في الشارع الضيق المتواضع سكنت سيارتنا. زيجينشتور مدينة صغيرة، وإن كانت عاصمة لإقليم مشاكس. نزلت متعباً وأنا الآتي من العاصمة دكار بطائرة تتسع لستة أشخاص، على مقربةٍ وجدت مجموعة من الناس تصطف على جانبي الشارع وتهتف بالفرنسية، لغة البلاد الرسمية، ظننت أن زعيماً سياسياً سيمر.
استقبلني رجل بترحاب وقال إن كازامانس كلها ترحب بي، شكرته، قادني باتجاه المتجمعين، أردت أن أتخذ جانباً لا يزعج مصورنا الذي بادر إلى تسجيل هذا المشهد، فاجأني الرجل بقوله: عليك أن تمر بينهم، إنهم في انتظارك منذ الصباح الباكر، ليتك تفعل وترفع يدك تحية لهم، دهشت لكني تقمصت لدقائق دور الزعيم، قدرت للقذافي ولعه بهتافات الناس، لا يمر عليك يوم في السنغال إلا ويكون هناك ما يدهشك، حتى في هذا الإقليم الجنوبي المطالب بالاستقلال.
دخلت مقر الحركة الانفصالية، قدموني إلى زعيمها الأب دياماكون سنغور، رجل في نهاية عقده السابع، نُصّب قسيساً قبل أكثر من خمسين عاماً، وظل لفترة طويلة تحت الإقامة الجبرية بين بيته والكنيسة، شرح لي المسألة، تحدث طويلاً عن نضال شعبه ضد البرتغاليين والإنكليز والفرنسيين، واليوم "ضد هؤلاء الذين يعيشون معنا ويرفضون إرادة الحياة المشتركة ويتصرفون باستعمارية أكثر من المستعمر الأبيض".
قبل عام من زيارتي، أي عام ألفين وأربعة، وُقـّع اتفاق للسلام، لكن الأب سنغور يقول: ليس هناك سلام من دون عدالة، وليست هناك عدالة من دون الحقيقة، وليست هناك حقيقة من دون معرفة وتطبيق صحيح لقوانين الله وقيمه الأساسية.
عندما انتهيت من لقاء القس وبدأنا الاستعداد للرحيل أتى مساعده مع مساعدنا ليبلغوني أمراً مهماً، قالا لي: إن لديهم عادات يجب احترامها، قلت: على العين والرأس، ما المطلوب؟ قالا: من عادتنا أنك تأتي بهدية عند الزيارة، ارتبكت، وتصببت عرقاً وأنا أعتذر لهم عن أنني لم آتِ بشيء، قالا: لا عليك، يمكن أن تدفع مبلغاً نقدياً، فغرت فمي! كيف لي أن أدفع إلى حركة انفصالية مالاً، وقد أتيت في مسألة مهنية تماماً، دخلنا حواراً طويلاً أذعنت في نهايته، وإلا ما خرجت، دفعت خمسين دولاراً وانصرفت!
خرجت من عنده إلى حيث الخضرة، أكثر من ستين في المائة من مساحة كازامانس مغطاة بغابات تعبرها ممرات مائية، ويعيش بها نحو مليون وأربعمائة ألف نسمة، اثنان وستون في المائة منهم مسلمون، إلا أنهم نصبوا قساً زعيماً لهم، سألته وأجاب، شعاري واختياري الرهباني هو أن أكون قساً إلى الأبد حتى أزرع في العالم الحقيقة وعمل الخير والعدالة والسلام، وأغرس في قلوب الناس حكم الله.
كان أمامنا بعض الوقت قبل أن يحين موعد الطائرة التي ستعود بنا إلى العاصمة دكار، سار بنا مرافقنا بين واحدة من هذه الغابات، وعندما كنا في منتصف الطريق قال مساعدنا الذي أوفدته الحكومة معنا: إننا لا بد من أن نحترم تقاليد المنطقة وإلا تسبب ذلك في أزمة بين الحكومة والحركة المعارضة، صحت بالعربية: "تاني؟"، سألني ماذا تقصد؟ أجبت متسائلاً: ما المطلوب؟ قال: نذهب لزيارة زعيم القبيلة هنا.
في قلب الغابة، وعلى قارعة طريق، قيل لنا انتظروا هنا حتى نبلغ الرجل بقدومكم، مر وقت طويل، قلت لمساعدنا يبدو أن فخامته مشغول ولا بأس في أن نأتي مرة أخرى، رفض طلبي بشدة، جلست مع فريقي ننتظر، خرج علينا من الغابة شخص عاري القدمين، يرتدي زياً غريباً لونه أحمر، وتسير وراءه حاشية من شخصين.
كان مشهداً كاريكاتيرياً بالدرجة الأولى، وكنا نبذل جهداً في ألا نضحك حتى لا تسبب سخريتنا أزمة حقيقية، ألقى كلمته وترجمت لنا، ثم طلب مني إلقاء كلمة وترجموها له، وبعد أن أنهينا الحديث عن تعزيز العلاقات استأذنا في الانصراف بحجة ضيق الوقت فقيل لنا: ليس قبل انتهاء المراسم، مال مساعدي علي وفهمت، وأنقذتنا خمسون دولاراً أخرى من الموقف وانصرفنا.
في العاصمة دكار، سرادق ضخم، أضواء مبهرة، إنشاد تُميّز منه كلمات "الله" و"النبي" و"القرآن"، الرجال يتوافدون تباعاً، النساء يرتدين ملابس زاهية، الحلي الذهبية براقة، وما إن انتصف الليل حتى هلّ شيخ وقور، فهلل الحضور، ثم استمر الإنشاد وشرع في جمع الهدايا والهبات حتى بزوغ الفجر.
سألت، قالوا إنه المولد، ولما كان الزمن غير الزمن، فسروا لي أنه في عطل نهاية الأسبوع يتنافس الناس على إقامة الموالد، ولا علاقة للأمر بذكرى مولد النبي صلوات الله عليه.
هؤلاء السنغاليون صوفيون حتى النخاع، وحتى يكونوا مواطنين كاملي الأهلية لا بد للفرد منهم أن يكون منتمياً لهذه الطريقة أو تلك، ودون ذلك لا يستطيع المرء أن يعيش حياة عادية، كأن يلتحق بوظيفة أو يلحق ابنه بالمدرسة أو ينهي أي مصالح شخصية له، حتى قيل إن ولاء السنغالي إلى الطريقة قبل الشريعة، وإذا كرهت واحدة فاتبع الأخرى، التيجانية والمريدية والقادرية واللاينية، وغيرها كثير، وكل واحدة منها لها طقوسها المميزة، واستحقاقاتها المالية التي تلزم بها أتباعها.
أينما وليت وجهك ستجد صورة لمارابو، أي شيخ الطريقة، وقد أتت الكلمة من مرابط، ذلك المقاتل الذي يجاهد في سبيل الله، وهو في ثقافة الصوفيين هنا رجل مقدس، ممثل لله على الأرض، يتمتع بقدرة غير عادية، ولمَ لا وهو من حارب الوثنية، وحارب الاستعمار الذي كان باعتقادهم ينشر المسيحية، فلما نالت السنغال استقلالها، كان أول رئيس لها هو الشاعر المسيحي ليوبولد سنغور، فيما أربعة وتسعون في المائة من سكانها مسلمون.
الساسة هنا علمانيون، لكنهم أدركوا أن أقصر طريق إلى قصر الرئاسة هو التحالف مع شيوخ الصوفية، طمعاً في أصوات مريديهم، ففعلوا، على رغم إيمانهم بفصل الدين عن الدولة.
على طول الطريق من داكار حتى طوبة، آلاف المؤيدين يقفون على جانبي الطريق لتحية الرئيس؛ و"عبد الله واد" بسنواته الثمانين، وبشهاداته الجامعية التي يباهي بها أقرانه من رؤساء إفريقيا، وبسنوات نفيه وسجنه، لا يتعب ولا يمل من تحيتهم حتى إذا وصل إلى مبتغاه أوسعت له الجماهير طريقاً، فدخل إلى بيت متواضع، ثم إلى غرفة مزودة بإضاءة خضراء بها سرير، وشيخ وقور يجلس على كرسيه، دخلت مع فريقي الغرفة، فوجدت سيادة الرئيس يجلس على الأرض، عند أقدام هذا الرجل، الذي هو صالح إمباكي، شيخ الطريقة المريدية.
خلال الطريق الذي أوصلنا إلى هنا، أوقف الرئيس سيارته فجأة عند مجموعة من الفتية والفتيات الذين اصطفوا وهم يرتدون الشارات الحمراء معلنين غضبهم واحتجاجهم على سياسة الرئيس، وهي الطريقة التي ابتدعها الرئيس نفسه عندما كان معارضاً في عهد من سبقوه.
استمع الرئيس إلى مطالبهم، منح وعوده، ثم واصل سيره، وواصلت أنا التفكير، هذا البلد يعيش واحد وخمسون في المائة من سكانه تحت خط الفقر، ستون في المائة منهم أميون، لكنه أول بلاد إفريقيا تمرداً على نظام الحزب الواحد، بلد الإعلام الحر، ومظاهرات بلا شهداء، إنه يستمتع بالديمقراطية، فيما الانقلابات العسكرية في الأغلب هي التقليد السائد للوصول إلى السلطة في الدول المجاورة.
لن أنسى صباحي الأول في دكار، استدعاني الرئيس، دخلت غرفة صغيرة في قصر كبير، تبادلنا الحديث طويلاً، قال لي: سأخلد إلى النوم الآن، عُد في الرابعة بعد الظهر، في الموعد ركبت معه سيارته، صمتُّ، غادرنا القصر، وصلنا إلى قلب المدينة، طلب من السائق التوقف، ترجل، سرت بجواره، دقائق وكان العشرات حولنا، دقائق أخرى وكان المئات، أُطيح بي، وظل سيادة الرئيس وحده بين الناس، أتوا له بسيارة أخرى، على حافتها الخلفية وقف وأخذ في تحية الجماهير، ناضلنا حتى لحقنا به، دخلنا إلى سوق عامرة، ضاع الحرس والمرافقون، وبت وحدي وفريقي مع الرئيس، وهو يسألنا إلى أين نذهب، والحشود والهتافات تزيد، ظل الأمر لساعتين حتى استطاع حرسه الوصول إلينا والعودة بنا إلى قصره.. حقاً إنها بلاد الدهشة.
أسعد طه
متابعة أسعد طه على Twitter: www.twitter.com/assaadtaha
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى