فى مفاجأة من العيار الثقيل، قال ديفيد فريدمان، السفير الأمريكى لدى تل أبيب، إن الإدارة الأمريكية تُعدُّ الآن خطة سلام ستُعرَض ملامحها فى غضون أشهر قليلة، وإن حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية لا يتضمنها، ذلك أنه أصبح خالياً من المضمون بعد أن أصبح بلا معنى، وسواء عاجلاً أم آجلاً سيتم نقل مقر السفارة الأمريكية من تل أبيب للقدس، مؤكداً أن الرئيس دونالد ترامب سينفِّذ وعده فى هذا الشأن؛ لأنه رجل صاحب كلمة من ناحية، وهو يُصرُّ على ذلك، ولأن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل من ناحية أخرى. وفى حوار أجراه مع برنامج «TALK» ونشر نص الحوار موقع «والا» الإسرائيلى، أكد فريدمان أن المستوطنات جزء لا يتجزأ من دولة إسرائيل؛ لما تحمله من أهمية أمنية!!
من المؤكد أن هناك شيئاً ما يجرى فى كواليس المنطقة يتعلق بالقضية الفلسطينية، أو بمعنى أدق، بتسوية عربية واسعة مع إسرائيل، عبَّر عنها الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال زيارته الأخيرة لنيويورك بأن ذلك سوف يتيح لإسرائيل إقامة علاقات مع ٥٠ دولة إسلامية، ذلك أن تعبير «صفقة القرن» كان قد أطلقه من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، الذى التقاه الرئيس السيسى أيضاً فى اجتماع مطوَّل على هامش الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة.
بالتزامن مع ما يجرى، كانت حركة حماس قد أعلنت فى الآونة الأخيرة موقفين على قدر كبير من الأهمية، أولهما كان التراجع عن عقيدة فلسطين التاريخية، بمعنى التنازل عن الأرض التى احتلت عام ١٩٤٨، والتى أقيمت عليها دولة إسرائيل، وهى تمثل ٧٨٪ من فلسطين، وثانيهما التنصل من جماعة الإخوان المسلمين، واعتبار أن الحركة لا علاقة لها بالجماعة من قريب أو بعيد، سياسياً أو أيديولوجياً، فيما يشير إلى أن الموقف الأول كان رسالة إلى إسرائيل تُمهِّد للصفقة المشار إليها، بينما كان الثانى رسالة إلى مصر تحديداً، حتى يمكن للقاهرة بدء التعامل مع الحركة، وهو ما أسفر عن استضافة اجتماعات تمهيدية مع حماس، تُوِّجت بالإعلان عن افتتاح مكتب تمثيل بالقاهرة.
فى المقابل، وبمجرد عودة نتنياهو من اجتماعات نيويورك قامت إسرائيل بقصف العاصمة السورية دمشق بمجموعة من الصواريخ، استهدفت محيط مطار دمشق الدولى، إلا أن الحدث الأبرز كان ذلك الاحتفال الذى أقامته الحكومة الإسرائيلية، مساء الأربعاء الماضى، بحضور نتنياهو نفسه؛ إحياءً لذكرى انطلاق المشاريع الاستيطانية فى الأراضى الفلسطينية وهضبة الجولان السورية المحتلتين، مما أثار غضب الفلسطينيين، ذلك أن هذا الاحتفال الرسمى ضم ٥٠٠٠ مدعو على الأقل، وأُطلقت خلاله الألعاب النارية، وأحيته مجموعة فرق موسيقية، وجاء تحت عنوان «ذكرى تحرير يهودا والسامرة - فى إشارة إلى الضفة الغربية وغزة، وغور الأردن والجولان».
المهم، أنه مع الانفتاح العربى، والخليجى بصفة خاصة، على إسرائيل خلال السنوات الأخيرة بزعم التصدى لإيران، ومزاعم أخرى تتعلق بضغوط أمريكية، حيث شوهدت الوفود الإسرائيلية الرسمية فى عدد من العواصم، بخلاف اللقاءات الرسمية غير المعلنة - كانت الممارسات الإسرائيلية تسير على قدم وساق، سواء فيما يتعلق بمزيد من الاستيطان، أو بالإعلان عن ضم القدس والجولان، أو بسياسة المداهمات والتصفية الجسدية فى الضفة، وإطلاق الصواريخ على غزة، واختراق الطائرات طوال الوقت حاجز الصوت بجنوب لبنان، وهو ما يشير إلى أنه لا يبدو فى الأفق الإسرائيلى على الأقل ما يشير إلى أى نية من أى نوع تجاه تسوية سلمية حقيقية بالمنطقة، أو التمهيد لذلك ولو على المستويين الشعبى أو النفسى هناك.
على الجانب الآخر، يأتى تصريح السفير الأمريكى لدى إسرائيل ليزيح الغموض عن جانب كبير مما يجرى فى دهاليز مباحثات ما تسمى «صفقة القرن»، وكيف أن الأمر تجاوز وجود دولة فلسطينية، كما تجاوز وضع المدينة المقدسة أيضاً، وهو الغموض الذى جعل من الشعوب العربية بصفة عامة أمراً هامشياً من وجهة نظر السلطات الرسمية، على الرغم من الدماء التى سالت شعبياً، ليس فيما يتعلق بدول المواجهة فقط (فلسطين ومصر وسوريا والأردن)، وإنما من معظم الدول العربية، مع الوضع فى الاعتبار أن مفاوضات أوسلو التى قادها الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات، وأسفرت عن اتفاق غزة أريحا أولاً، كانت سبباً مباشراً فى وأد المقاومة الفلسطينية نهائياً، ولأجل غير مسمى، فى ظل وجود سلطة رسمية حملت على عاتقها هذا الهدف قبل تحرير الأرض، خاصة فيما بعد وفاة الرئيس عرفات.
الأمر الأكثر سوءاً هو أن الصراع الفلسطينى أصبح أيديولوجياً داخلياً أكثر منه وطنياً، بل الأدهى من ذلك أن الدعم العربى أصبح واضحاً وقوياً لتصعيد شخصيات فلسطينية تحوم حولها الشبهات من كل جانب، وهو ما يؤرِّق رجل الشارع الفلسطينى والعربى على السواء من ذلك الذى يجرى فى الخفاء، وهو ما يتطلب وضوحاً فى الرؤية قبل أن نفاجأ بمزيد من الكوارث العربية التى قد لا يتوقف أمرها على الجغرافيا الفلسطينية فقط، وهو ما بدا واضحاً فى مدلولات صفقة القرن، وما تصريح السفير الأمريكى إلا مجرد بداية.
أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذف