فاتن حمامة
أغسطس 31, 2019
إظهار الرسائل ذات التسميات فاتن حمامة. إظهار كافة الرسائل
إظهار الرسائل ذات التسميات فاتن حمامة. إظهار كافة الرسائل
31/08/2019
27/05/2015
فاتن حمامة
مايو 27, 2015
مذكرات فاتن حمامة (1): طفولتي بين «يوم سعيد» وضحكات عبد الوهاب
القاهرة: السيد الحراني
مذكرات
ومسيرة وسيرة الفنانة الراحلة فاتن حمامة، الإنسانة والحالة الفنية
الرائدة في عالمنا السينمائي المصري والعربي، والتي صنعت تاريخها بميزان
صائغ، وأزاميل نحات، وسيرة ملتزمة، قلما نجد فيها أخطاء المبتدئات أو ما
يمكن أن يجرح حضورها الذي كان دائما استثنائيا التي تنشرها {الشرق الأوسط}
بترتيب مع وكالة «الأهرام» للصحافة.
قبل نحو سبع سنوات من رحيلها بدأت مع فاتن حمامة رحلة طويلة من الاتصالات والمعايدات في بعض المناسبات المختلفة، واستطعت في بعض الأحيان «اختراق الحاجز» وإقناعها بإجراء مجرد حوارات صحافية معها لأنشرها في بعض المجلات والصحف العربية والمصرية، ولم تكن تبخل أبدا علي بذلك. حدثتني عن ملامح متفرقة من حياتها الشخصية وعن مجتمعها الذي رحل بتقاليده وأعرافه. بدأت من جديد أطرح الفكرة التي رفضتها من قبل ولكنها في تلك المرة طلبت مني فرصة كي تعيد ترتيب أفكارها وتدرس الأمر بشكل جدي قبل أن تجيبني.
وبالفعل تركتها وأنا في حالة غريبة وعجيبة من النشوة، لعل كان أهم أسبابها أنني في حالة موافقتها على أن أسطر كتابا عنها سيكون معظم مادة الكتاب جاهزا ومتوفرا تحت يدي، وهو تلك الحوارات التي كنت قد أجريتها معها ولم أكن قد نشرتها بعد، إذ كنت أحتفظ بها لمثل ذلك اليوم. وبالفعل بعد مدة قد تكون طالت وأثناء حديث تليفوني بيننا وافقت فاتن على أن أقوم بصياغة وكتابة مادة ذلك الكتاب. ولما قابلتها بعد المحادثة التليفونية ابتسمت وهي تلمس شفتيها بأنامل يدها اليمنى، وكانت تلك هي بداية الطريق الصعب والمهلك، بل والمضني أيضا.
فاتن حمامة تطرح كثيرا من الأسرار والتفاصيل وتجيب عن كثير من الأسئلة التي ظل بعضها عالقا بلا إجابة واضحة في أذهان جمهورها في مصر والوطن العربي، فتتحدث فاتن أو «تونة» كما كان ينادونها بهذا الاسم، عن أسرتها والمقربين منها، عن نشأتها وتكوينها داخل أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة المصرية وكيف استطاع والدها أحمد حمامة الذي كان كثير التنقل بسبب عمله الوظيفي الحكومي أن يرعاها وينمي موهبتها ويضعها بقوة على بداية طريق المجد.
اسمي فاتن أحمد حمامة من مواليد 2 مايو (أيار) عام 1931، ولدت في حي عابدين، وهو حي يسكنه أبناء الطبقة المتوسطة من المواطنين المصريين، بين أشقائي «نبيل ومظهر وليلى»، أما اسمي هذا الذي عرفت به فلم يكن اختياره صدفة بل إن له قصة، بدأت عندما كان لشقيقي «نبيل» الذي يكبرني بعامين «دمية»، أطلق عليها من بنات أفكاره اسما غريبا، وكان هذا الاسم هو «فاتن»، فلما وضعتني أمي جاء شقيقي إلى جوار فراشي ووضع «فاتن» هدية منه لي، فأطلقت أمي اسم العروسة الدمية عليّ، فأصبحت أنا «فاتن حمامة» ابنة الأستاذ «أحمد حمامة» المراقب الإداري بوزارة المعارف.
وابنة لأم طيبة سهرت علينا الليالي كانت لها حكمة خاصة في إشاعة العدل بيننا، وفي إضفاء شعور المودة والتضامن بين صغيرنا وكبيرنا، وهو الأمر الذي تعجز الأم كثيرا عن إقراره بين الأولاد الذين يولد بعضهم فوق رؤوس البعض، وللحق فقد ترك عدل أمي وقدرتها على صنع الحب في بيتنا أثرا باقيا في نفسي، وهو درس كنت أحاول دائما أن أطبقه بين ابنتي نادية ذو الفقار وابني طارق عمر الشريف، وألتزم به في معاملتي لهما.
ولكن الدرس الذي تعلمته من أمي كان من موقف لها حين تزوجت «بعد ذلك»، فقد كنت صغيرة، وفي العام الأول من زواجي أنجبت ابنتي نادية من المرحوم عز الدين ذو الفقار، ولم تكن عندي أدنى فكرة عن كيف أعتني بها، ومتى أرضعها؟ ومتى تنام؟ وكيف أضعها في الفراش؟ كانت قطعة من اللحم الأحمر لا تكف عن الصراخ، وكانت تثير حيرتي لأنني أشعر أحيانا أنها تشكو من شيء لا أعلم ما هو؟ لأنها لا تتكلم! إذ ذاك تصدت أمي للعمل كله، وكنت قد قرأت كتبا عن تربية الطفل، ولكن المعلومات النظرية عن الأرق شيء والتطبيق العملي شيء آخر، والحقيقة أنني وجدت أمي أفضل من أي كتاب في تربية الطفل، فإنها ببساطة علمتني فن الأمومة، أعطتني كل تجربتها وتركت بيتنا الكبير «بيت الأسرة» لتقيم معي أياما تعطيني فيها الدروس في غير ملل، حتى السهر على نادية تعلمته منها، لأن نادية كانت عنيدة وتفضل نوم النهار وسهر الليل، وإذا سهرت الليل فينبغي أن نسهر معها كـ«الديدبان» في نوبات تستغرق الليل بطوله وتنتهي في الصباح. وقد كنتُ ساخطة على السهر، ولكن جَلَد أمي علمني أن هذه هي ضريبة الأمومة، وكنت متذمرة من بكاء نادية لغير سبب، ولكن محاولات أمي دون يأس معها علمتني الصبر، وتحولت ابتسامة نادية في وجهي إلى وسام وإلى إشراقة سعادة تعوضني عن كل التعب معها، أمي علمتني الأمومة الحقيقية بينابيع الحنان المتدفقة منها بمعاني إنكار الذات المتجلية فيها بالتحمل البطولي من أجل «الضنا» الغالي، وكنت كلما حاولت أن أخفف عنها الأعباء التي تحملها معي أجدها تقول لي: «أنا سعيدة هكذا.. فليس أحلى من الفرحة بالبنت إلا الفرحة ببنت البنت».
أعود لأكمل أن قيود وظيفة والدي كانت هي التي تتحكم في محل إقامتنا، فكان أبي كـ«ـقطعة الشطرنج»، تنقله وزارة المعارف من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، وترتب على ذلك أنني أمضيت سنين الطفولة الأولى في مدينة المنصورة (مقر عمله الجديد)، وعندما كنت في السادسة من عمري، كنت موضع حب سيدات الأسر الصديقة جميعا، وكانت إحداهن كلما ذهبت إلى السينما تصحبني معها، وكنت أعود من السينما وأجلس إلى والدي لأروي له قصة الفيلم بتسلسل عجيب، فلم يكن يفوتني مشهد واحد، ثم أعقب تلخيصي للقصة بأسئلة عن الهدف الذي ترمي إليه، وهذا هو أول الدروس التي وعيتها عن فن السينما، وأفادني هذا الدرس فيما بعد في قراءة قصص أفلامي ومعرفة نواحي القوة والضعف في كل فيلم، لأنني ناقدة بفطرتي وكنت لا أمل مشاهدة الأفلام مع هذه السيدة أبدًا، بل كنا أحيانا ندخل السينما في حفلتين متعاقبتين «حفلة الساعة الثالثة ثم حفلة السادسة» وأعود أكثر نشاطا وأكثر تفتحا لمذاكرة دروسي. وكانت لأبي هواية، هي تصويري في مشاهد ومواقف مختلفة وأنا بين الخامسة والسابعة، وكنت ذكية ولماحة أفهم ما يعنيه والدي دون إفصاح.
وفي أثناء زيارة بعض الأقارب لنا ذات مرة، نظر إليّ أبي نظرة فهمت منها ما يعنيه على الفور، ولم تتمالك إحدى السيدات نفسها فقالت: «الله هو احنا في سينما ولا أيه؟»، وضحكوا وعقب أبي ضاحكا، وقال: «سأقدم فاتن للسينما فعلا»، وبالفعل، فما إن قرأ في مجلة «الاثنين» عن مسابقة صور للأطفال، حتى سارع بإشراكي فيها، وأحضر لي حينذاك زيا خاصا بالممرضة، وحملني حملا إلى أحد المصورين الذي التقط لي «أروع صورة لممرضة في السادسة من عمرها»، وطلب من والدي أن يطبع له خمسمائة صورة، فتعجب والدي لطلبه، متسائلا عن سبب كل هذا الكم من الصور، فقال له المصور: «وجه طفلتك جذاب، وستكون نجمة كبيرة وهذا العدد لنوزعه على المعجبين»، فضحك والدي واعتبر الأمر مزحة من المصور المتفائل، ولكن بالفعل فازت الصورة بالجائزة.
وبدأت أتردد على مكتب عبد الوهاب كل يوم ليقوم المخرج محمد كريم بتدريبي على التمثيل والوقوف أمام الكاميرا، وكنت أستيقظ كل صباح فأجلس في سريري الصغير وأقول لأبي: «بابا، أحنا مش رايحين عند المُعلم كريم النهار ده؟»، هكذا صور لي خيالي مخرجي الأول، صورة معلم، فقد كان المعلم أقرب الشخصيات إلى نفسي بعد والدي، والطفل لا يبتعد كثيرا في تشبيهاته وتصويره البدائي للأمور عن المحيط الذي يعيش فيه، ومن هنا كان مخرجي الأول في نظري معلما، وكان كريم يستقبلني على الرغم مما اشتهر به من عصبية بابتسامة مشرقة، وكنت أرى على مكتبه دائما عشرات الهدايا وقطع الشوكولاته ووعودا صامتة من المخرج ونداء للإجادة.
فكنت كلما أتقنت مشهدا حصلت على إحداها، وقد عرفت فيما بعد أن دور «أنيسة» الذي لعبته في فيلم «يوم سعيد» كان دورا ثانويا لا يتطلب ظهور صاحبته على الشاشة سوى دقائق قصيرة، ولكن المخرج كريم إزاء ما رآه في من مقدرة وما لمسه من موهبة (وهذا كلام أنقله بأمانة وبلا غرور) رأى أن يعيد كتابة القصة في كل ما يختص بدوري، وقد اقتضى التغيير في الدور إدخال تعديل كبير في السيناريو بأكمله، كما استعان المخرج بثلاثة من كبار كتاب الحوار ليضعوا للطفلة الصغيرة حوارا يلائم سنها وتنطقه كما ينطق الأطفال.. وأتذكر في تلك الفترة أن أجري معي أول حديث صحافي حمل عنوان «مع الطفلة فاتن»، وحضر الصحافي إلى المنزل وجلس يتحدث معي:
- هل تحبين التمثيل؟
- ماذا يعني التمثيل؟
- يعني التمثيل في السينما.
- نعم، أحب أروح السينما دائما.
- ما شعورك عندما شاهدت نفسك على الشاشة؟
- اسأل بابا يقول لك.
- وأنت لا تستطيعين أن تقولي؟
- لأني لست أفهم ما تقول.
- تقدري تسأليني سؤالا جيدا؟
- نعم.. أنت جاي عندنا ليه ونحن لا نعرفك؟ وأنت لست قريب بابا ولا ماما؟
- أريد أن أجري معك حديثا صحافيا.
- أنا معنديش حديث.
بهذه العبارات البسيطة والعفوية جرى الحديث، ونُشر في مجلة «الاثنين»، لقد كنت حينذاك الزائرة اليومية الوحيدة لمكتب عبد الوهاب، كما كان كريم هو الوحيد الذي التقيت به هناك، ولكني لاحظت في أحد الأيام وجها آخر غير وجه كريم، وجها آخر صاحبته ممتلئة الجسد تتكلم بطلاقة لغة لا أفهمها، ويوافقها كريم بإعطائها ورقة راحت ترسم عليها خطوطا سريعة، وبعد أن انتهت من الرسم عرضت عليه رسوما ترسمها ويدخل هو عليها بعض التعديلات، وعلى الرغم من أن زيارة السيدة الغريبة أثارت فضولي، فإنني لم أسأل عمن تكون أو ماذا كانت تريد، وعرفت فيما بعد أن هذه السيدة لم تكن إلا «خياطة ثياب» للممثلات، وقد جاءت يومها لتصمم ملابس الفيلم، وبعد هذه الزيارة بأيام ثرت للمرة الأولى كما تثور كل حواء، وكان السبب هو أقوى ما يثير حواء؛ فقد حملوا إليّ بضع «جلاليب» من النوع الريفي ذي الألوان الزاهية، وقد رفضت بشدة أن أرتديها، وصحت قائلة: «مش ممكن ألبس زي داده نفوسة» (وهكذا ثارت فاتن الصغيرة دفاعا عن أناقتها قبل أن تعرف ما هي الأناقة وما الغرض منها، ولكنها غريزة المرأة وإحساسها الداخلي).
وقد لجأ كل من والدي وكريم إلى الحيلة في جعلي أرضخ لهذا الأمر، وعرضا علي أن أرتدي ما أريد، بشرط أن أرتدي قبلها «الجلاليب» في الفيلم، وكان العرض عادلا فقبلته على الفور، وكان طبيعيا، وقد طرأ تغيير كبير على حياتي، أن يتغير معه نظامي اليومي فقد وضع لي المخرج برنامجا دقيقا يبدأ في الساعات الأولى من الصباح، وينتهي بدخولي السرير، وكان من بين ما اشترطه في هذا البرنامج أن أستقبل الصباح الباكر في إحدى الحدائق بالغناء، وأن أتناول كل وجبات محدودة الأصناف في مواعيد دقيقة، وأن أزور كل ليلة الطبيب الخاص، وللزيارات الطبية هذه ذكريات عندي، ذكريات مؤلمة، حيث كان رسول الإنسانية بملابسه البيضاء يثير في نفسي الفزع ويدفع بالدموع إلى عيني.
وبدأ العمل في الفيلم، ودخلت الاستوديو للمرة الأولى، وتخيلت نفسي صورة غريبة في بلاد العجائب؛ فقد كان كل ما حولي غريبا (الأضواء والآلات السوداء العملاقة) وتلك العين السحرية التي راحت تحصي علينا حركاتنا وتسجل علينا لفتاتنا، التي كان صراخ كريم يعلو في كل مرة ينظر أحدنا داخلها. إنها «الكاميرا» تلك الآلة الساحرة التي صنعتني وصنعت الكثيرين مثلي. وأذكر عن أول لقطة لي أنها كانت تجمع بيني وبين الأستاذ محمد عبد الوهاب والسيدة فردوس محمد، وأذكر أيضا أن نوبة قوية من الضحك كانت تستبد بعبد الوهاب بعد كل كلمة أنطق بها، وقد طلب المخرج محمد كريم إلى عبد الوهاب مرارا أن يكتم ضحكه، ولما تعذر عليه ذلك صرختُ فيه بدوري طالبة منه أن يكف عن الضحك، ونظر إلى عبد الوهاب بعينين فيهما الكثير من الدهشة، ثم استغرق في الضحك ثانية، وكان العمل في بعض مشاهد الفيلم يتطلب السهر ليلا، وقد حرص مدير إنتاج الفيلم على أن يوفر لي في الاستوديو سريرا صغيرا، ولكن الذي حدث هو أنني لم ألجأ إلى السرير مرة واحدة، فقد كان شغفي بالعمل يشد جفوني شدا قويا، ويطرد النعاس من عيني، بل أكثر من هذا؛ كنتُ لا أنام ولا أترك غيري ينام، وكثيرا ما كنت أتجول في أنحاء الاستوديو ثم أصرخ قائلة: «بابا.. بابا.. شوف الراجل الكبير النائم.. والست دي اللي بتتثاءب» فيترتب علي حديثي الصارخ أن ينهض النائم خجلا، وأضحك أنا عليه.
وأيضا أثناء تصوير الفيلم قال لي المخرج محمد كريم محاولا تدريبي على التعبيرات الحركية للوجه: «وريني الغضب»، ثم قال: «ورينى الفرح»، ثم قال: «احتقريني»، فقلت له «يعني أيه يا أونكل»، فقال لي: «إخص عليكي يا فتونة ما تعرفيش احتقار يعني أيه، أُمّال بتروحي المدرسة إزاي»، فقلت له: «أصل أحنا لسه ما أخدناش خط رقعة، وما أعرفش غير النسخ»، وغاص الجميع في موجة من الضحك. والطريف أيضا أن التصوير كان يتم في «استوديو مصر»، وكانت المنطقة مليئة بالناموس، وكانوا يصورون من الساعة السادسة مساء حتى السادسة صباحا، وعندما كنت أشعر بالضيق كان المخرج يمارس ألعاب الأطفال معي، بينما والدي ووالدتي اللذان يصطحباني دائما غارقان في النوم، وأيضا أثناء تصوير الفيلم وفي أحد مشاهده كانت تقول لي فردوس محمد: «خدي يا أنيسة طلعي الأكل لسي كمال (عبد الوهاب) واللّه ما أنا عارفة حيدفع أجرة الغرفة إمتى»، وأقوم بدوري وأتناول الصينية وأخرج من الشقة وكأني سأصعد لأعلى، وبعد انتهاء المشهد انشغل المخرج بتصوير مشهد آخر لم أكن مشاركة فيه، وبعد مدة فوجئ بي أحضر إليه وأنا ما زلت أحمل الصينية، وأقول له: «أنا مش عارفة اطلع له الصينية فين يا أونكل»، ويضحك المخرج معلقا علي ذلك ويقول: «يا للمسكينة. لقد تصورت أن عليها أن تصعد لأعلى فانتظرت وهي تحمل الصينية كل ذلك الوقت».
انتهينا من تصوير الفيلم، وعرض فيلم «يوم سعيد» في عام 1940، وقد نشأت منذ اليوم الأول لعرضه منافسة جادة بين اسمي «فاتن» واسم «أنيسة»، الاسم الذي حملته في الفيلم، فكانت زميلاتي في المدرسة ينادينني باسم «أنيسة»، وكنت أثور لهذا فقد كان الاسم في نظري «بلدي»، وقد شاهدني مكتب الناظرة ثائرة أكثر من مرة، وكان السبب هو اسم «أنيسة»، وقد رأت الناظرة أن تهب لنجدتي، فأصدرت أمرا مشددا بحرمان من تناديني باسم «أنيسة» من الطعام يوما كاملا. وأيضا لا يمكن أن أنسى موقفي مع عميد الممثلين يوسف وهبي، كما كان يحب أن نناديه، فقد كان له مواقف مرحة تبعث على الضحك أحيانا كثيرة رغم أنه يؤثر أن يحول العمل الفني، سواء كان مسرحية أو فيلما إلى مأساة؛ فقد دعا يوسف وهبي ذات مرة إلى اجتماع عاجل في نقابة الممثلين لبحث شؤون المهنة، وكان نقيبا للممثلين حينذاك، فعلق على باب القاعة التي سيعقد فيها الاجتماع لافتة تحمل العبارة التالية: «رجائي للسيدات من الممثلات أن يتركن أطفالهن خارج القاعة»، وحدث أن حضرت إلى النقابة لحضور الاجتماع بصفتي ممثلة، ودخلت القاعة مع راقية إبراهيم، وجلست فيمن جلس لكي نشترك في المناقشة ولكن رغم أن القاعة قد غصت بالممثلين والممثلات، فقد بقي يوسف وهبي صامتا لا يريد أن يفتتح المناقشة، وكان ينظر تجاهي وسمات الغضب بادية على وجهه، ثم قال آخر الأمر: «يبدو أن الزميلات تجاهلن الرجاء المعلق بخطوط كبيرة على باب القاعة، وجاءت إحداهن بطفلة معها»، وتلفتت السيدات من الممثلات حولهن، وقالت إحداهن: «ليس في القاعة أطفال يا أستاذ، ولم تأتِ إحدانا بطفلها أو طفلتها معها»، ولكن يوسف وهبي أشار نحوي وأنا أجلس بجوار راقية إبراهيم قائلا: «وهذه الفتاة بنت من منكن؟»، وساد القاعة سكون واتجهت الأنظار كلها نحوي، وأغرورقت عيناي بالدموع، وملأت حمرة الخجل وجنتي، وأشحت بوجهي بعيدا ولم أستطع أن أقول شيئا، فقد كنت ما زلت طفلة صغيرة، ولكن راقية إبراهيم سارعت تقول: «هذه ليست طفلة يا أستاذ يوسف. إنها فاتن حمامة الممثلة»، وتمتم يوسف بك معتذرا، وصاح بلهجته التمثيلية المعروفة قائلا: «يبقى نبدأ الاجتماع». وفي أعقاب الاجتماع استبقاني يوسف وهبي ليتحدث إلى وليعيد اعتذاره لي وتأسفه لأنه لا يعرفني ولم يرني من قبل، ولم يستطع يوسف بك على ما يبدو أن ينسى هذه الحادثة، رغم أنه كثير النسيان، ولم يكد يشرع في إنتاج وإخراج فيلم «ملاك الرحمة» حتى أسند إلى أكبر أدواري على الشاشة حتى تلك الفترة، وكان هذا الدور بالذات هو نقطة التحول في حياتي، حيث جعلني حقيقة واقعة كممثلة يشهد لها الجميع بالموهبة.
من هنا كانت بدايتي
> جاءت إلى سينما «عدن» بالمنصورة السيدة «آسيا» المنتجة الشهيرة، لمناسبة عرض فيلم لها بالسينما، ولست أدري لماذا «سرحت» في تلك اللحظة. لقد شعرت بشعور عجيب وغريب، وهو أن الجميع يصفقون لي، وأن آلاف العيون تتطلع إلى وتقول: «هذه ملكتنا.. وإنها لجميلة وصغيرة»، وفسرت حلمي اليقظ بأنني سأكون يوما ما مثلها، ولم أكن أعرف عن التمثيل والسينما سوى أنني كنت أذهب بين الحين والآخر مع أسرتي لنرى حوارا ونسمع كلاما ونخرج بسلام آمنين، وقلت لأبي: أريد أن أسلم على هذه السيدة التي أراها أمامي على الشاشة، فوافق أبي، وتحركت نحو السيدة آسيا، ولكنني وجمت بل خفت من الزحام الشديد الذي أحاط بها فتراجعت. ثم قرأ أبي إعلانا في الصحف أو نداء من الصحف ممهورا بإمضاء المخرج محمد كريم، وكان يطلب صغارا بشروط خاصة للظهور في الفيلم الذي يخرجه هو وينتجه ويمثل فيه الموسيقار محمد عبد الوهاب، وأرسل أبي صورتي وأنا بزي الممرضة إلى المخرج الكبير، وسرعان ما تلقى أبي البرقية التالية «احضر ومعك الطفلة»، فحملني أبي إلى محمد عبد الوهاب ومحمد كريم، فأجريا امتحانا لي، وطلب كريم مني أن ألقي نشيدا، فألقيت عشرة أناشيد بدلا من نشيد واحد، وكان أن عدل محمد كريم في الرواية في الدور الذي يخصصه للطفلة، وتعاقد معي على القيام بهذا الدور في فيلم «يوم سعيد».
مع الموسيقار عبد الوهاب في {يوم سعيد}
> وقد جمع بيني وبين عبد الوهاب مشهد آخر اشترك فيه معنا الممثل فؤاد شفيق وفردوس محمد، وكان حواري في هذا المشهد من النوع الساذج الذي يثير الضحك، وكعادة عبد الوهاب لم يستطع أن يمنع نفسه من الضحك، وشعرت بالضيق من ضحك عبد الوهاب المتواصل، فتوقفت عن العمل ورفعت أصبعي الصغير في الهواء، وقلت لعبد الوهاب بصوت عالٍ: «أنت راح تشتغل كويس وإلا نجيب غيرك» ولم يضحك عبد الوهاب وحده هذه المرة، وإنما ضج معه كل من في الاستوديو بالضحك، ووقفت أنا في دهشة من تصرفهم اسأل نفسي: «إشمعنى المعلم كريم يطرد الممثلين ويجيب غيرهم وأنا لا؟!»، وكنت أذهب إلى الاستوديو لأعود منه في آخر اليوم محملة بالهدايا والألعاب، ولم يكن المخرج والمنتج هما وحدهما اللذان يقدمان إلى الهدايا، بل كان يشاركهما في ذلك الزائرون أيضا. وعلى ذكر الزائرين أقول إن المخرج محمد كريم كان يصدر تعليمات مشددة بألا يدخل أحد الزوار إلى الاستوديو، ولكني وجدت أن إحدى السيدات زارتنا في أحد الأيام بإذن من كريم، وقدمت لي هدية لطيفة، ثم جلست تتسامر مع بعض الموجودين، ودارت الكاميرا، فلم تسكت الزائرة، وهنا تقدمت منها ولكزتها في يديها وقلت لها: «يا ستي خدي هديتك ولا تعطلينا»، وشعرت السيدة بحرج شديد فانخرطت في البكاء، وتقدمت منها اربت على كتفها وأقول: «معلهش يا ست هانم، أصل الشغل متعب شوية»، ففوجئت بها تتوقف عن البكاء وعادت تضحك على الببغاء الصغير الذي يردد كلام مخرجه.
قبل نحو سبع سنوات من رحيلها بدأت مع فاتن حمامة رحلة طويلة من الاتصالات والمعايدات في بعض المناسبات المختلفة، واستطعت في بعض الأحيان «اختراق الحاجز» وإقناعها بإجراء مجرد حوارات صحافية معها لأنشرها في بعض المجلات والصحف العربية والمصرية، ولم تكن تبخل أبدا علي بذلك. حدثتني عن ملامح متفرقة من حياتها الشخصية وعن مجتمعها الذي رحل بتقاليده وأعرافه. بدأت من جديد أطرح الفكرة التي رفضتها من قبل ولكنها في تلك المرة طلبت مني فرصة كي تعيد ترتيب أفكارها وتدرس الأمر بشكل جدي قبل أن تجيبني.
وبالفعل تركتها وأنا في حالة غريبة وعجيبة من النشوة، لعل كان أهم أسبابها أنني في حالة موافقتها على أن أسطر كتابا عنها سيكون معظم مادة الكتاب جاهزا ومتوفرا تحت يدي، وهو تلك الحوارات التي كنت قد أجريتها معها ولم أكن قد نشرتها بعد، إذ كنت أحتفظ بها لمثل ذلك اليوم. وبالفعل بعد مدة قد تكون طالت وأثناء حديث تليفوني بيننا وافقت فاتن على أن أقوم بصياغة وكتابة مادة ذلك الكتاب. ولما قابلتها بعد المحادثة التليفونية ابتسمت وهي تلمس شفتيها بأنامل يدها اليمنى، وكانت تلك هي بداية الطريق الصعب والمهلك، بل والمضني أيضا.
فاتن حمامة تطرح كثيرا من الأسرار والتفاصيل وتجيب عن كثير من الأسئلة التي ظل بعضها عالقا بلا إجابة واضحة في أذهان جمهورها في مصر والوطن العربي، فتتحدث فاتن أو «تونة» كما كان ينادونها بهذا الاسم، عن أسرتها والمقربين منها، عن نشأتها وتكوينها داخل أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة المصرية وكيف استطاع والدها أحمد حمامة الذي كان كثير التنقل بسبب عمله الوظيفي الحكومي أن يرعاها وينمي موهبتها ويضعها بقوة على بداية طريق المجد.
اسمي فاتن أحمد حمامة من مواليد 2 مايو (أيار) عام 1931، ولدت في حي عابدين، وهو حي يسكنه أبناء الطبقة المتوسطة من المواطنين المصريين، بين أشقائي «نبيل ومظهر وليلى»، أما اسمي هذا الذي عرفت به فلم يكن اختياره صدفة بل إن له قصة، بدأت عندما كان لشقيقي «نبيل» الذي يكبرني بعامين «دمية»، أطلق عليها من بنات أفكاره اسما غريبا، وكان هذا الاسم هو «فاتن»، فلما وضعتني أمي جاء شقيقي إلى جوار فراشي ووضع «فاتن» هدية منه لي، فأطلقت أمي اسم العروسة الدمية عليّ، فأصبحت أنا «فاتن حمامة» ابنة الأستاذ «أحمد حمامة» المراقب الإداري بوزارة المعارف.
وابنة لأم طيبة سهرت علينا الليالي كانت لها حكمة خاصة في إشاعة العدل بيننا، وفي إضفاء شعور المودة والتضامن بين صغيرنا وكبيرنا، وهو الأمر الذي تعجز الأم كثيرا عن إقراره بين الأولاد الذين يولد بعضهم فوق رؤوس البعض، وللحق فقد ترك عدل أمي وقدرتها على صنع الحب في بيتنا أثرا باقيا في نفسي، وهو درس كنت أحاول دائما أن أطبقه بين ابنتي نادية ذو الفقار وابني طارق عمر الشريف، وألتزم به في معاملتي لهما.
ولكن الدرس الذي تعلمته من أمي كان من موقف لها حين تزوجت «بعد ذلك»، فقد كنت صغيرة، وفي العام الأول من زواجي أنجبت ابنتي نادية من المرحوم عز الدين ذو الفقار، ولم تكن عندي أدنى فكرة عن كيف أعتني بها، ومتى أرضعها؟ ومتى تنام؟ وكيف أضعها في الفراش؟ كانت قطعة من اللحم الأحمر لا تكف عن الصراخ، وكانت تثير حيرتي لأنني أشعر أحيانا أنها تشكو من شيء لا أعلم ما هو؟ لأنها لا تتكلم! إذ ذاك تصدت أمي للعمل كله، وكنت قد قرأت كتبا عن تربية الطفل، ولكن المعلومات النظرية عن الأرق شيء والتطبيق العملي شيء آخر، والحقيقة أنني وجدت أمي أفضل من أي كتاب في تربية الطفل، فإنها ببساطة علمتني فن الأمومة، أعطتني كل تجربتها وتركت بيتنا الكبير «بيت الأسرة» لتقيم معي أياما تعطيني فيها الدروس في غير ملل، حتى السهر على نادية تعلمته منها، لأن نادية كانت عنيدة وتفضل نوم النهار وسهر الليل، وإذا سهرت الليل فينبغي أن نسهر معها كـ«الديدبان» في نوبات تستغرق الليل بطوله وتنتهي في الصباح. وقد كنتُ ساخطة على السهر، ولكن جَلَد أمي علمني أن هذه هي ضريبة الأمومة، وكنت متذمرة من بكاء نادية لغير سبب، ولكن محاولات أمي دون يأس معها علمتني الصبر، وتحولت ابتسامة نادية في وجهي إلى وسام وإلى إشراقة سعادة تعوضني عن كل التعب معها، أمي علمتني الأمومة الحقيقية بينابيع الحنان المتدفقة منها بمعاني إنكار الذات المتجلية فيها بالتحمل البطولي من أجل «الضنا» الغالي، وكنت كلما حاولت أن أخفف عنها الأعباء التي تحملها معي أجدها تقول لي: «أنا سعيدة هكذا.. فليس أحلى من الفرحة بالبنت إلا الفرحة ببنت البنت».
أعود لأكمل أن قيود وظيفة والدي كانت هي التي تتحكم في محل إقامتنا، فكان أبي كـ«ـقطعة الشطرنج»، تنقله وزارة المعارف من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، وترتب على ذلك أنني أمضيت سنين الطفولة الأولى في مدينة المنصورة (مقر عمله الجديد)، وعندما كنت في السادسة من عمري، كنت موضع حب سيدات الأسر الصديقة جميعا، وكانت إحداهن كلما ذهبت إلى السينما تصحبني معها، وكنت أعود من السينما وأجلس إلى والدي لأروي له قصة الفيلم بتسلسل عجيب، فلم يكن يفوتني مشهد واحد، ثم أعقب تلخيصي للقصة بأسئلة عن الهدف الذي ترمي إليه، وهذا هو أول الدروس التي وعيتها عن فن السينما، وأفادني هذا الدرس فيما بعد في قراءة قصص أفلامي ومعرفة نواحي القوة والضعف في كل فيلم، لأنني ناقدة بفطرتي وكنت لا أمل مشاهدة الأفلام مع هذه السيدة أبدًا، بل كنا أحيانا ندخل السينما في حفلتين متعاقبتين «حفلة الساعة الثالثة ثم حفلة السادسة» وأعود أكثر نشاطا وأكثر تفتحا لمذاكرة دروسي. وكانت لأبي هواية، هي تصويري في مشاهد ومواقف مختلفة وأنا بين الخامسة والسابعة، وكنت ذكية ولماحة أفهم ما يعنيه والدي دون إفصاح.
وفي أثناء زيارة بعض الأقارب لنا ذات مرة، نظر إليّ أبي نظرة فهمت منها ما يعنيه على الفور، ولم تتمالك إحدى السيدات نفسها فقالت: «الله هو احنا في سينما ولا أيه؟»، وضحكوا وعقب أبي ضاحكا، وقال: «سأقدم فاتن للسينما فعلا»، وبالفعل، فما إن قرأ في مجلة «الاثنين» عن مسابقة صور للأطفال، حتى سارع بإشراكي فيها، وأحضر لي حينذاك زيا خاصا بالممرضة، وحملني حملا إلى أحد المصورين الذي التقط لي «أروع صورة لممرضة في السادسة من عمرها»، وطلب من والدي أن يطبع له خمسمائة صورة، فتعجب والدي لطلبه، متسائلا عن سبب كل هذا الكم من الصور، فقال له المصور: «وجه طفلتك جذاب، وستكون نجمة كبيرة وهذا العدد لنوزعه على المعجبين»، فضحك والدي واعتبر الأمر مزحة من المصور المتفائل، ولكن بالفعل فازت الصورة بالجائزة.
وبدأت أتردد على مكتب عبد الوهاب كل يوم ليقوم المخرج محمد كريم بتدريبي على التمثيل والوقوف أمام الكاميرا، وكنت أستيقظ كل صباح فأجلس في سريري الصغير وأقول لأبي: «بابا، أحنا مش رايحين عند المُعلم كريم النهار ده؟»، هكذا صور لي خيالي مخرجي الأول، صورة معلم، فقد كان المعلم أقرب الشخصيات إلى نفسي بعد والدي، والطفل لا يبتعد كثيرا في تشبيهاته وتصويره البدائي للأمور عن المحيط الذي يعيش فيه، ومن هنا كان مخرجي الأول في نظري معلما، وكان كريم يستقبلني على الرغم مما اشتهر به من عصبية بابتسامة مشرقة، وكنت أرى على مكتبه دائما عشرات الهدايا وقطع الشوكولاته ووعودا صامتة من المخرج ونداء للإجادة.
فكنت كلما أتقنت مشهدا حصلت على إحداها، وقد عرفت فيما بعد أن دور «أنيسة» الذي لعبته في فيلم «يوم سعيد» كان دورا ثانويا لا يتطلب ظهور صاحبته على الشاشة سوى دقائق قصيرة، ولكن المخرج كريم إزاء ما رآه في من مقدرة وما لمسه من موهبة (وهذا كلام أنقله بأمانة وبلا غرور) رأى أن يعيد كتابة القصة في كل ما يختص بدوري، وقد اقتضى التغيير في الدور إدخال تعديل كبير في السيناريو بأكمله، كما استعان المخرج بثلاثة من كبار كتاب الحوار ليضعوا للطفلة الصغيرة حوارا يلائم سنها وتنطقه كما ينطق الأطفال.. وأتذكر في تلك الفترة أن أجري معي أول حديث صحافي حمل عنوان «مع الطفلة فاتن»، وحضر الصحافي إلى المنزل وجلس يتحدث معي:
- هل تحبين التمثيل؟
- ماذا يعني التمثيل؟
- يعني التمثيل في السينما.
- نعم، أحب أروح السينما دائما.
- ما شعورك عندما شاهدت نفسك على الشاشة؟
- اسأل بابا يقول لك.
- وأنت لا تستطيعين أن تقولي؟
- لأني لست أفهم ما تقول.
- تقدري تسأليني سؤالا جيدا؟
- نعم.. أنت جاي عندنا ليه ونحن لا نعرفك؟ وأنت لست قريب بابا ولا ماما؟
- أريد أن أجري معك حديثا صحافيا.
- أنا معنديش حديث.
بهذه العبارات البسيطة والعفوية جرى الحديث، ونُشر في مجلة «الاثنين»، لقد كنت حينذاك الزائرة اليومية الوحيدة لمكتب عبد الوهاب، كما كان كريم هو الوحيد الذي التقيت به هناك، ولكني لاحظت في أحد الأيام وجها آخر غير وجه كريم، وجها آخر صاحبته ممتلئة الجسد تتكلم بطلاقة لغة لا أفهمها، ويوافقها كريم بإعطائها ورقة راحت ترسم عليها خطوطا سريعة، وبعد أن انتهت من الرسم عرضت عليه رسوما ترسمها ويدخل هو عليها بعض التعديلات، وعلى الرغم من أن زيارة السيدة الغريبة أثارت فضولي، فإنني لم أسأل عمن تكون أو ماذا كانت تريد، وعرفت فيما بعد أن هذه السيدة لم تكن إلا «خياطة ثياب» للممثلات، وقد جاءت يومها لتصمم ملابس الفيلم، وبعد هذه الزيارة بأيام ثرت للمرة الأولى كما تثور كل حواء، وكان السبب هو أقوى ما يثير حواء؛ فقد حملوا إليّ بضع «جلاليب» من النوع الريفي ذي الألوان الزاهية، وقد رفضت بشدة أن أرتديها، وصحت قائلة: «مش ممكن ألبس زي داده نفوسة» (وهكذا ثارت فاتن الصغيرة دفاعا عن أناقتها قبل أن تعرف ما هي الأناقة وما الغرض منها، ولكنها غريزة المرأة وإحساسها الداخلي).
وقد لجأ كل من والدي وكريم إلى الحيلة في جعلي أرضخ لهذا الأمر، وعرضا علي أن أرتدي ما أريد، بشرط أن أرتدي قبلها «الجلاليب» في الفيلم، وكان العرض عادلا فقبلته على الفور، وكان طبيعيا، وقد طرأ تغيير كبير على حياتي، أن يتغير معه نظامي اليومي فقد وضع لي المخرج برنامجا دقيقا يبدأ في الساعات الأولى من الصباح، وينتهي بدخولي السرير، وكان من بين ما اشترطه في هذا البرنامج أن أستقبل الصباح الباكر في إحدى الحدائق بالغناء، وأن أتناول كل وجبات محدودة الأصناف في مواعيد دقيقة، وأن أزور كل ليلة الطبيب الخاص، وللزيارات الطبية هذه ذكريات عندي، ذكريات مؤلمة، حيث كان رسول الإنسانية بملابسه البيضاء يثير في نفسي الفزع ويدفع بالدموع إلى عيني.
وبدأ العمل في الفيلم، ودخلت الاستوديو للمرة الأولى، وتخيلت نفسي صورة غريبة في بلاد العجائب؛ فقد كان كل ما حولي غريبا (الأضواء والآلات السوداء العملاقة) وتلك العين السحرية التي راحت تحصي علينا حركاتنا وتسجل علينا لفتاتنا، التي كان صراخ كريم يعلو في كل مرة ينظر أحدنا داخلها. إنها «الكاميرا» تلك الآلة الساحرة التي صنعتني وصنعت الكثيرين مثلي. وأذكر عن أول لقطة لي أنها كانت تجمع بيني وبين الأستاذ محمد عبد الوهاب والسيدة فردوس محمد، وأذكر أيضا أن نوبة قوية من الضحك كانت تستبد بعبد الوهاب بعد كل كلمة أنطق بها، وقد طلب المخرج محمد كريم إلى عبد الوهاب مرارا أن يكتم ضحكه، ولما تعذر عليه ذلك صرختُ فيه بدوري طالبة منه أن يكف عن الضحك، ونظر إلى عبد الوهاب بعينين فيهما الكثير من الدهشة، ثم استغرق في الضحك ثانية، وكان العمل في بعض مشاهد الفيلم يتطلب السهر ليلا، وقد حرص مدير إنتاج الفيلم على أن يوفر لي في الاستوديو سريرا صغيرا، ولكن الذي حدث هو أنني لم ألجأ إلى السرير مرة واحدة، فقد كان شغفي بالعمل يشد جفوني شدا قويا، ويطرد النعاس من عيني، بل أكثر من هذا؛ كنتُ لا أنام ولا أترك غيري ينام، وكثيرا ما كنت أتجول في أنحاء الاستوديو ثم أصرخ قائلة: «بابا.. بابا.. شوف الراجل الكبير النائم.. والست دي اللي بتتثاءب» فيترتب علي حديثي الصارخ أن ينهض النائم خجلا، وأضحك أنا عليه.
وأيضا أثناء تصوير الفيلم قال لي المخرج محمد كريم محاولا تدريبي على التعبيرات الحركية للوجه: «وريني الغضب»، ثم قال: «ورينى الفرح»، ثم قال: «احتقريني»، فقلت له «يعني أيه يا أونكل»، فقال لي: «إخص عليكي يا فتونة ما تعرفيش احتقار يعني أيه، أُمّال بتروحي المدرسة إزاي»، فقلت له: «أصل أحنا لسه ما أخدناش خط رقعة، وما أعرفش غير النسخ»، وغاص الجميع في موجة من الضحك. والطريف أيضا أن التصوير كان يتم في «استوديو مصر»، وكانت المنطقة مليئة بالناموس، وكانوا يصورون من الساعة السادسة مساء حتى السادسة صباحا، وعندما كنت أشعر بالضيق كان المخرج يمارس ألعاب الأطفال معي، بينما والدي ووالدتي اللذان يصطحباني دائما غارقان في النوم، وأيضا أثناء تصوير الفيلم وفي أحد مشاهده كانت تقول لي فردوس محمد: «خدي يا أنيسة طلعي الأكل لسي كمال (عبد الوهاب) واللّه ما أنا عارفة حيدفع أجرة الغرفة إمتى»، وأقوم بدوري وأتناول الصينية وأخرج من الشقة وكأني سأصعد لأعلى، وبعد انتهاء المشهد انشغل المخرج بتصوير مشهد آخر لم أكن مشاركة فيه، وبعد مدة فوجئ بي أحضر إليه وأنا ما زلت أحمل الصينية، وأقول له: «أنا مش عارفة اطلع له الصينية فين يا أونكل»، ويضحك المخرج معلقا علي ذلك ويقول: «يا للمسكينة. لقد تصورت أن عليها أن تصعد لأعلى فانتظرت وهي تحمل الصينية كل ذلك الوقت».
انتهينا من تصوير الفيلم، وعرض فيلم «يوم سعيد» في عام 1940، وقد نشأت منذ اليوم الأول لعرضه منافسة جادة بين اسمي «فاتن» واسم «أنيسة»، الاسم الذي حملته في الفيلم، فكانت زميلاتي في المدرسة ينادينني باسم «أنيسة»، وكنت أثور لهذا فقد كان الاسم في نظري «بلدي»، وقد شاهدني مكتب الناظرة ثائرة أكثر من مرة، وكان السبب هو اسم «أنيسة»، وقد رأت الناظرة أن تهب لنجدتي، فأصدرت أمرا مشددا بحرمان من تناديني باسم «أنيسة» من الطعام يوما كاملا. وأيضا لا يمكن أن أنسى موقفي مع عميد الممثلين يوسف وهبي، كما كان يحب أن نناديه، فقد كان له مواقف مرحة تبعث على الضحك أحيانا كثيرة رغم أنه يؤثر أن يحول العمل الفني، سواء كان مسرحية أو فيلما إلى مأساة؛ فقد دعا يوسف وهبي ذات مرة إلى اجتماع عاجل في نقابة الممثلين لبحث شؤون المهنة، وكان نقيبا للممثلين حينذاك، فعلق على باب القاعة التي سيعقد فيها الاجتماع لافتة تحمل العبارة التالية: «رجائي للسيدات من الممثلات أن يتركن أطفالهن خارج القاعة»، وحدث أن حضرت إلى النقابة لحضور الاجتماع بصفتي ممثلة، ودخلت القاعة مع راقية إبراهيم، وجلست فيمن جلس لكي نشترك في المناقشة ولكن رغم أن القاعة قد غصت بالممثلين والممثلات، فقد بقي يوسف وهبي صامتا لا يريد أن يفتتح المناقشة، وكان ينظر تجاهي وسمات الغضب بادية على وجهه، ثم قال آخر الأمر: «يبدو أن الزميلات تجاهلن الرجاء المعلق بخطوط كبيرة على باب القاعة، وجاءت إحداهن بطفلة معها»، وتلفتت السيدات من الممثلات حولهن، وقالت إحداهن: «ليس في القاعة أطفال يا أستاذ، ولم تأتِ إحدانا بطفلها أو طفلتها معها»، ولكن يوسف وهبي أشار نحوي وأنا أجلس بجوار راقية إبراهيم قائلا: «وهذه الفتاة بنت من منكن؟»، وساد القاعة سكون واتجهت الأنظار كلها نحوي، وأغرورقت عيناي بالدموع، وملأت حمرة الخجل وجنتي، وأشحت بوجهي بعيدا ولم أستطع أن أقول شيئا، فقد كنت ما زلت طفلة صغيرة، ولكن راقية إبراهيم سارعت تقول: «هذه ليست طفلة يا أستاذ يوسف. إنها فاتن حمامة الممثلة»، وتمتم يوسف بك معتذرا، وصاح بلهجته التمثيلية المعروفة قائلا: «يبقى نبدأ الاجتماع». وفي أعقاب الاجتماع استبقاني يوسف وهبي ليتحدث إلى وليعيد اعتذاره لي وتأسفه لأنه لا يعرفني ولم يرني من قبل، ولم يستطع يوسف بك على ما يبدو أن ينسى هذه الحادثة، رغم أنه كثير النسيان، ولم يكد يشرع في إنتاج وإخراج فيلم «ملاك الرحمة» حتى أسند إلى أكبر أدواري على الشاشة حتى تلك الفترة، وكان هذا الدور بالذات هو نقطة التحول في حياتي، حيث جعلني حقيقة واقعة كممثلة يشهد لها الجميع بالموهبة.
من هنا كانت بدايتي
> جاءت إلى سينما «عدن» بالمنصورة السيدة «آسيا» المنتجة الشهيرة، لمناسبة عرض فيلم لها بالسينما، ولست أدري لماذا «سرحت» في تلك اللحظة. لقد شعرت بشعور عجيب وغريب، وهو أن الجميع يصفقون لي، وأن آلاف العيون تتطلع إلى وتقول: «هذه ملكتنا.. وإنها لجميلة وصغيرة»، وفسرت حلمي اليقظ بأنني سأكون يوما ما مثلها، ولم أكن أعرف عن التمثيل والسينما سوى أنني كنت أذهب بين الحين والآخر مع أسرتي لنرى حوارا ونسمع كلاما ونخرج بسلام آمنين، وقلت لأبي: أريد أن أسلم على هذه السيدة التي أراها أمامي على الشاشة، فوافق أبي، وتحركت نحو السيدة آسيا، ولكنني وجمت بل خفت من الزحام الشديد الذي أحاط بها فتراجعت. ثم قرأ أبي إعلانا في الصحف أو نداء من الصحف ممهورا بإمضاء المخرج محمد كريم، وكان يطلب صغارا بشروط خاصة للظهور في الفيلم الذي يخرجه هو وينتجه ويمثل فيه الموسيقار محمد عبد الوهاب، وأرسل أبي صورتي وأنا بزي الممرضة إلى المخرج الكبير، وسرعان ما تلقى أبي البرقية التالية «احضر ومعك الطفلة»، فحملني أبي إلى محمد عبد الوهاب ومحمد كريم، فأجريا امتحانا لي، وطلب كريم مني أن ألقي نشيدا، فألقيت عشرة أناشيد بدلا من نشيد واحد، وكان أن عدل محمد كريم في الرواية في الدور الذي يخصصه للطفلة، وتعاقد معي على القيام بهذا الدور في فيلم «يوم سعيد».
مع الموسيقار عبد الوهاب في {يوم سعيد}
> وقد جمع بيني وبين عبد الوهاب مشهد آخر اشترك فيه معنا الممثل فؤاد شفيق وفردوس محمد، وكان حواري في هذا المشهد من النوع الساذج الذي يثير الضحك، وكعادة عبد الوهاب لم يستطع أن يمنع نفسه من الضحك، وشعرت بالضيق من ضحك عبد الوهاب المتواصل، فتوقفت عن العمل ورفعت أصبعي الصغير في الهواء، وقلت لعبد الوهاب بصوت عالٍ: «أنت راح تشتغل كويس وإلا نجيب غيرك» ولم يضحك عبد الوهاب وحده هذه المرة، وإنما ضج معه كل من في الاستوديو بالضحك، ووقفت أنا في دهشة من تصرفهم اسأل نفسي: «إشمعنى المعلم كريم يطرد الممثلين ويجيب غيرهم وأنا لا؟!»، وكنت أذهب إلى الاستوديو لأعود منه في آخر اليوم محملة بالهدايا والألعاب، ولم يكن المخرج والمنتج هما وحدهما اللذان يقدمان إلى الهدايا، بل كان يشاركهما في ذلك الزائرون أيضا. وعلى ذكر الزائرين أقول إن المخرج محمد كريم كان يصدر تعليمات مشددة بألا يدخل أحد الزوار إلى الاستوديو، ولكني وجدت أن إحدى السيدات زارتنا في أحد الأيام بإذن من كريم، وقدمت لي هدية لطيفة، ثم جلست تتسامر مع بعض الموجودين، ودارت الكاميرا، فلم تسكت الزائرة، وهنا تقدمت منها ولكزتها في يديها وقلت لها: «يا ستي خدي هديتك ولا تعطلينا»، وشعرت السيدة بحرج شديد فانخرطت في البكاء، وتقدمت منها اربت على كتفها وأقول: «معلهش يا ست هانم، أصل الشغل متعب شوية»، ففوجئت بها تتوقف عن البكاء وعادت تضحك على الببغاء الصغير الذي يردد كلام مخرجه.
فاتن حمامة
مايو 27, 2015
مذكرات فاتن حمامة (2): حكايتي مع الرقص وأستاذة الحب
استقلت من رئاسة فريق التمثيل بالمدرسة لأن المشرف عليه جامل طالبة أخرى بمنحها دوري بالمسرحية التي كنا نعدها
مع محمد عبد الوهاب وسميحة سميح في «يوم سعيد»
القاهرة: السيد الحراني
مذكرات ومسيرة وسيرة الفنانة الراحلة فاتن حمامة، الإنسانة والحالة الفنية الرائدة في عالمنا السينمائي المصري والعربي، والتي صنعت تاريخها بميزان صائغ، وأزاميل نحات، وسيرة ملتزمة، قلما نجد فيها أخطاء المبتدئات أو ما يمكن أن يجرح حضورها الذي كان دائما استثنائيا التي تنشرها {الشرق الأوسط} بترتيب مع وكالة «الأهرام» للصحافة.
قبل نحو سبع سنوات من رحيلها بدأت مع فاتن حمامة رحلة طويلة من الاتصالات والمعايدات في بعض المناسبات المختلفة، واستطعت في بعض الأحيان «اختراق الحاجز» وإقناعها بإجراء مجرد حوارات صحافية معها لأنشرها في بعض المجلات والصحف العربية والمصرية، ولم تكن تبخل أبدا علي بذلك. حدثتني عن ملامح متفرقة من حياتها الشخصية وعن مجتمعها الذي رحل بتقاليده وأعرافه. بدأت من جديد أطرح الفكرة التي رفضتها من قبل ولكنها في تلك المرة طلبت مني فرصة كي تعيد ترتيب أفكارها وتدرس الأمر بشكل جدي قبل أن تجيبني.
وبالفعل تركتها وأنا في حالة غريبة وعجيبة من النشوة، لعل كان أهم أسبابها أنني في حالة موافقتها على أن أسطر كتابا عنها سيكون معظم مادة الكتاب جاهزا ومتوفرا تحت يدي، وهو تلك الحوارات التي كنت قد أجريتها معها ولم أكن قد نشرتها بعد، إذ كنت أحتفظ بها لمثل ذلك اليوم. وبالفعل بعد مدة قد تكون طالت وأثناء حديث تليفوني بيننا وافقت فاتن على أن أقوم بصياغة وكتابة مادة ذلك الكتاب. ولما قابلتها بعد المحادثة التليفونية ابتسمت وهي تلمس شفتيها بأنامل يدها اليمنى، وكانت تلك هي بداية الطريق الصعب والمهلك، بل والمضني أيضا.
فاتن حمامة تطرح كثيرا من الأسرار والتفاصيل وتجيب عن كثير من الأسئلة التي ظل بعضها عالقا بلا إجابة واضحة في أذهان جمهورها في مصر والوطن العربي، فتتحدث فاتن أو «تونة» كما كان ينادونها بهذا الاسم، عن أسرتها والمقربين منها، عن نشأتها وتكوينها داخل أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة المصرية وكيف استطاع والدها أحمد حمامة الذي كان كثير التنقل بسبب عمله الوظيفي الحكومي أن يرعاها وينمي موهبتها ويضعها بقوة على بداية طريق المجد.
كانت البداية بالنسبة للفنانة الكبيرة فاتن حمامة، تستحق لقب استثنائية، فلم تكن تتوقع أن تصبح ممثلة ولا أن تشارك في بطولة فيلم مع نجوم ونجمات الصف الأول في مصر في أربعينات القرن الماضي، ولكن كان إصرار والدها دافعًا كبيرًا في أن يضع أقدامها على أولى خطوات المجد السينمائي والإنساني والاجتماعي، وهنا تواصل فاتن حمامة مذكراتها عن تلك المرحلة:
لقد ذكرت سابقًا ما عانيته من زميلاتي اللاتي تعمدن مناداتي بلقبي في الفيلم، أما المدرسات فكن يلتففن حولي في «الفسحة» ليطمرنني بعشرات الأسئلة عن التمثيل وكيف يكون وعن المخرج وكيف يعمل ثم تنهين أسئلتهن دائمًا بالسؤال عن زميلي الكبير محمد عبد الوهاب، ولم أكن يومها أدرك مكانة عبد الوهاب عند المعجبات، وكنت كثيرًا ما أقول لنفسي لماذا لا يسألنني عن محمد كريم، فقد كان محمد كريم في نظري هو الشخص الوحيد الذي يجب السؤال عنه ولِمَ لا وهو أستاذي ومعلمي وكنت أحب كريم، وأحب أيضًا سيدة فاضلة هي زبيدة الحكيم، فقد كانت تأتي دون هدايا وتجلس إليّ وتحدثني في شؤون كثيرة مما يهم الأطفال وكأنها في مثل عمري، وقد ظل اسم هذه السيدة يطرق ذاكرتي بين حين وآخر حتى غمرتنا شواغل الدراسة واقترب موعد الامتحان.
أذكر أننا سافرنا حينذاك إلى مدينة المنصورة في رحلة قصيرة، وما كدنا نغادر القطار حتى التف الناس حولنا في المحطة وراح الجمهور الصغير الذي تكدس أفراده حولي يصفق ويصيح «أنيسة.. أنيسة»، واستبد بي يومها الغضب فوجدتني أرد على «جمهوري» الأول باقتضاب ولم يجد أبي مخرجًا سوى حملي على ذراعه وجاهد طويلاً حتى وصل إلى الباب الخارجي. وقد غاظني من والدي أن شاهدته يبتسم لذلك الجمهور رغم كل ما حدث ولم أفهم يومها أن ابتسامات والدي كانت بسمات الرضا وبسمات الاعتزاز بتلك الموهبة الصغيرة الكامنة في طفلته «ابنته» ووصلنا إلى المنزل الذي كنا نقيم فيه وما كدنا ننتهي من تناول طعام الغداء حتى سمعنا هتافات عالية تردد «عايزين أنيسة.. عايزين أنيسة».
وفتح والدي الشباك قليلاً ووقف ينظر من بين دفتيه لما يحدث خارجه وكان المنظر الذي طالع والدي منظرًا غريبًا، فكان هناك مئات من طلبة مدرسة المنصورة الثانوية تتقدمهم فرقة كشافة المدرسة وهي تعزف بعض المقطوعات الحماسية فيقاطعها الطلبة صائحين «عايزين أنيسة» وخشي عليّ والدي من ظهوري في الشرفة فأمرني بالاختباء داخل المنزل ثم استدعى خادمًا نوبيًا صغيرًا كان يعمل لدينا وطلب إليه أن يخرج إلى الشرفة، وخرج الخادم الصغير يرفع إليهم يده الأبنوسية الصغيرة ويبادلهم التحية بمثلها، وضحك الطلبة، ولكنهم ظلوا في أماكنهم لا يغادرونها وظلوا على موقفهم لا يحيدون عنه - لقد جاؤوا من أجل أنيسة ولن يجلوا عن المكان إلا بعد رؤيتها؟ - فخرجت إلى الشرفة أنظر بدهشة إلى الذين احتشدوا حول منزلنا ليروني وساءلت نفسي.. لِمَ؟ وبقيت «لِمَ» سؤالاً بلا جواب حتى أدركت أن الناس تجذبهم الشهرة «كما يجذب الرحيق الطيب بالزهور النحل». لقد خرجت إلى الشرفة والابتسامات على شفتي والابتسامات كان مصدرها فريق الكشافة قبل أي شيء آخر ويدي في الهواء تلوح للهاتفين وأشرت إليهم أن يسكتوا فأطاعوا الأمر ثم ولأول مرة في حياتي وقفت فيهم موقف الخطابة، فقلت لهم «إذا كنتم عايزيني انبسط وأحبكم.. قولوا عايزين فاتن، فاتن مش أنيسة، علشان أنا بازعل قوي من اسم أنيسة». وصاح الجميع «تعيش فاتن.. تعيش فاتن» ثم علا صوت من بينهم يهتف «تعيش أنيسة» فردد الجميع الهتاف من بعده وهدموا على الفور ما جاهدت في بنائه، ولم أجد من الغيظ مهربًا إلا في الدموع فأطلقتها غزيرة وأسرعت بالدخول.
في اليوم التالي صحبني والدي إلى حفل إقامته في المنصورة وزارة المعارف بالنادي الرياضي وما كدت أدخل المكان حتى استقبلني همس خافت «أنيسة أهي.. أنيسة أهي» وأمسك والدي بيدي وراح يخترق مقاعد الحاضرين حتى وصلنا إلى مقصورة رجال وزارة المعارف وما كاد مدير والدي في العمل أن يشاهدني وكان ضمن الجالسين إلا ووجدته ينهض من مكانه وأقبل عليّ مقدمًا لي علبة كبيرة من الشوكولاته وشاهد الحاضرون ما فعله المدير فصفقوا طويلاً، واضطر المشرفون على البرنامج إلى تعطيله دقائق حتى انتهت المظاهرة!
لقد ظهرت نتيجة الشهادة الابتدائية، فإذا بي بين المتفوقات المتمتعات بالنجاح، وقال لي إحساسي بالجميل والعرفان إن أقدم الشكر لمدرساتي اللواتي ساعدنني على هذا النجاح وذهبت في اليوم التالي إلى مدرسة المنصورة الابتدائية وكان يسير خلفي خادمنا النوبي - سابق الذكر - يحمل صينية كبيرة من الكنافة اشتهرت والدتي بإجادة صنعها ونصف دستة من زجاجات الشراب وأقمنا حفلة صغيرة في المدرسة وانهالت على القبلات من كل جانب، وكان من بينها قبلة واحدة من عشرات القبلات كنت أود من كل قلبي إلا تستقر على وجنتي، وهي قبلة لمدرسة اشتهرت بيننا بالقسوة ولم يكن قد حدث بيني وبينها طيلة العام الدراسي ما يجعلني أكرهها إلا أنني كنت لا أحبها «لله في لله» كما يقولون، ولكن المهم أن انحنت عليّ المدرسة المذكورة تقبلني وشعرت كأنما قد حط على خدي حجر كبير انفلت فجأة من الجبل، وعندما رفعت شفتيها عني كان وراء المظهر القاسي قلب مليء بالحنان ووراء النظرة الصارمة دموع تنتظر لحظة ضعف لتنهمر.
وحاصرتني الدموع من كل جانب ووجدت دموعي تتدفق هي الأخرى «دموع الفرح». وانتهت مرحلة دراستي الابتدائية وقرر والدي أن يلحقني بمدرسة «الأميرة فوقية» بالجيزة لقربها من المنزل الذي انتقلنا إليه وكانت ناظرة المدرسة سيدة عصرية تعتني عناية خاصة بتنشئة تلميذاتها تنشئة رياضية في الحدود التي تسمح بها تقاليدنا الشرقية، كما كانت تشجع الهوايات النافعة ومن بينها التمثيل، ومن هنا كانت مشجعة لي أن التحقت بأحد هذه الأنشطة فالتحقت بفريق الرقص الإيقاعي وقد أظهرت فيه براعة أدهشت المشرفين عليه ثم انتقلت إلى رئاسة فريق التمثيل في المدرسة وكان الذي رشحني لشغل منصب الرئاسة لذلك الفريق هو دوري في «يوم سعيد» وقد استعانت المدرسة بأحد مديري التمثيل في المسرح المدرسي الذي كان قد أنشأه «زكي طليمات» لنشر الثقافة المسرحية في المدارس.
وقد عانيت كثيرًا من هذا المدرب، فقد كان لسبب لا أعلمه يضطهدني وينتقص من مقدرتي على التمثيل وقد قرر أن يقدم فريق المدرسة مسرحية «الهادي» ووقع عليّ الاختيار دون الطالبات للقيام بدور البطولة فيها وبدأت أستعد لأداء الدور فحفظت حواره كاملاً وبت أنتظر البروفات وفوجئت ذات يوم ولم يبقَ على العرض إلا بضعة أيام معدودة، بأن المدرب يسحب مني الدور ليهديه إلى تلميذة أخرى. وثُرت لهذا القرار وشكوت الأمر إلى الناظرة وقلت لها إنني لا أري سببًا لمثل هذا التصرف، وقد أيدتني الناظرة فيما قلت واستدعت مدرب التمثيل الذي زعم لها أن صغر سني يحول دون قيامي بالدور الذي يتطلب فتاة أكبر وأطول قامة وقد حاولت الناظرة أن تثنيه عن عزمه ولكنه تشبث بالأمر واضطررت إزاء هذا التصرف العدائي إلى الاستقالة من الفريق.
لقد كان موقفي هذا غريبًا بين زميلاتي فظل أمر اعتذاري عن التمثيل حديث الطالبات فترة غير قصيرة وأقيم الحفل دون أن أشترك فيه. وفي اليوم التالي، اجتمعنا في فترة «الفسحة» أنا وبعض زميلاتي فرحت أقول رأيي الصريح في المسرحية وأنتقد التمثيل نقدًا دقيقًا صارمًا. وانتابني حماس مفاجئ فرحت أثبت العلم بالعمل، فجسدت أمام زميلاتي أدوار شخصيات المسرحية المختلفة حتى أدوار الخدم والأدوار الثانوية لم أنسها وما أن انتهيت من التمثيل حتى فوجئت بعاصفة من التصفيق والتففت حولي لأجد الطالبات والمدرسات جميعًا كن قد بدأن يتجمعن حولي الواحدة تلو الأخرى، ولكني لفرط اندماجي في التمثيل لم أشعر بهم إلا لحظة انتهائي من التمثيل وانتحت بي إحدى المدرسات جانبًا وقالت: «انتي بكره حتكوني ممثلة كبيرة يا فاتن»، ولا أدري إلى اليوم إذا كانت جملة مدرستي هذه كانت نبوءة أم مجرد عبارة إعجاب وتشجيع وكل ما أدريه أنني قد أصبحت ممثلة ناجحة أتذكر هذه الشهادة بين حين وآخر فأشعر بها تدفعني إلى الأمام.
ولما كانت الطبيعة قد حبتني بجسم صغير فقد سهل علي هذا الأمر حتى أصبحت المدرسة كلها تتحدث عن فاتن البارعة في الرقص الإيقاعي بنفس الحماس الذي كانت تتحدث به عن فاتن الممثلة الصغيرة. وقد كنا نرقص عادة بملابسنا العادية حتى جلس مدربنا ذات مرة يحدثنا عن الملابس التي تؤدي بها هذه الرقصات عادة ويصفها لنا وصفًا مسهبًا. وما أن عدت إلى المنزل حتى كانت الفكرة قد اختمرت في ذهني وسألت نفسي «لماذا لا أؤدي الرقص بملابسه الأصلية؟». ولم يكن إقناع والدي - المشجع لي دائمًا - بذلك الأمر العسير لأحدنا فهو رجل عاش لنا ومن أجلنا ولم يرفض لأحدنا طلبًا لا يراه ضارًا، وبالفعل بعد أيام كنت أرتدي حلة الرقص كما وصفها المدرب وبعد أيام أخرى كانت الناظرة تنظم الدخول إلى قاعة التدريب على الرقص وتحدد عدد الداخلات في كل مرة بعشر طالبات فقط حتى لا تزدحم بمشاهداتي. وبهذه الطريقة ثارت من مشرف فريق التمثيل الذي تجاهل موهبتي في التمثيل، وشكرت الله الذي سبب لي حادثة التمثيل حتى يفجِّر بداخلي موهبة أخرى كان دفينة.
ثم جاء موعد الامتحان وانتهى وقت الكسل والتراخي واللعب وكنت دومًا لا أهمل استيعاب دروسي «كما لم أهمل من قبل في أي عمل أحببته أو أي هواية تعلقت بها» ويوم صدور النتيجة وقبل أن تصلني، أرسلت الناظرة في استدعاء والدي وعلى الرغم من أنني كنت قد أديت الامتحان بلا صعاب، فإنني شعرت بقلبي يسقط إلى قدمي ظننت أنني قد رسبت، ولكن سرعان ما عاد والدي إلى المنزل والابتسامة العريضة تحتل فمه كاملاً وما أن شاهدني حتى أسرع يحتويني بين ذراعيه ويمطر شعري وجبيني ووجنتي بقبلات حانية كثيرة، وتنفست الصعداء فأدركت الآن النتيجة، بل وأعلن والدي عن فوزي على جميع أشقائي وشقيقاتي في «المسابقة» التي كان اعتاد أن يعقدها بيننا كل عام، فقد كان نجاحي بتفوق كبير ومنحني الجائزة المخصصة للفائز وكانت مبلغًا «محترمًا» من المال. ولم يكتفِ والدي بمكافأتي بل أراد أن تشمل المكافأة الجميع إكرامًا لي فقرر أن نسافر جميعًا في اليوم التالي إلى الإسكندرية، وفي الإسكندرية قضيت فترة جميلة «فاتنة» من فترات العمر حيث أهداني والدي الحبيب قبل السفر مجموعة كبيرة من الكتب القصصية الصغيرة المكتوبة خصيصًا لمن كن في مثل عمري، وبالفعل على الشاطئ الهادئ قرأت وقرأت حتى أحببت القراءة التي أصبحت أدين لها بكثير مما وصلت إليه في مراحل عمري المتتالية.
عندما انتهيت من أداء دوري في فيلم «يوم سعيد» كان والدي قد ارتبط مع محمد عبد الوهاب على أن يحتكر جهودي الفنية لمدة عامين، وكان الارتباط شفويًا «مجرد وعد» كان قد قطعه والدي على نفسه. ولكن على الرغم من هذا رفض والدي أن يضعف أمام أي عرض من العروض الكثيرة التي انهالت عليه بعد عرض فيلم «يوم سعيد»، ورفض العروض كلها فقط لأنه كان قد ارتبط بكلمة الشرف، وكان ذلك بالنسبة لي درسًا جميلاً أدركته من والدي في سن يتأثر فيها النشء بأشياء كثيرة، وقد وصل نبأ تلك العروض وكان أحدها من «مؤسسة كبرى عرضت عليَّ مرتبًا كبيرًا نظير احتكار جهدي التمثيلي» إلى مدير أفلام عبد الوهاب، وعلى الفور أرسل إلى والدي يستدعيه وعندما لبى والدي دعوة المدير وجد في انتظاره عقدًا تعرض الشركة فيه عليّ الظهور في إنتاجها مقابل «42 جنيهًا». والحقيقة، إن هذا المبلغ ظل يحيرني بعد ذلك «فلماذا 42 جنيهًا؟ ولما لا ينص العقد مثلاً على أن المبلغ 40 جنيهًا أو 50 جنيهًا؟ أو حتى 45 جنيهًا»؟ سؤال لم أستطع الإجابة عنه رغم أنني فكرت فيه طويلاً، ولكن في النهاية وقع والدي على العقد بالموافقة دون أن يعترض على شيء مما جاء فيه. وترتب على ذلك أنني بعد مدة من الوقت قد تكون امتدت لعدة أشهر دعيت للظهور في ثاني أفلامي مع عبد الوهاب وكان يحمل اسم «رصاصة في القلب» وكان عمري في ذلك الوقت أحد عشر عامًا. ورغم أنني كنت في نظر نفسي على الأقل قد كبرت، فإن المخرج محمد كريم ظل يعاملني بتدليل وكأنني ما زالت الطفلة الصغيرة التي عملت معه من قبل، فكان يحيطني بالعناية والاهتمام اللذين تحاط بهما طفلة. وقد اعتبرت معاملة محمد كريم هذه لي معاملة لا تليق بطالبة توشك أن تضع قدميها بعد عامين على عتبة «البكالوريا» فأعلنت احتجاجي الشديد عليها، وما كان من كريم إلا أن اعتذر عن معاملتي كطفلة وهو يغالب الضحك، وبدأ لا يناديني باسمي مقرونًا بلقب «آنسة»، وكان في تصرفه هذا بعض ما أرضى غرور الآنسة داخلي. وعندما دخلت إلى الاستوديو للمرة الثانية لم أقف كالمذهولة أمام محتوياته كما فعلت في أول مرة، بل كانت معلوماتي عن السينما قد ازدادت عن شؤون الإخراج والتصوير والسيناريو والديكور.
كانت السيدة الفاضلة «زبيدة الحكيم» توالي زيارتها للاستوديو كل يوم من أيام عملي وحين كانت تزورنا كانت تجالسني وتحدثني في الشؤون الخاصة وشؤون السينما وتقدم لي الهدايا التي تليق بي. وحينذاك كان أشد ما أحرص عليه في العمل هو دقة المواعيد. وكانت هذه خطة نقلها إلى المخرج محمد كريم الذي كان يحرص على أن ينظم لي أوقات العمل وأوقات الدراسة وكان عبد الوهاب يضع سيارته الخاصة تحت أمري لتنقلني من المنزل إلى الاستوديو ومن الاستوديو إلى المنزل وهو تكريم كبير لم تكن تصل إليه بطلات أفلامه. ولم أكن أتغيب عن الاستوديو، إلا يومًا واحدًا حيث كان قد زار فيه مدرستنا «وزير معارف سابق». ولهذا الحدث نظمت الناظرة لجنة استقبال للزائر الكبير وبالتأكيد كنت إحدى «عضواتها» وحين ودعنا الوزير إلى باب المدرسة وتكريمًا لنا أصرَّ على مصافحتنا جميعًا وما أن وصل إليَّ حتى قال لي وهو يبتسم «أنا مبسوط منك خالص يا فاتن، انت حتبقي ممثلة كبيرة» ولم أقل له يومها إن الممثلة الكبيرة كانت في حالة «زوغان» من الاستوديو لمقابلتك.
وانتهيت مجددًا من تمثيل دوري في فيلم «رصاصة في القلب» حيث التقطت أذناي لفظًا علق بهما طويلاً وكانت التي نطقت به زميلة اشتهرت بيننا بالبراعة في الأفلام. أما اللفظ فكان «الحب»، نعم «الحب» كانت الزميلة تسهب في وصف مدى تضحية البطلة، وعندما قرأت في أعين بعض المستمعات إليها الدهشة قالت لهن ببساطة «ماهو أصل الحب وحش».
وعلى الرغم من أن الكلمة ذكرت مقرونة بوصف «الوحاشة» فإنني تعلقت بها وأحببتها، نعم أحببت العمل قبل أن أعرف ما هو الحب وأعجبت باللفظ قبل أن أقف على مدلوله، تمامًا كما تحب أنت اسمًا دون سائر الأسماء. ومنذ التقطت أذناي هذا اللفظ أصبحت حريصة على أن أشاهد فيلمًا فيه حب. وكان والدي الحبيب يوافق على اصطحابي إلى هذه الأفلام لأنه كان يؤمن بأنها تحمل دروسًا لي ولا يري ضررًا في أن أشاهد على الشاشة العاطفة السامية التي تربط بين قلوب البشر. وبدأت أتحدث عن الحب ولكن كانت أحاديثي فيها من السذاجة أكثر مما فيها من الحب، ولذلك قد حدث أن قامت مناقشة بين بعض الزميلات اللاتي تكبرنني سنًا حول بعض صفات الحب فوجدت نفسي مندفعة اندفاعًا ورحت أبدي الرأي تلو الرأي عن الحب الذي أعرفه، ولأن معرفتي كانت سطحية فقد ضحكت زميلاتي طويلاً لما قلته حيث كان حديثي كلامًا، مجرد كلام، واستأت للموقف وحزنت في نفسي أن تنجح زميلاتي دوني في الحديث عن الحب. ووجدت نفسي أشكو وأبوح بما يدور بخلدي إلى صديقة أثق فيها، فما كان منها إلا أنها أخرجت من حقيبتها ورقة وقلمًا وسطرت لي قائمة بأسماء الروايات التي تدور حول الحب.. ومنذ ذلك اليوم وأنا لم أتوقف عن قراءة روايات الحب، ولم أكتف بهذا فقط بل عكفت لمدة طويلة على دراسة أساطير الحب القديمة وقصص غزاة القلوب، فقرأت «روميو وجوليت» أمثولة الحب العظيم أكثر من خمس مرات وكانت إحدى دور الصحف قد ترجمتها في كتيب وزع مع مجلاتها فاستعرت الكتيب من إحدى زميلاتي وأمضيت ثلاثة أيام كاملة مع قصة المحب الوفي والحبيبة المثالية.
وأيضًا قرأت دروسًا في الحب أملاها سقراط على شاب تقدم إليه يشكو بغضه لزوجته، وقرأت قصة الرسام الإيطالي الذي أحب امرأة متزوجة فعاش عمره يتعبد في محراب فلما ماتت بعث صورتها في كل لوحاته، وقرأت كل ما كتبه يوسف السباعي عن الحب. وأستطيع أن أقول إنني خلال عام واحد انتهيت من عشرات القصص والروايات حتى نضجت في ذهني صورة مختلفة، وحتى عرفت كثيرًا من أموره الظاهرة والباطنة والمعلومة والخفية. ولكن كان همي الأكبر في تلك الفترة بعد قراءة روايات وقصص الحب،، هو إخفاءها حتى لا تقع عليها عينا أبي أو أمي فقد كانت أسرتي كأي أسرة مصرية تعيش في رحاب التقاليد المتوارثة ولا تنظر إلى مثل هذه الكتب بعين الرضا. وكانت حقيبة الكتب المدرسية وإدراج مكتبي المغلق هي المخبأ الأمين.
وأذكر من بين المشكلات التي أُفتيت بها مشكلة فتاة كانت تكبرنا بأعوام ثلاثة، وعلى الرغم من أنها لم تكن بين تلميذات مدرستي، فإنها لجأت إليَّ لما بلغها عني من ذيوع في عالم النصح والإرشاد، فقالت لي الصديقة «إن مشكلتها تتلخص في حبها لشاب وسيم كل همه الإيقاع بأكثر عدد من الفتيات ثم المجاهرة بالأسماء وبعدد الضحايا». ونصحت تلك الفتاة «بأن تكتم عواطفها وأن تتجاهل هذا المغرور لأن غروره يعميه عن كثير من حقائق الحياة ولذلك يكون حبه لها صادقًا في يوم من الأيام». وفوجئت بها بعد أسبوع واحد أن الزميلة عادت لتشكرني فقد عملت بنصيحتي وشعر الفتى أنها لا تأبه بجماله ولا بسحره فجن جنونه وكعادة الرجل في مثل هذه الحالة لم يجد أمامه طريقًا لامتلاكها سوى الطريق الطبيعي والشرعي فتقدم إلى والدها يطلب يدها، وحقيقي يسعدني أن أقول إن الزواج بينهما تم بعد تخرج الشاب من كليته وإنهما إلى اليوم يكونان أسرة سعيدة تربطني بها صلة الصداقة القوية.
الرقص الإ
> التمثيل لم يكن هوايتي الفنية الوحيدة بل كانت هناك هواية أخرى جميلة تملأ نفسي وتنتظر اللحظة التي تنطلق فيها، وكانت هوايتي تلك هي «الرقص الإيقاعي» وقد وجدت فرصة إشباعها كاملة بعدما سحب مدرب التمثيل دور البطولة مني وأسنده إلى طالبة أخرى كما ذكرت أعلاه. وبالفعل كنت قد بدأت أتدرب عليه كل يوم حتى تفوقت على زميلاتي جميعًا. وكان الرقص الإيقاعي شيئًا لا تقرّه وزارة المعارف حينذاك بل هي أكثر من هذا لم تجد بأسًا في أن ترقص طالباتها رقصًا حركاته أقرب إلى الرياضة.
أستاذة في الحب
> بدأت أتحدث عن الحب «حديث الخبيرة» دون أن يقابلن صديقاتي حديثي بضحكاتهن الساخرة. وكان حديثي دائمًا مدعمًا بأقوال «جورج بايرون» المأثورة عن تلك النبيلة، وبأشعار «فيكتور هوجو» الذي يسهب في وصف الحب، وأيضًا بالأشعار الرقيقة التي نظمها الشعراء العرب في الغزل. وكانت زميلاتي ورفيقاتي يجلسن حولي يستمعن إلى محاضراتي بما أقول والإيمان به ولم ألبث أن أصبحت أستاذة الحب بينهن. وكانت كل منهن تلجأ إليّ في مشكلاتها العاطفية.
يقاعي هواية جديدة
ADDS'(9)
ADDS'(3)
-