بهاء طاهر : ماذا حدث لثورتنا؟
اسمحوا لي أن أستنسخ في البداية السطور الأخيرة من مقالي السابق الذي انتقدت فيه أداء قناة الجزيرة في مصر اذ قلت نصا: أكرر هنا ماذكرته منذ أول مقال لي قبل عشر سنوات عن هذه القناة
وهو أن التصدي لايكون عن طريق اغلاق مكاتبها أو طرد مراسليها, ففي عصر السماوات المفتوحة يفيدها هذا أكثر مما يضرها يزيدها دعاية وانتشارا ويكسبها مصداقية لاتستحقها, التصدي الفعال يأتي من طرفنا نحن بأن يكون إعلامنا قويا قادرا علي المنافسة.
وفي المقال السابق علي هذا مباشرة, وكان عنوانه وحدة الصف والجزيرة كتبت أيضا: السبيل الوحيد لمواجهة الجزيرة وأي غزو اعلامي آخر هو أن ينهض اعلامنا الوطني ليكون كفؤا وكافيا فالحجر علي نشاط القناة لن يتحقق ولن يجدي.
هل كان يمكن أن أكون أكثر وضوحا في هذين المقالين وغيرهما مما كتبت في رفضي للمصادرة والحجر علي حرية الرأي والتعبير؟ لقد قضيت نصف عمري نفيا وتشريدا بسبب الدفاع عن حرية الرأي فما الذي يمكن أن يدعوني في آخر العمر إلي التخلي عن هذا المبدأ؟ لهذا فأنا أنصح من ربطوا تعسفا بين مقالي في الأهرام وإغلاق قناة الجزيرة مباشرة أن يعيدوا قراءة المقالين من جديد ليدركوا أن هذا الاغلاق المؤسف قد جاء ضد نصيحة الكاتب لاستجابة للنصيحة. ويكفي هذا لنطوي الصفحة ولنتذكر ثورتنا.
سيذكر من يخشي بالفعل علي مستقبل هذا الوطن وثورته, كيف كنا وكيف أصبحنا في البدء عشنا زمنا رغدا بعد52 يناير من الأفراح الثورية والأناشيد الوطنية وتصدرت المشهد علي الشاشات صور الشباب الذين صنعوا الثورة, اي الذين دعوا اليها ونظموها فانضم لها الملايين وزاد هؤلاء الشبان قدرا ومكانة في النفوس حين ظهرت وانتشرت صور الشهداء والشهيدات, وأصبحت أيقونات للثورة يحملها الناس علي صدورهم باعتزاز ممتزج بالشجن لهذه الأرواح الطاهرة التي دفعت بدمائهما ثمن حريتنا, وظلت شاشات التليفزيون علي مدي أسابيع تنقل صورة الميدان الدائري المشغول بأكمله بالثوار مثل زهرة عملاقة ترفرف فوقها أعلام الوطن, وعبرت هذه الصور الحدود فانبهر لها العالم الذي خطفت لبه منذ البدء هذه الثورة السلمية الشجاعة فأصبح ميدان التحرير مزارا سياحيا تتري عليه وفود الأجانب لتشاهد الحرم الذي انبعثت منه المعجزة لمجرد أن تراه وتطوف به.
وتكلل الأمر كله حين ظهر علي الشاشة القائد العسكري الكبير ليؤدي التحية لشهداء الثورة فدخلت هذه اللفتة القلوب وانعكست مزيدا من الاعتزاز بجيشنا الوطني الذي حمي الثورة ومكن لها النجاح.
ظلت مصر كلها خلال هذا العيد الثوري علي قلب رجل واحد, انتشرت حكايات الوحدة الوطنية التي تألقت علي نحو غير مسبوق حين كان المسيحيون يحمون المسلمين في أثناء صلواتهم وسط قصف النيران وهجمات البلطجية والمسلمون يقدمون الحماية نفسها لإخوانهم الأقباط وذاعت قصص تحول الميدان الي يوتوبيا( أي مجتمع مثالي فاضل) اذ لم يشهد المكان الذي ضم الآلاف المؤلفة علي امتداد أسابيع الثورة جريمة واحدة, بل ولاحالة تحرش واحدة, وفي هذه اليوتوبيا ائتلف اليمين واليسار والاسلاميون والعلمانيون والشيوخ والشباب وكل طبقات الشعب علي اختلافها.
هذا ماكان في عيدنا الثوري( القصير مع الأسف) أما الآن فمن بعد هذه الوحدة الباهرة قد أصبحنا أمما شتي, حل التنابذ والانقسام والاقصاء وتبادل الاتهامات بل تبادل السباب محل التآلف القديم الرائع لكل مكونات الأمة.
وواجبنا أن نحاول فهم السبب أو الأسباب وراء هذا الانقلاب النكد.
لايهم ترتيب الحوادث زمنيا في هذا السياق ولكن فلتذكر أن أول شرخ كبير في جدار الوحدة كان احياء الفتنة الطائفية بحرق كنيسة اطفيح, تخيلنا أن الثورة قد وضعت نهاية الفتنة التي كان النظام البائد يشعل نبرانها ليتحكم في المسلمين والمسيحيين معا, لكن النار كانت تحت الرماد وهناك من يغذي جذوتها, وبدلا من العودة الي الحديث عن عوامل الفتنة فلنركز علي المفاجآت أو الأخطاء في علاجها. فبينما كان المأمول من السلطة الثورية الجديدة( ممثلة في المجلس الأعلي ومجلس الوزراء) التصدي للمشكلة بحزم في اطار القانون فقد لجأت الي الجماعات السلفية المتشددة للتوسط في حل الأزمة, مثلما لجأت اليها عند نشوب الفتنة في قنا وقطع طرق المواصلات والسكك الحديدية كان الرأي العام يتطلع الي أن تظهر الدولة هيبتها وقوتها ليشعر المجتمع بدوره بالاطمئنان الي أنه يحيا في دولة القانون غير أن الدولة أبدت اللين والتسامح في غير موضعهما مما شجع الخارجين علي القانون ودعاة الفتن علي التمادي في غيهم ثم ان اللجوء الي الجماعة السلفية عزز انطباعا سائدا ومقلقا بأن هناك نوعا من التوافق بين التيارات الدينية والسلطة الحاكمة, ومما أكد هذا الانطباع أن الدولة اقصت بالتدريج الشباب الثوري الذي قاد ثورة مدنية في جوهرها ولم تترك لهم مجالا للتعبير عن أنفسهم ومطالبهم الا التظاهر في ميدان التحرير الذي أصبحت تضيق به ذرعا بينما تتهم أبواق السلطة هؤلاء الشباب بأنهم يعطلون عجلة الانتاج ويسببون انفلات الأمن وقطع المواصلات والمشاكل الأخري التي يعاني منها البلد وذلك بسبب تظاهرهم في يوم العطلة الأسبوعية وفي مكان واحد من العاصمة.
وليت ذلك عوضه انفتاح علي مكونات المجتمع المدني الأخري للأخذ والعطاء, بالعكس ظل المجلس العسكري نائيا وبعيدا وظل مجلس الوزراء مجهولا
محطة رئيسية أخري في احداث الانقسام في جسد المجتمع هي الاستفتاء علي تعديل الدستور كان ذروة الفرح بالثورة الذي أقبلت عليه ملايين غير مسبوقة وتقبلت نتيجة الاستفتاء غالبية الشعب ممن قالوا نعم وممن قالوا لا علي السواء غير أن هذا الاستفتاء الذي كان يتعلق أساسا بالمواد التي تحجم سلطات رئيس الجمهورية المقبل وبوضع خريطة طريق للتحول الديمقراطي بالتدريج ليصبح شيئا أو أشياء أخري تماما, فقد اعتبرته التيارات الدينية استفتاء حصريا علي تطبيق الشريعة وعلي رفض فكرة الدولة المدنية ومن يدعون اليها, بل اعتبرها بعض أعضاء المجلس العسكري استفتاء علي الثقة بهذا المجلس من جانب الأغلبية التي صوتت بنعم, هذا مع أن أيا من تلك الأمور الثلاثة لم يكن مطروحا للاستفتاء صراحة أو ضمنا ثم أدخلنا الاستفتاء في دوامات الدستور أولا, أو الانتخابات أولا والنتيجة هي مزيد من الاستقطاب والاقصاء المتبادل, وسعي بعض التيارات الدينية الي الاستقواء بالمجلس العسكري وسعت تيارات أخري الي الاستقواء بقوتها الذاتية.
عامل ثالث مهم في ضياع روح ثورتنا الحقيقية هو عودة أنصار النظام السابق للعمل علنا وبقوة تحت مسمي أبناء مبارك أو آسفين ياريس أو غير ذلك من الترهات, وقد اعتبرت ومازلت أصر علي أن السماح لهذه الفلول بالعمل لاعلاقة له باحترام الديمقراطية أو حرية الرأي الآخر ولكن له علاقة مباشرة بالسعي الي هدم الثورة وتقويضها وقلت من قبل ان الواجب الأول لأي ثورة حتي قبل السعي الي تحقيق أهدافها هو حماية الثورة نفسها, لم يحدث في أي ثورة في التاريخ أن خرج انصار النظام المباد ليدعوا مطمئنين الي عودة هذا النظام في عز المد الثوري.
هل يتخيل أحد أنه كان يمكن أن تخرج في شوارع باريس بعد الثورة الفرنسية مظاهرات باسم أبناء لويس السادس عشر أو أن من الممكن أن يسمح المجلس الانتقالي الليبي اليوم بخروج مظاهرات في بنغازي تحت شعار ابناء القذافي؟
مثل هذا عبث بل هو جريمة لاتغتفر في حق الثورة وخيانة لها تستدعي التحقيق والمساءلة.
ومن البديهي أن تسعي هذه الفلول الي تلويث صورة ثورة الشباب وقد أتيحت لهم بغرابة منابر في الإعلام وفي الفضائيات تتهم هؤلاء الشباب الأطهار بكل نقيصة فهم عملاء لقوي خارجية يقبضون مالا, وهم خونة وماسونيون يعملون لحساب إيران واسرائيل وحماس معا في وقت واحد.
ومن أسف أننا نترك هذه القنوات بملء حريتها, ولكن السلطة الحاكمة لم تصبر علي المذيعة القديرة دينا عبد الرحمن التي شاركت بشجاعة في الثورة بشخصها وبرامجها, فأبعدتها عن العمل في لحظة واحدة واستمر ابعادها حتي الآن بينما يعمل أحمد سبايدر شتام الثورة بكل حرية هو وأشباهه.
ومن اسف أيضا أن المجلس العسكري قد أسهم بدوره في حملة الهجوم علي شباب الثورة حين اتهم أحد أعضائه حركة6 ابريل وحركة كفاية بالعمالة للخارج, لم يصحب الاتهام أي دليل ولكن سرعان ماتلقفه خصوم الثورة لتعميم الاتهام علي حركات الثورة وشبابها جميعا.
وبالرغم من كل ماذكرته وكل مايمكن توجيهه من نقد لأعضاء في المجلس العسكري فأنا ممن يعتقدون أن هذا المجلس صمام أمان للوطن في غيبة مؤسسات الدولة الدستورية وأعتقد أننا يجب أن ندعم هذا المجلس حتي لايهتز أساس بناء دولتنا لاقدر الله, وهذا يلقي علي عاتق المواطنين مسئولية كبيرة تحتاج الي الصبر والاحتمال, ويلقي مسئولية مماثلة علي عاتق المجلس العسكري الذي اختار أن يكون مؤتمنا علي الثورة. عليه أولا أن يقترب أكثر من الثوار الحقيقيين, وأن ينأي عن خصومهم بالدرجة نفسها وأن يدرك ثانيا وثالثا أن قوانين الطواريء لاتصلح لحكم الثورات.