يحتل العالم العربي مكانة هامة في مذكرات الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، والتي نشرها في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وحازت شهرة واسعة بسبب صراحته غير المعهودة فيها، حيث بيع منها حوالي 1.7 مليون نسخة في أسبوعها الأول. إذ يتناول فيها أوباما أكبر قضايا السياسة الخارجية والداخلية التي تعامل معها في أول عامين من حكمه، وهي الفترة التي غطّاها الكتاب، بحس نقدي عالٍ لا يتوقف عن نقد أميركا وسياساتها وحلفائها المقربين.
ونظرا إلى أن أوباما تولي الرئاسة في 2008، أو بعد سبعة أعوام على أحداث "11 سبتمبر" في 2011، وإطلاق أميركا ما سميت الحرب على الإرهاب، وبعد خمس سنوات على غزو العراق، فقد احتل العالم العربي موقعا مهما داخل الكتاب، وعبر فصوله المختلفة. ففي بداية الكتاب، يتحدث أوباما عن حرب العراق، وكيف صاغت مستقبله السياسي، حيث اشتهر أوباما على الساحة الأميركية بعد غزو العراق، وخلال انتخابات عام 2004، والتي نافس فيها على مقعد مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية ألينوي، بسبب معارضته الحرب، وبسبب خطاب ألقاه أمام مظاهرة معادية للغزو في شيكاغو، وهو خطاب حاز اهتمام الناشطين الشباب كثيرا، مساهما في صعود نجم أوباما السياسي. ويقول أوباما إن حرب العراق سيطرت تقريبا على النصف الأول من حملته للفوز بالرئاسة الأميركية في 2007، قبل أن تطغى الأزمة الاقتصادية التي ضربت أميركا والعالم في ذلك الحين على النصف الثاني.
حس نقدي عالٍ لا يتوقف عن نقد أميركا وسياساتها وحلفائها المقرّبين
لذا حرص أوباما فور فوزه بالرئاسة على إسراع خطط سحب القوات الأميركية من العراق، وتنظيم الحرب في أفغانستان. وزار العالم العربي في يونيو/ حزيران 2009 لإلقاء خطابه الشهير في القاهرة، وذلك بعد أن زار السعودية، كما استضاف أوباما في واشنطن قمة عربية إسرائيلية لإعادة إطلاق مفاوضات السلام في سبتمبر/ أيلول 2009، وذلك قبل أن تنطلق أحداث الربيع العربي في أواخر عام 2010 وأوائل عام 2011، وهي الأحداث التي يفرد لها أوباما مساحاتٍ من كتابه، بعد أن ساهم تدخله فيها داعما جهود إطاحة الرئيس المصري حسني مبارك والرئيس الليبي معمر القذافي، في حين فشل في دعم مطالب التغيير في سورية والبحرين.
ماذا يقول أوباما عن العرب وحكامهم والمنطقة العربية في كتابه؟ أي صورة يرسمها لهم وللسياسات الأميركية تجاه المنطقة؟ وماذا يقول عن موقف مؤسسات بلاده المختلفة تجاه العالم العربي، وكيف يصنعون قراراتهم بخصوصه؟ إنها صورة هامة يرسمها رئيس أميركي سابق، بما توفر له من معلومات، ولا بد أن تؤثر على عقول كل من يقرأون الكتاب واسع الانتشار، وقد تساعدنا كذلك في فهم كيف ستتصرّف الإدارة الأميركية المقبلة بقيادة جوزيف بايدن، نائب أوباما السابق، تجاه قضايانا.
لعل الملمح الأول لتلك الصورة هو السلبية المترتبة على الاستبداد. لا يتردد أوباما في الحديث عن الطبيعة الاستبدادية لأغلب دول المنطقة، وكيف رضيت بها أميركا، وتحالفت مع تلك النظم للدفاع عن مصالحها. يقول: "على مدى نصف قرن على الأقل، ركّزت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بشكل ضيق على الحفاظ على الاستقرار، ومنع أي توقف لإمدادات النفط، ومنع القوى المعادية، كروسيا ثم الإيرانيين، من توسيع نفوذهم. وبعد 11 /9 احتلت جهود مكافحة الإرهاب مركز الاهتمام. تحالفنا مع المستبدّين في تحقيق كل الأهداف السابقة. كانوا متوقعين وملتزمين بالحفاظ على الوضع القائم. استضافوا قواعدنا العسكرية، وتعاونوا معنا في جهود مكافحة الإرهاب. وطبعا عقدوا صفقات كثيرة مع الشركات الأميركية. معظم جهود الأمن القومي الخاصة بنا في المنطقة اعتمدت على تعاونهم".
معادلة التحالف مع النظم الاستبدادية العربية في مقابل ضمان المصالح الأميركية تهيمن على نظرة أوباما تجاه مختلف النظم العربية التي تحدّث عنها في كتابه، حيث يؤكد أن تحالف أميركا مع مصر منذ توقيع أنور السادات اتفاقية سلام مع إسرائيل في 1979 جعل أميركا تغضّ الطرف عن "فساد النظام المصري المتزايد، وسجله الرديء في حقوق الإنسان وعدائه الموسمي للسامية". كما يقول إنه شعر بأن القادة العرب الذين شاركوا في القمة الرامية لإعادة إطلاق عملية السلام كانوا أشبه بممثلين بارعين يرتدون أقنعة، ومدرّبين على إسماع الرئيس الأميركي ما يريد سماعه، ليعودوا بعد ذلك إلى بلادهم، ويستمروا في سحق المعارضين". ويصف موقف جامعة الدول العربية من دعم التدخل العسكري في لبيبا "بالنفاق"، بسبب استبداد غالبية أعضائها الداعمين للقرار.
يتحدّث أوباما في كتابه عن تكتل النظم الاستبدادية العربية مع بعضها ضد محاولات التغيير
كما يتحدّث أوباما أيضا عن تكتل النظم الاستبدادية العربية مع بعضها ضد محاولات التغيير، وهو الملمح الثاني من الصورة التي يمكن أن يخرج بها القارئ من مذكّراته، حيث يتحدث عن الاتصالات التي تلقاها من القادة العرب الرافضين لضغوطه على مبارك خلال ثورة يناير ومطالبته بالتنحّي، ويخص بالذكر العاهل السعودي الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، وملك الأردن عبد الله الثاني، وكيف حذّروه جميعهم من مغبة إطاحة مبارك. كما يتحدث أيضا عن تكتل السعودية والإمارات والبحرين في مواجهة الموقف الأميركي من البحرين خلال موجة الاحتجاجات التي اجتاحها في 2011.
الملمح الثالث هو القنوط الأميركي من العرب ونظمهم الحاكمة ومنطقتهم. في بداية الكتاب، يتحدّث أوباما عن مطالبته سلفه الرئيس جورج دبليو بوش بـ"أن يتوقف عن دعم الحكومات القمعية وأن يفطم أميركا عن نفط الشرق الأوسط". ويؤكد، في معرض حديثه عن الثورة المصرية، أنه لولا ثورة المصريين لما اضطر للضغط على حليف أميركي مستبد، ولكن يعتمد عليه، كمبارك. ولظل بقية حكمه يتعامل مع مبارك، ومع النظام العربي نفسه، والذي يصفه "بالنظام السلطوي الفاسد المتعفن الذي يتحكّم في الحياة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، وهو وصفٌ استعاره أوباما من أحد مساعديه. كما يؤكد أيضا أنه تردّد كثيرا قبل التدخل العسكري في ليبيا، لعدم اهتمام الرأي العام الأميركي بما يحدث هناك.
يبدو العالم العربي في كتاب أوباما منطقة بعيدة يهيمن عليها الاستبداد، وتعيش غالبية شعوبها في فقر وبطالة
وهكذا يبدو العالم العربي في كتاب أوباما منطقة بعيدة يهيمن عليها الاستبداد، وتعيش غالبية شعوبها في فقر وبطالة وسخط على نظمها وأميركا. ولا يبدو أوباما، أو أغلب المحيطين به من قيادات سياسية، كوزراء الدفاع والخارجية والاستخبارات، معنيين بتحمّل أي تكاليف سياسية أو أعباء خارجية من أجل دفع حكام تلك المنطقة إلى التغيير. وتبدو أميركا بمؤسّساتها وتقاليدها السياسية الراسخة راضيةً بالتعامل مع الوضع القائم، وغير راغبة في تغييره.
وأخيرا تبدو بعض الملامح الإيجابية الصغيرة بالصورة، كصورة الشباب المصري الثائر في ميدان التحرير التي أثارت إعجاب أوباما، وجعلته يشعر بأنهم "لا يختلفون عن الشباب الذي ساعد في إسقاط حائط برلين، ولا يختلفون كثيرا عن الشباب الأميركي الذي ساعد على انتخابه رئيسا للولايات المتحدة"، وثورة الشعب التونسي الثائر والشعوب العربية الرافضة للوضع القائم وحديثه عن حقوق الشعب الفلسطيني، وهي صور إيجابية، ولكن لم تهيمن بأي حال على الصورة التي رسمها أوباما للعرب في كتابه، وطغى عليها الاستبداد والقمع ولغة المصالح ومحاولة الهروب من العالم العربي ومشكلاته وتبعاتها. وهي صورة سلبية قاتمة مهيمنة على عقول مسؤولين أميركيين كثيرين كما يوضح الكتاب، ولكن من شأنها أيضا مساعدة القارئ العربي على فهم كيف ينظر حاكم أميركي سابق، وكثيرون حول العالم إلى العالم العربي ونظمه الحاكمة، بعد عقود من هيمنة الاستبداد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى