانوا واضحين في سبهم للسلطة “كأحمد فؤاد نجم أو نجيب سرور” فدنقل شاعر من طرازٍ مختلف، له من الرمز والمجاز سلاحًا، طالته المضايقات في عدة مناسبات أخرى كمنع الصحافة من نشر حواراتها معه، ومنع قصائده من النشر.
أوراق غرفة رقم 8
“لا حزن ولا بكاء فقد حزنت وبكيت في حياتي ما يكفي .. أوصيكم بأن تكتبوا على قبري هذا قبر فلان ابن فلان بن فلان وكل من عليها فان”
*آخر ما قال دنقل.
في الثالثة والأربعين كان عندما غيبه مرض السرطان عن عالم الشعر، ظل دنقل في غرفته “رقم 8″ بمعهد الأورام طيلة أربع سنوات عانى خلالها من السرطان، لم يوقفه السرطان عن الشعر فكتب ديوانه الأخير “أوراق الغرفة رقم 8″..
في المستشفى
حسب دنقل، لم يعرف دنقل طعم الفرح إلا عندما تزوج من الناقدة الأدبية والصحفية عبلة الرويني، في آخر حياته. في ذكرى وفاته الواحدة والثلاثين لازال شعر دنقل يتنقل بين الشباب الثائر على الظلم والاستبداد في الوطن العربي وبالأخص في بلاده مصر، ورغم هذه الثورية في أشعاره والمعارضة، يبقي هناك صوتُ الغزل والجمال ليقرأ العشاق بعده:
عيناكِ لحظتا شروقٍ
أرشفُ قهوتي الصباحية من بنهما المحروق
وأقرأُ الطالع..
لحظة الفرح الوحيدة في حياة دنقل
مخطوطة لإحدى القصائد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى