بارباروسا أمير البحار
هل يعبر الحقد السنين؟ هل يجتاز الزمن دون أن يضعف بل العكس يزداد شراسة؟
هذا ما تثبته اله الإعلام الغربي المحافظة على صليبيتها تحت رداء زائف من التحضر والرقى والإنسانية
فها هي هوليود تقدم سلسة أفلام “قراصنة الكاريبي” بميزانية أكثر من 915 مليون دولار، وهو ما مكنها من جني أرباح هائلة تفوق 5 مليار دولار في شباك التذاكر، لا لشيء اكثر من تزوير الحقائق التاريخية عن طريق زج ودس شخصيات قيادية حقيقية في أفلام خيالية بهدف ترفيهي لتحقيق أغراض دعائية وترويج أجندة خاصة. لتشويه شخصيات بعينها لم يستطع الزمان محو حقدهم وكرههم لها
فهذا هو الكابتن بارباروسا والذي يظهر في فيلم “قراصنة الكاريبي” كقرصان شرير وسارق وواقع تحت لعنة ذهب الأزتيك المسحور بعد قيامه بسرقته، حيث يعرفنا عليه الفيلم تحت اسم “هكتور بارباروسا” قبطان لسفينة “اللؤلؤة السوداء” حيث يقوم باستخدام علم “الجمجمة والسيفين” الذي يعود للقرصان السيء السمعة “كاليكو جاك” الذي كان يقوم بنهب السفن في البحر الكاريبي في القرن الثامن عشر
هنا تظهر محاولة التشويه لإظهار القائد الإسلامي خير الدين بارباروس بمظهر قبيح وشائن ، ذلك القائد الإسلامي العظيم الذى حطم كبرياء وهيبة أعظم ملوك أوروبا في حقبة ما بعد العصور الوسطى، وهو الإمبراطور شارل الخامس أو شارلكان ملك أشبانيا والبرتغال وألمانيا وهولندا والنمسا وإيطاليا وهي الدول التي كانت تشكل قديمًا ما يسمى بالإمبراطورية الرومانية المقدسة. وجرعه كؤوس الهزيمة والذل
وتبدأ الرواية الحقيقية بكفاح واستبسال صاحب قصتنا خير الدين بارباروس أو المعروف لدى الإيطاليين بذي اللحية الحمراء ويعتبر من أكبر رموز الجهاد البحري في العهد الحديث، حيث إنه كان الأخ الأصغر للمجاهد البحري عروج الذي اتخذ من جزيرة جربة مركزًا للجهاد البحري، وقام بتحرير السواحل الجزائرية من الاحتلال الإسباني وتأسيس دويلة مستقلة عن الاحتلال الإسباني في شمال الجزائر، واستطاع إنقاذ آلاف المسلمين في الأندلس من محاكم التفتيش الإسبانية عن طريق أسطوله البحري وهذا ما لم يسامح فيه الغرب الصليبي حيث كان مسلمي شمال إفريقيا بشكل خاص طرفًا أساسيًا في معادلة الصراع الخالدة بين الإسلام والنصرانية على أرض الأندلس، فتدخل مسلمي الشمال الإفريقي المتكرر أنقذ دولة الإسلام في الأندلس من السقوط عدة مرات، ولولا فضل الله عز وجل بتقييض هؤلاء الأبطال لنجدة مسلمي الأندلس لسقطت الأندلس من قبل ذلك التاريخ (897هـ) بقرون.
لذا فما إن أحكم الإسبان قبضتهم على الأندلس حتى وثبوا مباشرة بعدها على العالم الإسلامي مدفوعين هم والبرتغاليون بشحنات ضخمة من الغل والحقد والكراهية على العالم الإسلامي عامة وشمال أفريقيا خاصة ، وقد تبارى كل من الإسبان والبرتغاليين في الهجوم على السواحل الإفريقية، فاستولى الإسبان على تونس والجزائر واستولى البرتغاليون مدن أسفى وأزمور والكثير من المراكز الجنوبية في المغرب الأقصى، كما استولوا أيضًا على طنجة وسبتة.
و لم يقف مسلمو الشمال الأفريقي مكتوفي الأيدي أمام هذه الهجمات الصليبية المتتالية وكان مسلمو الأندلس الذين هاجروا إلى بلاد الشمال الإفريقي أكثر الناس استجابة لداعي الجهاد، وكانوا في الأصل خبراء ومهرة في مجال الجهاد البحري، فانتظموا في عمليات قتالية بحرية ضد السفن الإسبانية والبرتغالية لرد عدوان تلك القوى الصليبية عن الشمال الإفريقي، مما زاد من وتيرة الصراع بين الجانبين. وكان لدخول السلطان العثماني سليم الأول لبلاد مصر في أواخر سنة 922هـ الأثر البالغ في تقوية الأساطيل البحرية العثمانية، وتطلع الدولة لمد نفوذها إلى سائر دول الشمال الإفريقي، بعدما اعتبر السلطان سليم الأول خليفة للمسلمين وحامي بلاد الحرمين، وكان لظهور شخصية البطل خير الدين بارباروسا على ساحة الأحداث في الجزائر دور كبير في تسريع وتيرة انضمام الشمال الإفريقي للدولة العثمانية.
فقد تمكن خير الدين بارباروسا بمساعدة أخويه الشهيدين عروج وإلياس أن يسيطر على الجزائر وينتصر على ولاة الإسبان وعملائهم من بني حمود وغيرهم، ونظرًا لخطورة وحساسية الأوضاع داخل الجزائر وتربص الإسبان بهم، طلب الجزائريون من السلطان سليم الأول أن يدخلوا في حماية الدولة العثمانية، وأن ينصب عليهم خير الدين بارباروسا حاكمًا وقائدًا عامًا للقوت المدافعة عن الجزائر، وذلك سنة 925هـ، فوافق السلطان سليم الأول على الفور ومنح خير الدين بارباروسا لقب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأمده بالعتاد والرجال وفتح المجال لمن يشاء في السفر إلى الجزائر للانضمام لصفوف المجاهدين، ومنح المتطوعين مزايا الجنود النظاميين تشجيعًا منه للهجرة إلى الجزائر.
حقق بارباروسا نجاحات باهرة في القتال البحري ضد الإسبان، كما قضى على بقايا الجيوب الموالية للإسبان مثل حصن البنيون الذي استولى عليه بعد معركة بحرية طاحنة سنة 934هـ،
قرر الإمبراطور شارل الخامس مواجهة نشاطات خير الدين البحرية، بطريقة "لا يفل الحديد إلا الحديد" ، فاستعان بخدمات القبطان الجنوبي الشهير "أندريا دوريا" وكان من أمهر قادة البحر النصارى، وربما الأمهر على مر العصور، فشرع في بناء أسطول ضخم واستعان بخبرات فرسان القديس يوحنا بعد طردهم من جزيرة رودس، وبدأ "دوريا" في الهجوم البحري على ثغور الدولة العثمانية، فاستدعى السلطان سليمان القانوني البطل بارباروسا إلى إستانبول وعينه قائدًا عامًا للبحرية العثمانية، فشرع خير الدين في تجديد البحرية العثمانية وتحديثها، ولما تكاملت استعداداته خرج للقاء عدوه اللدود "أندريا دوريا" فانتصر عليه في عدة معارك بحرية واسترجع كورون وليبانتو وتونس، وأغار على سواحل إيطاليا الجنوبية وجزيرة صقلية وبسط النفوذ العثماني على غربي البحر المتوسط.
وبعد توقيع المعاهدات التي عرفت تاريخيًا بالامتيازات الأجنبية بين الدولة العثمانية وفرنسا، تصاعدت وتيرة العمليات الحربية البحرية ضد السواحل الأوروبية، واهتزت أوروبا بأسرها من روع هذه العمليات، وهدد بابا روما ملك فرنسا "فرانسوا الأول" بالحرمان الكنسي إذا لم ينقض عهده مع العثمانيين فوافق دون تردد، فغضب خير الدين من هذه الخيانة واستولى على معظم جزر بحر إيجة، مما أدى إلى تشكيل حلف صليبي بحري كبير بقيادة دوريا، غير أن خير الدين قد أوقع بهذا الحلف البحري هزيمة كبرى عند "يريفيزا" في ألبانيا.
إزاء كل هذه النجاحات الكبيرة للبحرية العثمانية وقائدها البطل خير الدين بارباروسا، قرر شارل الخامس القيام بعمل كبير يحفظ له هيبته ومكانته بين ملوك أوروبا، فاستغل فرصة انشغال الدولة العثمانية بالحرب ضد الشيعة الروافض الصفويين في بلاد فارس والعراق، وهجم على تونس بأسطول بحري ضخم مكون من 500 سفينة وثلاثين ألف مقاتل أسباني وهولندي وألماني وإيطالي وصقلي وذلك سنة 942هـ، وحاول خير الدين وقف هذا الهجوم الضخم ولكنه لم يستطع لأسباب كثيرة من أهمها خيانة الأمير الحسن بن محمد الحفصي حاكم تونس، وفرار الأعراب عن الجهاد، والتفاوت الواسع بين الجانبين.
عاد خير الدين إلى الجزائر في مهمة مؤقتة لالتزاماته كقائد عام للبحرية العثمانية، وتمثلت هذه المهمة في ردع شارل الخامس عن فكرة الهجوم على الجزائر والرد عليه بصورة عملية وقوية على احتلال تونس، فأغار خير الدين على جزر البليار، واجتاز مضيق جبل طارق، وانقض على السفن الإسبانية والبرتغالية العائدة من أمريكا حملة بالثروات وذلك سنة 943هـ. بعدها عاد خير الدين إلى استانبول وترك القائد حسن الطوشي نيابة عنه في ولاية الجزائر على أن يستمر في التصدي للبحرية الإسبانية والبرتغالية في الحوض الغربي للبحر المتوسط، فأدى حسن الطوشي مهمته على أفضل ما يكون فأنزل بالإسبان عدة هزائم بحرية جعلت الأمم النصرانية تتشكك في كفاءة وقيادة عاهلها الأكبر الإمبراطور شارل الخامس، حتى أن البابا بول الثالث بعث إليه برسالة بهذا المعنى حاثًا له فيها على الهجوم على الجزائر للقضاء على حركة الجهاد البحري القوية هناك. فكانت معركة باب الواد الأسطورية في 28 جمادى الآخرة سنة 948هـ / 15 أكتوبر 1541م، فجمع حسن الطوشي قادة الجند وأمراء البحر والأعيان وكبار رجال الدولة، وشرح لهم خطورة الأمر، ونية شارل الخامس، وحثهم على الجهاد والدفاع عن الدين والأرض والعرض، وقد ألهب حماسهم عندما قال لهم: "لقد وصل العدو عليكم ليسبي أبناءكم وبناتكم، فاستشهدوا في سبيل الدين الحنيف ...." فبايعوه جميعًا على الجهاد والثبات. وأخذ يستعد للمعركة وأثناء ذلك ارسل له شارل رسالة تفيض غطرسة وسخرية يريد من ذلك تحطيم معنويات المدافعين وقد هدده فيها بتخريب البلاد كلها وقتل السكان جميعًا، فرد عليه حسن الطوشي يقول: "غزت أسبابا الجزائر في عهد عروج مرة وفي عهد خير الدين مرة، ولم تحصل على طائل، بل انتهبت أموالها، وفنيت جنودها، وستحصل المرة الثالثة كذلك إن شاء الله، فتعالى واستلم القلعة، ولكن لهذه البلاد عادة، أنه إذا جاءها العدو، لا يعطى إلا الموت".
لكن على ما يبدو أن شارل الخامس لم يكن يتوقع ذلك الإصرار والثبات من أهل الجزائر في ظل غياب القائد خير الدين بارباروسا، لكن المجاهدون الجزائريون لم يمهلوه وقت للتفكير والتقاط الأنفاس، فهجموا على الفور بكل قوة وشجاعة رغم ضخامة القوات الإسبانية البرية، وكان مجاهدو الجزائر يهاجمون الصليبيين على شكل الأمواج المتتالية، فوج بعد فوج. وكان الجزائريون قد أقبلوا من كل مكان عندما علموا بنزول الصليبيين إلى البر الجزائري، وكأن السموات والأرض ومن فيهن يقاتل مع العصبة المؤمنة، وقد سخر الله عز وجل الريح والأمواج العاتية والأمطار الغزيرة لصالح جنود الإسلام، فقد هبت ريح عاصف استمرت عدة أيام فاقتلعت خيام الصليبيين، وارتطمت سفنهم بعضها ببعض، فغرق كثير منها بمن عليها، وقذفت الأمواج الهادرة بعض السفن إلى الشاطر فأخذه المسلمون غنيمة باردة، أما الأمطار فقد أفسدت مفعول البارود.
بعد فشل الهجوم البحري حاول شارلكان مهاجمة مدينة الجزائر بفرقة الخيالة الإسبانية بالاشتراك مع فرسان القديس يوحنا، فتصدت لهم فرقة الحاج البشير قائد خيالة الجزائر، وكما هو معلوم عبر التاريخ بكل مراحله أن المجاهدين المخلصين لا يستطيع أحد مهما كانت قوته وتعداده أن يصمد أمامهم في ميادين القتال المفتوحة حيث القتال فيها رجل لرجل، وبعد خسارة ضخمة في الأرواح اضطر شارل الخامس أن ينسحب بفلول جنوده، وركب ما تبقى من أسطوله واتجه ناحية إيطاليا بدلاً من أشبانيا. فكان فشله على أبواب الجزائر للمرة الثالثة ضربة عميقة الأثر لهيبة ونفوذه ومكانته، وتطورت الأحداث في أوروبا بشدة، وانضم العديد من ملوك أوروبا إلى حلف فرنسا والدولة العثمانية، مثل ملك الدانمارك وملك السويد، ولم يبق على ولائه لشارل الخامس سوى هنري الثالث ملك إنجلترا.
ولم يعد شارل الخامس قادرًا على توجيه حملات كبيرة إلى الشمال الإفريقي، وأخذ في تغيير خططه والاعتماد على الخونة والعملاء من بقايا الأسر القديمة مثل بني زيان وبني وطاس وغيرهم وهو التكتيك الذي ما زال أعداء الإسلام يتبعونه مع الأمة الإسلامية.
توفي خير الدين عن عمر 65 عاما في قصره المطل على مضيق البوسفور بالاستدانة وخلفه ابنه حسن آغا في حكم الجزائر. وما زال قبره ماثلا للعيان في إسطنبول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى