ما وراء "وثائق بنما"
تضمنت تسريبات "وثائق بنما" التي نشرها الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين أمس، الأحد، الموافق 3 أبريل، إشارات إلى شركة بان وورلد للاستثمارات Pan World Investments، وملكيتها لعلاء مبارك، نجل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، والمسجلة في الجزر العذراء البريطانية بهدف التهرب الضريبي والإبقاء على سرية المالكين والتعاملات المالية.
كان تحقيق نشره "مدى مصر" في 2014 بعنوان "سياحة ضريبية على شواطئ الكاريبي" قد كشف عن وجود شركة بان وورلد وعلاقتها بآل مبارك ورجال أعمال مقربين منهم، وذلك استنادًا إلى وثائق حصل عليها "مدى مصر" من جهاز الكسب غير المشروع بوزارة العدل.
وكان اسم علاء مبارك هو الحالة المصرية الوحيدة في "وثائق بنما"، ضمن قائمة كبيرة من الشخصيات السياسية ورؤساء الدول والحكومات والمشاهير والمحتالين في عدد من دول العالم، في إطار تسريب يعتبر الأكبر من نوعه في تاريخ الصحافة. حيث تضمنت "وثائق بنما" أكثر من 11 مليون وثيقة تم تسريبها من مكتب المحاماة البنمي "موساك فونسيكا Mossak Fonseca" والمتخصص في تسجيل وبيع الشركات المسجلة في دول منخفضة أو معدومة الضريبة لحساب عملاء من كافة دول العالم. وتظهر التسريبات كيف ساعدت الشركة عملاءها على ارتكاب جرائم التهرب الضريبي وغسيل الأموال.
وحصلت على الوثائق صحيفة زويددويتشه تسايتونغ الألمانية، والتي شاركتها عبر الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين مع فريق ضم قرابة 370 صحفيًا في أكثر من 70 دولة، من بينهم الصحفي المصري المستقل هشام علام.
ووفقاً لتقرير أصدرته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية العام الماضي، فإن الخزانة المصرية تفقد سنويًا ما يقدر بخمسة مليارات جنيه مصري من العوائد الضريبية بسبب سماحها بلجوء شركات مصرية إلى استخدام الملاذات الضريبية، أي تحويل أثرياء مصريين لرؤوس أموالهم وأرباحهم التي يتحصلون عليها في مصر إلى خارج البلاد ثم إعادة استثمارها في مصر في صورة استثمارات أجنبية مجهولة المصدر.
وبحسب التسريبات المنشورة أمس، فقد قررت سلطات الجزر العذراء البريطانية تجميد أنشطة الشركة، كما قررت في 2013 فرض غرامة على شركة المحاماة موساك فونيسكا قدرها 37,500 دولارًا؛ بسبب عدم تحققها بشكل صحيح من أموال علاء مبارك، والذي وصفته السلطات هناك بالـ "عميل مرتفع المخاطر".
غير أن المعلومات التي توصل إليها كل من أسامة دياب، مسئول مكافحة الفساد بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ونيكولاس هيليارد، المسئول بمنظمة كورنر هاوس البريطانية المعنية بقضايا العدالة الاجتماعية، تكشف المزيد من التفاصيل حول طريقة إدارة ملف المال والسياسة في الأعوام الخمسة عشر الأخيرة من حكم مبارك، أي منذ تأسيس الشركة في عام 1996.
قبل الثورة
تأسست شركة بان وورلد للاستثمارات عام 1996، وتم تسجيلها في الجزر العذراء البريطانية British Virgin Islands المعروفة كملاذ سري آمن لكبار الشخصيات السياسية ورجال الأعمال الذين يودون إخفاء أموالهم، إما لحساسية مناصبهم السياسية أو لأغراض التجنب والتهرب الضريبيين.
ووفقا لبيانات جهاز الكسب غير المشروع عن ثروة آل مبارك، فإن كلاً من جمال وعلاء مبارك امتلكا تلك الشركة مناصفة (أي أن الشركة ليست مملوكة لعلاء وحده كما جاء في موقع تسريبات "وثائق بنما" أمس).
ولكن كيف قام علاء وجمال بإخفاء استثماراتهم الضخمة في الشركات المصرية؟ عن طريق الاستثمار في شركات تقوم بدورها بالاستثمار في شركات أخرى، وهكذا، حتى نصل إلى نهاية الحلقة التي يصعب عندها التعرف على أصحاب الأموال الأصلية أو مصدرها.
فخلال الفترة من أغسطس 1996 وحتى يناير 2008، ساهمت بان وورلد انفستمنت المملوكة لعلاء وجمال بنسبة 50% في شركة بوليون Bullion المسجلة في قبرص. وساهمت بوليون القبرصية بدورها بنسبة 35% في شركة استثمار أخرى مسجلة في الجزر العذراء البريطانية تدعى EFG Hermes Private Equity، والتي امتلكت بدورها صندوقين يحملان اسم EFG Capital Partners. يستثمر هذان الصندوقان عن بعد في العديد من الشركات المصرية، من بينها أسمنت السويس والبنك الوطني المصري ومجموعة طلعت مصطفى القابضة وشركة الإسكندرية للزيوت المعدنية.
كما امتلكت EFG Hermes Private Equity صندوقاً ثالثاً باسم حورس للصناعات الغذائية والزراعية Horus Food and Agribusiness، والذي يقوم بدوره بالاستثمار في شركة إيديتا للصناعات الغذائية، وشركة الوادي القابضة، وشركة مصر أكتوبر للصناعات الغذائية (المصريين)، وغيرها من الشركات. كل هذه الشركات تقبل استثمارات من صناديق تتبع صناديق تتبع شركات وتنتهي جميعاً عند بان وورلد ويحصل جمال وعلاء على الأرباح ليقوما بتحويلها إلى أرصدتهم الخفية خارج مصر.
وفي عام 1997، دخلت بان وورلد كشريك في شركة أخرى تسمى صندوق مصر المحدود Egypt Fund Ltd، والمسجل في ملاذ ضريبي آخر هو جزر الكايمان الكاريبية. وأدار صندوق مصر المحدود صندوقاً أخر يحمل أيضاً اسم صندوق حورس، برأس مال يقدر بـ 54 مليون دولار، واستثمر هذا الصندوق في 18 شركة مصرية من شركات القطاع الخاص.
من يملك صندوق مصر المحدود؟ 45 شريكاً يمكن من مراجعة أسمائهم التعرف على علاقتهم الوثيقة بالنظام السابق (وما زال بعضهم يحافظ على نفس العلاقة بالنظام الحالي): فمن بينهم أفراد عائلة رجل الأعمال الهارب حسين سالم، التي استثمرت في الصندوق عن طريق شركات أخرى مسجلة في ملاذات ضريبية أيضاً، فضلاً عن رجال الأعمال: أحمد عز، وأحمد بهجت، وأشرف مروان، ومحمد نصير، وإبراهيم كامل، ومحمد أبو العينين، ومحمد لطفي منصور، ومحمد المغربي، ورؤوف غبور، إضافة إلى شركة أوراسكوم للاستثمار والتنمية المملوكة لعائلة ساويرس، وبنوك مصر والقاهرة والإسكندرية. وتمت تصفية الصندوق في يونيو 2010.
PanWorld Investments
المصدر: المبادرة المصرية للحقوق الشخصية
وفي فبراير 2008 تخارجت بان وورلد انفستمنت من شركة بوليون القبرصية، وقامت بنقل أسهمها إلى شركة أخرى مسجلة في قبرص أيضاً تدعى ناكودا المحدودة Nakoda Limited. كانت ناكودا بدورها مملوكة لشركة أخرى مسجلة في قبرص تدعى سي بي بالما CP Palema.
لم يتم الكشف حتى الآن عن ملاك شركتي ناكودا وسي بي بالما، لكن شواهد عديدة ترجح أنهما مملوكتان أيضا لنجلي مبارك: ففي مارس 2013 أكدت شركة إيه إف جي هيرميس في القاهرة استمرار تملك جمال مبارك حصة في EFG Hermes Private Equity من خلال شركة بوليون، وتحقيقه لأرباح تبلغ نحو 880 ألف دولار سنويًا عن طريق استثماره في بوليون. والسبب الثاني لترجيح تملك آل مبارك لتلك الشركة هو أن سي بي بالما المالكة لناكودا المالكة لبوليون هي في الحقيقة ليست سوى "شركة خدمات" تقدم خدمات الواجهة، أي أنها شركة ليس لها وجود فعلي، بل يقتصر دورها على تملك شركات أخرى نيابة عن أشخاص آخرين لا يريدون لأسمائهم أن تظهر على الوثائق المتداولة للشركة.
بعد الثورة
في أبريل من عام 2013، قامت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية ومنظمة كورنر هاوس البريطانية بمخاطبة المفوضية الأوروبية لإبلاغهم بالمعلومات التي توصل إليها بحثهم والتي توصلت إلى كل تلك الشركات الموجودة في قبرص، ومطالبة المفوضية بإخضاعها لقرار الاتحاد الأوروبي بتجميد أرصدة آل مبارك وكبار معاونيهم ورجال الأعمال المقربين إليهم. وفي مارس 2014 أرسلت المفوضية الأوروبية رداً كتابياً على البلاغ يفيد بأن الاتحاد الأوروبي قد قرر تجميد أربعة أرصدة بنكية لجمال مبارك في قبرص ترتبط جميعاً بشركة بوليون.
كما قامت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية وكورنر هاوس بمخاطبة سلطات الجزر العذراء البريطانية لإبلاغهم بوجود أصول عائدة لآل مبارك لديهم، من بينها شركة بان وورلد انفستمنت. وطالبت المنظمتان بضرورة تجميد تلك الأصول وفقاً للقرار الصادر من سلطات الجزر العذراء بتجميد أموال 19 شخصية مصرية تشمل مبارك وعائلته والمقربين له، ومنهم بالطبع علاء وجمال مبارك. وجاء رد السلطات هناك بأنهم قاموا بفتح تحقيق في الأصول المذكورة في البلاغ، وأن السلطات ستقوم باتخاذ الإجراءات المناسبة بمجرد الانتهاء من التحقيق.
وتأتي التسريبات المنشورة ضمن "وثائق بنما" أمس لتكشف عن المحطة الأخيرة في تاريخ شركة بان وورلد، حيث تظهر تحرك السلطات في الجزر العذراء البريطانية لوقف الشركة وتجميد أموالها، ومعاقبة شركة موساك فونسيكا البنمية للخدمات القانونية لعدم تحققها بشكل صحيح من أموال علاء مبارك قبل تسجيل استثماراته في الجزر.
وفي تصريح لـ "مدى مصر" قال أسامة دياب من المبادرة المصرية للحقوق الشخصية: "منذ 2012 ونحن نعلم بوجود شركة بان وورلد وملكيتها لعلاء وجمال مبارك، ولكن التسريبات الجديدة تظهر للمرة الأولى أن سلطات الجزر العذراء البريطانية قامت بالفعل باتخاذ خطوات حقيقية لتجميد الشركة وهو ما يعد مفاجأة سارة نظراً لسمعة الجزر العذراء كملاذ ضريبي وغطاء معروف للأموال غير المشروعة القادمة من جميع أنحاء العالم".
لكن دياب شدد على أن أبعاد الصورة ما زالت بعيدة كل البعد عن الاكتمال، فالمعلومات التي تم الكشف عنها حتى الآن بشأن استثمارات آل مبارك وأعوانهم تتعلق بملاذ واحد هو الجزر العذراء البريطانية، ويرجع الفضل الأكبر في الكشف عنها إلى مرور أغلب هذه الاستثمارات عبر قبرص، والتي تخضع لقواعد الحد الأدنى من الإفصاح والشفافية بوصفها عضواً بالاتحاد الأوروبي.
ونوَّه دياب إلى أن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية طالبت الحكومة المصرية مراراً باتخاذ خطوات جادة للحد من ظاهرة نزوح رأس المال والأرباح المتحصلة في مصر إلى دول منخفضة أو معدومة الضريبة، والتي تمكن الشركات وبخاصة الكبرى منها على تفادي دفع الضريبة المستحقة في الدولة، بما يؤثر على قدرة الحكومة على كفالة الخدمات الأساسية للمصريين، مضيفاً أن "على الحكومة أيضاً مراجعة الإحصاءات الخاصة بالاستثمار الأجنبي في مصر للفصل بين الاستثمارات الحقيقية الواردة من مصادر أجنبية، وبين استثمارات هي في حقيقتها أموال مصرية تجري إعادة استثمارها في مصر في صورة أموال أجنبية بعد مرورها على ملاذات ضريبية خارج البلاد".
ينوه "مدى مصر" أن الزميل حسام بهجت عمل بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية في الفترة من 2002 وحتى 2013 قبل انضمامه لفريق الموقع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى