by أسعد طه
ما إن عبر بوابة الكلية حتى أزاح عن وجهه تلك الكوفية التي كانت تغطي ملامحه، ظننت أنه أحد العمال الذين يشتغلون هناك، ربما لشكله الذي يكبرنا نحن الطلاب، وربما لهيئة ملابسه، غير أن أحدهم تطوع وشرح لي الأمر، "هذا تيمور الملواني، طالب في هذه الكلية منذ سنوات طويلة، في الحقيقة يقضي حياته بين الكلية والسجن، فهو مناضل شيوعي".
خفت قليلاً من فكرة المناضل والسجن، شعرت والزمن عام خمسة وسبعين أن رجال الأمن ينظرون إلينا من حيث لا نراهم ويسجلون كل صغيرة وكبيرة، حتى أسماء من يلقي عليه نظرة، فنحن في زمن الديمقراطية ذات الأنياب.
لاحقاً وفي ردهة الكلية المخصصة لتعليق مجلات الحائط التقيت به وجهاً لوجه للمرة الأولى، كان قد قرأ ما كتبت ورحب بي عضواً جديداً ضمن المشاكسين، غير أني تهربت من الدخول معه في نقاش، ربما هيبةً لعشرات الكتب التي اعتقدت أنه قرأها، ولتلك المصطلحات المعقدة التي تلوك بها ألسنة الرفاق، لكن العلاقة بيننا بعد ذلك تطورت، وتعرفت على مجموعة من الطلاب الشيوعيين واليساريين، أولئك الذين كانوا يكتبون آراءهم في مجلات الحائط ويوزعون المنشورات ويدعون إلى التظاهرات، لكن ظل تيمور هو أكبرهم سناً وأكثرهم شهرة وأشدهم صلابة.
شخص لطيف للغاية إذا ما تحدث معك، عنيف جداً إذا ما التف حوله المخبرون، كان يدرك أن حاجزاً كبيراً يفصلنا، لكن ظل كلانا حريصاً على العلاقة، إلى أن حل ذلك الصيف واضطررت لإجراء عملية جراحية خطيرة.
أبلغني الطبيب حينها أنني بحاجة إلى تأمين عدد من المعارف والأصدقاء يحملون نفس فصيلة الدم حتى يُنقل لي عقب العملية، شرط أن يكون طازجاً، أي أن يتم التبرع به في الحال، وقال: "يمكنك أن تأتي بمن لا يحمل فصيلتك فيعطينا دمه، ونعطيك نحن أيضاً دماً طازجاً من فصيلتك سبق لآخرين التبرع به في نفس الصباح".
في الموعد المحدد، السابعة صباحاً، كان تيمور يستأجر سيارة نقل يمر بها على المتطوعين لينقلهم إلينا، وكان يمكن لرجال الأمن التخلص من كل قيادات العمل الطلابي حينها بضربة واحدة لو أطبقوا على غرفتي في مستشفى الشاطبي بعد إجراء العملية، وكان بها كل هؤلاء الشيوعيين واليساريين من كليات مختلفة بجامعة الإسكندرية.
يمر الزمان وأنا وتيمور على علاقتنا، تذهلني هذه الصلابة وهذا الثبات الذي وجدته عليهما، إلى أن حان موعد آخر في نفس ردهة الكلية، كان هناك اجتماع حاشد للطلاب ومظاهرات عارمة في الجامعة، فيما كان الشيوعيون وشعبيتهم وزمنهم يتضاءل، غير أن تيمور لم يجد حرجاً في أن يكون وحده دون حتى أقرانه ضمن هذا الحشد معارضاً ومناوئاً.
أوصيت بعض "الإخوة" بحماية تيمور إذا ما وقعت المواجهة، وبالفعل تبادل على المنصة الخطباء، فلما جاء دوري وخلال خطبتي قاطعني تيمور معترضاً على ما أقول، وصرخ وسط الحشود "فلنقارع الحجة بالحجة يا أسعد"، وكانت هذه الصيحة أشبه بإشارة الهجوم، فقد انقضت عليه الحشود كما توقعت لتفتك به جهاداً مقدساً، فقامت المجموعة التي اتفقت معها بحمايته وقفزت أنا من على منصتي لأنضم إليهم لأحميه وفقدت حينها ساعتي!
بعد حوالي ساعة من هذا المشهد، كنت أجلس معه نحتسي شاياً عند عم "السيد"، وهو الأمر الذي كان غاية في السوء في نظر الكثيرين، كيف تؤانسه وهو عدوك؟ فشلت في أن أشرح لهم، نحن مختلفون لكننا لسنا أعداءً وهناك فارق كبير، كنت أظن أن ذلك أمر بديهي، واندهشت كيف لا يدركه الآخرون، ولم يكن ليخطر في بالي أن هذه الفكرة البسيطة لن تجد مَنْ يناصرها على مدى سنين طويلة وحتى بعد أن قامت الثورة.
باعدت بيننا الأيام ولم أعرف أخباره وظلت صورته في ذهني ذلك الفتى المناضل الذي لا يتغير، يخرج من السجن كما دخله، نفس الثبات على المبدأ، حتى في السجن كان يشاكس وقد زاره المأمور مرة في زنزانته بنفسه ليقنعه بالامتثال للقوانين فاحتد بينهما النقاش، فما كان من تيمور إلا أن صرخ في المأمور وطرده، بل أمره أن يغلق باب الزنزانة بعد خروجه وكأنه لما كان ليفعل.
على نفس العناد كان "محب" ولكن بصورة أخرى، فقد خصص هذا القبطي الشيوعي جهده ونضاله في مجال الفكر والثقافة. كان يعيش فوق أسطح المنازل في تلك الغرف البائسة، لكنه شعلة من النشاط، مسرحيات وتمثيليات ومحاضرات وأعمال أدبية، يعمل بجانب دراسته ليتعيش ويستطيع الصرف على مشاريعه الفكرية والفنية ورسائله العقائدية، وكذلك على أدويته بعد أن هدّه المرض.
عصام كان مختلفاً، زرته مرة في بيته بحي غيط العنب، اقترح عليّ أن أمنحه بعض الوقت ليطرح عليّ ما سمّاها مغالطات وتناقضات القرآن، كان يجمع التبرعات للمعتقلين وذويهم، ويشارك في المظاهرات، ويوزع المنشورات الممنوعة، شيوعي صلب هو الآخر.
في أحد المؤتمرات التي سُمح بعقدها في مدرج الكلية، اكتشف عصام بحكم خبرته في السجون والمعتقلات وتعامله مع رجال الأمن أن ضابطاً بزي مدني متواجد بين الحضور يتابع بنفسه ما يجري، فصرخ عصام في الجموع أن هذا هو الضابط فلان من أمن الدولة، فهاج الطلاب والتفوا حوله ثم أوسعوه ضرباً وسباً وطردوه من البناية كلها، وكنا على يقين بأن عصام سيدفع الثمن عاجلاً أم آجلاً.
لاحقاً شارك عصام في إحدى التظاهرات التي خرجت في شوارع الإسكندرية دعماً لفلسطين، وفي اليوم التالي كانت قصته حديث الطلاب، فقد ترك جنود الأمن المركزي مهمتهم في حصار المظاهرة وانقضوا على عصام ضرباً حتى نقل إلى المستشفى بين الحياة والموت، وبعد إسعافه نُقل إلى السجن، وكان ذلك بلا شك بأوامر وتوجيهات من الضابط إياه.
انقطعت عنا أخبار عصام الذي كان يعيش قصة حب عنيفة مع الرفيقة حنان، لكن بعد سنوات قليلة اكتشفنا أن عصام هرب إلى فرنسا وهناك انضم إلى الحزب الشيوعي، واندمج في المجتمع الفرنسي واتخذ عشيقة أخرى وقد نسى حنان وحبها. تمر سنون قليلة ليعود في زيارة قصيرة إلى مصر وقد تغير مظهره تماماً، من ذلك الشاب الفقير المعدم إلى هذا الثري ببدلته الأنيقة، وحزنت حنان - وحزنّا معها - حزناً عميقاً على هذا المتغير.
الثبات على المبدأ قيمة عظيمة، لكن لا بأس أن تختبر مبادئك وأفكارك فربما كنت على غير حق، علي عزت بيغوفيتش مثلاً فعلها وهو في سن السادسة عشر بعد أن قرأ ما قرأ، وبدأ يتشكك في حقيقة الدين والإله، إلى أن عاد لإسلامه بقوة وبفهمه الخاص. هذا الرجل لا يمكنني إلا أن أذكره دائماً، لقد التقيته إنساناً بسيطاً بعد أن خرج من السجن، ثم خاض الانتخابات الرئاسية وفاز فيها، ثم خاض الحرب وأنقذ الله البلاد ومن بقى حياً على يديه، ثم ترك الرئاسة وعاد إلى بيته البسيط في أحد أحياء سراييفو.
وفي كل هذه المراحل لم يتغير علي، ولم تتلبسه روح الزعامة، ولم يعتقل من سجنوه، ولم ينتقم ممن أوقعوا به أذى لسنوات طويلة، بل دعا جنوده الذين تُغتَصب نساؤهم ويُقتل أبناؤهم أن يتذكروا وصايا الإسلام في الحرب، لا تحرق شجرة ولا تعذب أسيراً ولا تعتدي على غير محارب، كان مخلصاً لمبادئه وقناعاته الشخصية تماماً رغم ضراوة المعركة وكثرة الأعداء وتعدد الفتن وفيض الإغراءات.
في أسفاري الطويلة كنت ألتقي برجال ونساء لطالما أدهشوني، إنهم عجائز تعاقبت عليهم الشيوعية وغيرها من صنوف التيارات والأفكار والاستعمار والقهر، وفُعل بهم الأفاعيل وهم على حالهم، لا يمكن تصنيفهم بالإسلاميين ولا حتى المتدينين، هم بسطاء للغاية، لم يكونوا مفكرين ولا علماء، مرّ بهم ما مرّ وهُمْ على نفس الحال، صخرة صماء ثابتة.
يعتقدون أن مكوّنهم الرئيسي هو الإسلام، هو خلاياهم، والدم الذي يجري في عروقهم، ودونه هم العدم. ينحنون أحياناً للعواصف، يتعاملون مع الآخرين الذين ليسوا منهم بكل لطف ومحبة، ينظرون إلى كل ما يجري على أنه يجري وليس حالاً ثابتاً، ثقة غريبة في نفوسهم، ويقين لا يتزحزح في ما يعتقدون، ورجاحة في التفكير، لا انفعال ولا فلسفات كاذبة، ولا نظريات حركية، ولا خطب نارية، مع بساطة تتعجب لها، تجاعيد وجوههم تقول لك: "ثق بي أنا أخبر منك بالأمر".
كان منهم ذلك الرجل الذي ذاعت قصته، فمع سقوط الإمبراطورية العثمانية، وتفرق دم الألبان المسلمين في البلقان، تكاثرت الهيئات التنصيرية، وكان التحول من الإسلام إلى المسيحية هو السبيل للنجاة من أي أعمال انتقامية تقوم بها السلطات الجديدة، وهو مفتاح الفلاح لتأمين مصدر الرزق والوظيفة المناسبة في العهد الجديد.
عجوزنا كان يقف في صف طويل أمام إحدى الهيئات الرسمية لإثبات تحوله إلى المسيحية، انتظر الرجل طويلاً في هذا الطابور لكن يبدو أنه كان على موعد ما ويخشى أن يفوته، ولذلك لم يتمالك نفسه بعد قليل إلا أن يصرخ فيمن أمامه: "أسرعوا.. أسرعوا.. الوقت يداهمنا.. وسوف يؤذن بعد قليل لصلاة الجمعة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى