**1**
محمد عبد الفتاح عليوه
ليس من السهل على الذي يعيش في قلب الأحداث ويشارك في صنعها أن يكتب عنها بشكل موضوعي أو تحليلي لكنها مشاهدات عاينتها ومشاعر عشتها ونظرات التحدي رأيتها في عيون الثوار الذين يسمونهم محتجين أو معارضين أو معتصمين هذه تسميات لا أساس لها من الواقع الشباب في ميدان التحرير ليسوا محتجين ولا معارضين ولا معتصمين من اجل مطالب فئوية بسيطة لكنك تستطيع أن تطلق عليهم كلمة ثوار بكل ما تحمل الكلمة من معنى ثوار يريدون إسقاط النظام برمته ثوار يريدون تغييرا شاملا أولى خطوته رحيل راس النظام الرئيس مبارك..
الناس خارج الميدان على اختلاف توجهاتهم يتحدثون عن مظاهرات واحتجاجات والناس داخل الميدان على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم الثقافية والاجتماعية والاقتصادية يتحدثون عن ثورة يشعرون بالثورة ويقولون مطالب الثورة وأهداف الثورة ونجاح الثورة شعورهم بالثورة يقويهم ودماء الشهداء التي سالت على أرض الميدان تغذيهم إن فكرت وأنت واحد منهم أن تتراجع أو تتخاذل قابلت نظرات التحدي وعيون الإصرار تنفخ فيك الروح من جديد وتغذيك بإحساس التحدي والصمود فلا تملك مشاعر التخاذل إلا أن تتوارى خجلا أمام هذا التحدي الرهيب في عيون الثوار والصور المعلقة في الميدان للشهداء الأبرار..
الثوار في ميدان التحرير إما إن يعيشوا أحرارا كرماء في وطن كريم وإما أن يموتوا تحت عجلات عربات الأمن المركزي أو مجنزرات الدبابات التي ترابط على مداخل الميدان فتكون دماؤهم الزكية وأرواحهم الطاهرة هي وقود العزة الذي يشعل ليس ثورة واحدة ولكن ثورات على كل من تسول له نفسه أن يستعبد هذا الشعب من جديد..
في الميدان ترى الروح روح الأشياء ولا ترى تلك القطعان من أشباه الحيوانات التي كانت تقابلك في كل لحظة من لحظات حياتك ليس لهم هم إلا أن يأكلوا ويشربوا ويتناسلوا وأن يرزقوا الستر عن أعين النظام وأتباعه حتى نحت الحيط من كثرة ما حك من هذا القطيع الذي كانت وصيته الغالية يقدمها لذراريه الهزيلة ” يا ابني امشي جنب الحيط” ترى أناس تكفيهم اللقمة يقتسمونها بينهم في حب وصفاء وتملأهم روح العزة والوطنية والاستعداد التام للفناء في سبيل الوطن إذا طلب منهم عشرات من المتطوعين لتأمين المداخل ترى المئات مهرولة مسرعة وإذا طلب منهم المئات ترى الآلاف إنك تستطيع أن تقول أن الروح قد تحررت من أسر الخوف والشهوات فصارت هي التي تتحكم بكل خفتها ورونقها وجنوحها إلى السماء في الأجساد ولا تسمح للأجساد بكل ثقلها والتصاقها بالأرض أن تتحكم فيها..
يقولون أن ثوار الميدان بؤساء جوعي معرضون للخطر مثيرون للشفقة والعطف ووالله إن من خارج الميدان هم المستحقون للشفقة وهم المأسورون حقا.. وإلى لقاء آخر من قلب الميدان..
فالميدان كان مثالا للحرية وما تفعله في النفوس من تفجير للطاقات وخلق للإبداع، ورغم شبه الإجماع من الثوار على تسميته بميدان الشهداء، إلا أنني أرى تسميته بميدان الحرية؛ ففي الميدان تجلت الحرية في صورتها الحلوة، عاشها الثوار حقيقة لا خيالا، واقعا لا تصورا، فالحرية هي كلمة السر، ومفتاح التقدم والرقى والإبداع..
ففي الميدان كانت الأفكار الجديدة تتوالى على الشباب في تزاحم عجيب، حتى كانت كل لحظة تشهد ميلاد فكرة جديدة، كلها أفكار تعبر عن الهدف الواحد الذي اجتمع عليه الثوار، والذي حاول النظام البائد بأساليبه الشيطانية الالتفاف عليه، وصرف الثوار عنه.. هدف واحد.. تسمعه من الصغير والكبير، والرجل والمرأة، والشاب والفتاة، والمتعلم وغير المتعلم، الإخوانى، والليبرالي، والاشتراكي، وشباب 25 يناير.. تبلور هذا الهدف في عبارة ” الشعب يريد إسقاط النظام “
والأفكار التي عبرت عن هذا الهدف اختلفت مابين رسوم كاريكاتيرية، وشعارات، وهتافات، ورسومات على الإسفلت، وحركات تمثيلية، حتى الصمت كان يرسم لوحة بديعة تعبر عن الهدف الواحد..
خذ مثلا على سبيل المثال:
شاب يعبر عن الهدف بلا كلام إنه يحمل زيرا( إناء من الفخار توضع فيه مياه الشرب) ويدور به في أرض الميدان، مكتوب عليه “هذا ليوم الرحيل” وفى العامية المصرية عندما يكره الناس أحدا وينتظرون رحيله يقولون ” اكسر وراه زير” حتى لا يعود مرة أخرى..
وهذا ثاني يحمل لافتة ويدور بها في الميدان مكتوب عليها ” ارحل بقى الولية عايزة تولد، والولد مش عايز يشوفك”..
وهذا ثالث يحمل لافتة مكتوب عليها ” ارحل بقى مراتى وحشتني”..
وهذه فتاة تحمل لافتة على هيئة لوحة سيارة معدنية مكتوب عليها رقم السيارة2011 والحروف المقطعة بجوارها “ا ر ح ل”..
وهذا شاب ظريف يحمل لافتة مكتوب عليها ” ارحل بقى ايدى وجعتنى”..
قالوا إن الشباب في التحرير مأجورون من جهات أجنبية، وأنهم يوميا يوزع عليهم وجبات كنتاكى و50 يورو للشاب الواحد، فكان أبلغ رد هذا المشهد:
“شاب يحمل الطلقات الفارغة التي أصيب بها الثوار من بلطجية النظام البائد، ويدور بها في الميدان أمام الكاميرات قائلا ” حد عايز كنتاكى يا جماعة”..
أما الهتافات فحدث ولا حرج:
” ارحل يعنى امشي ياللى ما بتفهمشى”
“كلموه عبري ما بيفهمش عربي”
” ارحل ارحل يا طيار الطيارة في المطار”
“ارحل ارحل يا مبارك تل أبيب في انتظارك”
” يا جمال قول لأبوك شعب مصر بيكرهوك”
” يا سوزان قولي للبيه كيلوا اللحمة بميت جنيه”
“يا سوزان قولي للبيه كيلوا العدس بعشرة جنيه”
وبينما تتجول في الميدان، إذ تسمع رجلا طويل القامة، يلبس جلبابا بلديا، ومعه طبلة المسحراتي يدور في الميدان قائلا:
يا ولاد الحلال فيه راجل غبي اسمه مبارك..
أهبل ما بيفهمش..
أطرش ما بيسمعش..
أعمى ما بيشوفش..
اللي يلاقيه يحطه في أقرب صفيحة زبالة أو يولع فيه”
لا تملك نفسك من الضحك، وإذ بك تفاجأ بمجموعة من الشباب يلتفون على هيئة زار بلدي، يتمايلون ويرقصون، مرددين بصوت واحد:” اخرج يا حمار ..اخرج يا حمار ..اخرج يا حمار..”..
وبينما أنت في الميدان إذ تعثر قدمك برجل جالس، يضع على فمه شريط لاصق مكتوب عليه ” 30سنة كفاية ..حراااام”..
تنظر إلى بعيد فتجد رجلا يجرى على هيئة طائر، يحرك يديه كأنهما جناحان قائلا:” أنا رايح ميدان طلعت حرب حد ييجى معاى “
هنا الدرس:
في ميدان الحرية تتوالد الأفكار، ويظهر الإبداع ..وفى ميدان الاستبداد تسمع ضجيجا ولا ترى طحنا ..
***2***
أجمل ما في الميدان أنه جمع مصر كلها في مكان واحد، إنك تستطيع أن ترى في الميدان مصر بعد أن ينكشف عنها غبار الظلم والاستبداد، وكأن الميدان يعطيك صورة حية لمصر بعد رحيل مبارك..
شعور عجيب تحسه بعد دخول الميدان، ويستطيع حدسك أن يدرك الفرق الشاسع بين خارج الميدان وداخله..
ففي الميدان ترى الوحدة الوطنية في أجل صورها، لا الوحدة الوطنية بين المسلم والمسيحي، ولكن الوحدة الوطنية بين كل أطياف المجتمع وطبقاته، مما لا يمكن أن يجمعهم شيء أو مكان خارج هذا الميدان، بلا فوارق أو حواجز نفسية..
هل يستطيع شاب ثرى أن يلتقي بشاب فقير في مكان ما دون أن يكون بينهما شعور بالفوقية والدونية يمنع التواصل الجيد بينهما؟.. أنت في الميدان ترى أن كل ذلك قد تلاشى..
ففي الميدان الشباب والشيوخ، والرجال والنساء، والفتيان والفتيات، والكبار والصغار، كما فيه الأثرياء والفقراء، والأميون والأدباء، واللاعبون والفنانون، والمسلم بيده المصحف يعانق المسيحي المتوسم بالصليب..
الفقير يأكل ويرمى تحت قدميه، والغنى يمسك المكنسة والجاروف ويلتقط ما تحت الأقدام في بشر وسرور..
إذا أحسست بالجوع وجدت الطعام، وإذا شعرت بالعطش جاءك الماء قبل أن تنطق..
في الميدان الكل في خدمة الكل، توحد الجمع على هدف واحد، فانكسرت الحواجز، وذابت الفوارق، وأصبح الكل لا يشعر إلا بشعور واحد، أنه مصري وفقط..
في الميدان تجد التعاون والحب والألفة، فلا تجد تدافعا على كثرة الأعداد، ولا تحرشا على كثرة الدواعي والمثيرات، ولا سرقة على تهيؤ الظروف..
ففي ميدان الحرية ” التحرير” تجد أشتات الأجساد، أجماع القلوب، فالمجتمع الذي يجتمع على هدف عظيم، تظله ظلال الحرية الوارفة، يصنع أخلاقا عظيمة، وسلوكيات أعظم ..وهذه مصر ما بعد مبارك..
ميدان التحرير، يجمع يوميا بين النصف مليون والثلاثة ملايين، نصف مليون مرابطون ليل نهار، والباقون يتوافدون عليه زائرين، أو مستكشفين، أو متضامنين..
والسؤال كيف استطاع هؤلاء إدارة هذا المكان دون خسائر؟
كيف سيطروا عليه دون قوات أمن ضخمة؟
كيف يأكلون ويشربون وينامون ويقضون حاجتهم؟
كيف حدث ذلك من شباب طالما وصف بأنه تافه ليس لديه هدف عظيم يفكر فيه أو يعيش من أجله؟
ومن شعب طالما وصف من قبل زبانية النظام البائد بأنه شعب لم ينضج بعد وغير مؤهل للديموقراطية الآن؟
كيف استطاع إدارة شئونه في هذا المكان وهو غير مؤهل للديموقراطية؟
لقد رأيت عجبا!!
إدارة تلقائية، ونظام عفوي، وكفاءات تظهر، وقيادات تنمو وتزدهر في أرض الواقع، بالممارسة العملية، لا بالدورات النظرية..
كل ما يضمن بقاء الناس في الميدان مدة أطول معمول حسابه..
وأولى الأشياء تأمين الميدان من بلطجية النظام وقوات الأمن، خاصة بعد موقعة الجمل في يوم الأربعاء الأسود، مئات من المتطوعين يحرسون مداخل الميدان، ولا يحتاجون أكثر من أن تنادى إذاعة الميدان عن حاجتها لمتطوعين لمدخل عبد المنعم رياض، أو طلعت حرب، أو قصر النيل، فإذا طلبت عشرات هرع المئات، وإذا طلبت المئات، هرعت الألوف..
مهمتهم التأكد من هوية الداخلين وتفتيشهم، ومساندة القوات المسلحة، أو صدهم إذا فكروا في دخول الميدان أو السيطرة عليه..
ينام أهل الميدان ولا ينامون، ويرتاح أهل الميدان وهم قائمون، يحرسهم الإيمان، وحداؤهم ” عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله” وأهل الميدان كلهم حراس يتناوبون، فأنت اليوم نائم، وغدا حارس، وأنت الساعة مؤمَّن، وبعد ساعة مؤمِّن..
وأما الطعام فمعظمه بروح التكافل، فاللقمة يقتسمونها، وطعام الواحد يكفى الاثنين، والاثنين يكفى الثلاثة، ولا يخلوا الميدان من تبرعات المتضامنين، متمثلة في السندوتشات، والعصائر، والتمور التي تعطى الطاقة، ولا تعوز إلى قضاء الحاجة..
وأما النوم ليلا فقد انتشرت الخيام في تنسيق عجيب.. هنا أبناء الشرقية.. وهنا أبناء الغربية.. وهنا أبناء أسوان.. وهناك أبناء حلوان.. وفى تلك الناحية خيمة مكتوب عليها فيلا أبناء 15 مايو، ومن لا يجد يستعن بالله، ويلتحف السماء، وينام قرير العين متلذذا بطعم المجاهدة، فيصحو وقد التف جسده ببطانية لا يعرف مصدرها..
في أحد المساجد الصغيرة بجوار الميدان مستشفا ميدانيا من أطباء الثورة وطبيباتها في مختلف التخصصات، وجميع الأدوية، يتناوبون على خدمة الثوار بلا كلل أو ملل، فضلا عن النقاط العلاجية المنتشرة في أنحاء الميدان..
الميدان كل يوم صباحا يصير أنظف من شوارع باريس، مجموعة من أزهر شباب مصر وشاباتها يقومون بتنظيف الميدان وكنسه، يحملون ما جمعوه إلى مكان أهِّل لذلك كتب عليه “هنا مقر الحزب الوطني الجديد”
حتى شحن بطاريات الهواتف المحمولة فقد تكفل بها شباب الثورة، في نقاط انتشرت في كل أنحاء الميدان..
كل شيء يسير بنظام ثابت، حتى قضاء الحاجة، ودخول دورات المياه، وقد صنع شباب الثورة المتخصصون من جراكن المياه الكبيرة أحواض للوضوء، ومباول للتبول، وأوصلوها بشبكة الصرف الصحي في الميدان؛ للقضاء على الزحام..
هذا هو شباب الثورة، الذي قال عنه عصابة النظام البائد زورا وبهتانا ” شباب تافه لا يتحمل تبعات ولا مسؤليات الديموقراطية”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى