"اتفاقية عنتيبي" وتحدّي الأمن المائي السوداني المصري
مثلت اتفاقية "عنتيبي" نقطة تحول خطيرة في إدارة المياه بين دول حوض النيل، وسيفاقم دخولها حيز التنفيذ التوترات القائمة بين هذه الدول.
في خطوة مفاجئة، أعلنت حكومة جنوب السودان، في الثامن من الشهر الجاري، مصادقتها على الانضمام إلى الاتفاقية الإطارية لتعاون دول حوض النيل، والمعروفة باسم "اتفاقية عنتيبي".
وجاءت مصادقتها في ظرف إقليمي بالغ الدقة وشديد التعقيد، تتعرض فيه دولتا مصب نهر النيل، السودان ومصر، لتحديات عظمى، تتمثل بالتهديد الوجودي للسودان من جراء العدوان عليه، منذ منتصف نيسان/أبريل 2023، وبطوق النار المضروب على الثانية، من نيران الحروب المشتعلة في شماليها الشرقي في غزة، وغرباً في ليبيا، وجنوباً في السودان، فضلاً عن تعاظم التحديات الداخلية التي تشكل الأوضاع الاقتصادية مظهراً رئيساً من مظاهرها.
يعود تاريخ هذه الاتفاقية إلى عام 1999، الذي أطلقت فيه بعض دول حوض النيل مبادرة تعاون مشتركة برعاية من البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تتضمن مبادئ وهياكل ومؤسسات، وتهدف إلى إعادة التنظيم والإدارة للموارد المائية لنهر النيل والموارد المجاورة.
استمرّ الحوار بشأن الاتفاقية بين الدول المعنية بها مدة 10 أعوام، قبل أن توقع 6 منها عليها في 14 أيار/مايو 2009 في عنتيبي في أوغندا، في ظل موقف رافض لبعض بنودها من جانب السودان ومصر، اللذين رأيا أنها تشكل تهديداً لأمنهما المائي إذا لم تأخذ الدول الموقعة بملاحظات جوهرية أبدتها الدولتان، وخصوصاً الملاحظة المتعلقة بصياغة "المادة 14/ب"، التي تنص على أنه "تتفق دول حوض النيل بروح التعاون على عدم التأثير الكبير في الأمن المائي لأي دولة أخرى في حوض النيل".
واقترحت دولتا المصب تعديل نص هذه المادة، لتصبح: "عدم التأثير بصورة كبيرة في الأمن المائي والاستخدامات الحالية وحقوق أي دولة أخرى في حوض النيل".
ورفضت دول المنبع والممر هذا التعديل، بحجة أنه يتضمن عبارة "الاستخدامات والحقوق الحالية"، والتي تخشى دول المنبع والممر أن ترسّخ مفهوم الحقوق التاريخية السابقة التي أنتجتها اتفاقية قسمة الموارد المائية بين السودان ومصر عامَي 1902 و1959، وتلك التي كرستها الممارسة العملية التاريخية الخاصة بقسمة تلك الموارد.
مثّل توقيع دولة جنوب السودان على "اتفاقية عنتيبي" فرصة سانحة لإحيائها وإعادة الاهتمام بها والعمل عليها، لأن مصادقة الجنوب أكملت النصاب الذي ظل مفقوداً على مدى 15 عاماً، وحال دون دخولها حيز التنفيذ، كما مهد التوقيع الطريق أمام إيداعها منظمة الاتحاد الأفريقي بعد 60 يوماً من تاريخ مصادقة الجنوب عليها.
يعقب الايداع إنشاء المؤسسات الخاصة بهذه المعاهدة، وفي المقدمة منها مفوضية دول حوض النيل بصفتها سلطة إقليمية معنية بالتنظيم والإدارة والتنفيذ لسياسات الدول الخاصة بالمياه، والتي قد تحظى باعتراف من الجهات الدولية ذات الصلة، الأمر الذي يصبغ أعمالها بطابع فني ذي أبعاد قانونية وسياسية.
يضاعف ذلك مخاوف السودان ومصر، ويفتح الباب أمام إصدار المفوضية قرارات والقيام بأعمال غير متفق عليها تضرّ بمصالح الدولتين، مثل تعديل أنصبتهما وحصتيهما من المياه التي أقرتها اتفاقيات مياه النيل. كما يفتح الباب لانفراد دول المنبع بالقرار المائي، وتقنين سيطرتها على حاضر مستقبل شؤون حوض النيل، وقيامها بنسج شراكات بإرادة منقوصة مع دول من خارج دول الحوض ومن خارج القارة الأفريقية، مثل "إسرائيل" الطامعة في مياه النيل والحالمة بتوسيع جغرافية المشروع الصهيوني من الفرات إلى النيل.
لقد مثلت "اتفاقية عنتيبي" نقطة تحول خطرة في إدارة المياه بين دول حوض النيل، وسيفاقم دخولها حيز التنفيذ التوترات القائمة بين هذه الدول.
وسيتعزز الانقسام السياسي بين أوغندا ورواندا وبوروندي وكينيا وتنزانيا وإثيوبيا وجنوب السودان بصفتها دول منبع وممر، وبين دولتي المصب السودان ومصر.
وقد يتطور ذلك إلى انقسام داخل القارة الأفريقية بين شماليها وجنوبيها، وهذا ما سيضع الأمن القومي لوادي النيل أمام تحديات عظمى، ستوثر بصورة مباشرة في الأمن القومي الأفريقي والأمن القومي العربي، وستلقي ظلالاً سالبة على مجمل الأوضاع الاقليمية والدولية.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى