فاض غضب الشعب المصري، وتدفقت ملايين الشعب تدق الكعب إلي ميدان التحرير، وإلي ميادين الغضب الساطع في عواصم ومدن مصر الكبري.
أنهي الشعب انقسام قواه الوطنية، وتراجع الإخوان وجماعات التيار الإسلامي عن المقاطعة النشاز، وبدت جمعة 8 يوليو 2011 بنتاً عفية أصيلة لجمعة 27 مايو 2011، والتي جرب الإخوان مقاطعتها، ونجحت بأكثر مما حلم به دعاتها، وفرضت معادلة شارع جديدة، أنهت وهم احتكار الإخوان لحشود الشارع، وأسقطت أسطورة فتوات الحارة، والتي بدت نوعا من البلطجة السياسية تسند بلطجة المطاوي والسنج، وتريد أن تعطل الثورة، وتحبسها في تصرفات مثيرة للضجر، وتجلب خيبة الأمل، وتستهدي بفكرة ممالأة السلطات أيا كان اسمها، وبدواعي الغرض الذي هو مرض، ثم ثبت لجماعة الإخوان أن هذه هي سياسة الانعزال بذاتها، وأن التحاقها بالثورة ومظاهراتها وجمعاتها وميادينها هو الأقوم سبيلا، وحسنا فعلوا، حين نزلوا علي حكم الشعب وجماهير الثورة.
ورغم تصرفات هنا وهناك، وعناد يركب الرأس، وخناقات المنصات والهتافات، فقد أسقط نداء الثورة الشعبية غالب ظواهر الانقسام السياسي، وبدت الوحدة ممكنة علي أساس إنقاذ «الثورة أولا»، فالثورة هي الأصل، وهي ثورة الشعب المصري بغالب طبقاته وفئاته، وعلي اتساع الجغرافيا المصرية، وليس لقوة سياسية من فضل فيها، إلا أن تكون التحقت بها، وأخلصت لأهدافها الكبري في طلب العدالة والحرية والكرامة، وليس سرقة شعاراتها علي طريقة «اخطف واجري»، وتوظيفها في السيرك السياسي القديم نفسه، وصرف النظر عن الثورة المهددة بالسرقة، وبوجوه الغدر، وخطط الاحتواء والاغتيال، فالأولوية الآن للثورة، الأولوية الآن لكنس النظام المخلوع رأسه، الأولوية الآن للتطهير الشامل، وفتح الطريق لبناء نظام جديد، نظام يليق بمصر، وببركة دم الشهداء، وبالثورة الفريدة التي هي واحدة من أعظم انتفاضات التاريخ، ويريدون الآن تحويلها إلي زوبعة في فنجان قهوة سادة.
وبقدر ما بدت الثورة عفية وكاسحة في جمعة 8 يوليو، وبقدر ما أسقطت من ظواهر انقسام سياسي عكرت صفو النبع العظيم، بقدر ما أزالت من أكدار، بقدر ما أكدت علي انقسام آخر يبدو كعقبة كبري، وينذر بالخطر، فقد بدت سلطة ما بعد الثورة في قفص الاتهام، وبدت مشاعر الملايين التلقائية في حالة غضب جارف من المجلس العسكري وحكومته، فقد تراجعت أحوال الرضا الأول، كانت الثقة في أعلي ذراها مع خلع مبارك، ومع إعلان المجلس العسكري تسليمه بشرعية الثورة، وانحيازه لمطالبها وأهدافها، وبعد خمسة شهور من حكم المجلس العسكري، يبدو رصيد الثقة في أدني درجاته، وسرت حالة من التشكك في القرارات، والضيق من التباطؤ الموحي بالتواطؤ، وهو ما حذرنا منه مراراً، وما من سميع ولا مجيب، فقد بدا المجلس العسكري في وضع مشجع لإثارة الريب، يتحدث كثيرا عن الثورة، ولا يكف عن إصدار البيانات، ويملأ الدنيا كلاما دون فعل حقيقي مكافئ، ودون التزام خالص ونهائي بأقدار الثورة وأهدافها الشاملة، والثورة لا تحتاج إلي تفاسير وشروح، الثورة هي الثورة، وحصاد الشهور الخمسة لا يبدو مريحا، والخطي متباطئة، تراوح في المكان ذاته، فلا النظام القديم جري كنسه، ولا النظام الجديد جري التقدم الجدي إليه، وكل ما جري أقرب لتغيير وجوه علي طريقة إحلال الأسوأ، والإيحاء بتغيير في المبني دون تغيير حقيقي في المعني، وكأن نظام مبارك علي حاله بغير رئاسة مبارك نفسه «!».
بدت رسالة الغضب المصري الساطع ظاهرة في جمعة 8 يوليو، وغالب الظن أنها لن تكون آخر جمعة غضب، ونرجو أن تكون الرسالة وصلت، وأن يتم التصرف علي مقتضاها، فلا شيء من تصرفات الشهور الخمسة قابل للتكرار ولا الاستنساخ، والشعب المصري لن يغفر لأحد ممن يظلمون ثورته، أو ينتكسون بها، أو يتحايلون عليها، والكرة الآن في ملعب المجلس العسكري، ولا نقول في ملعب الجيش المصري، فالجيش جزء من الشعب المصري، ووحدة الشعب والجيش غير قابلة للانفصام، وتصرفات المجلس العسكري ـ للأسف ـ تنتقص من مبدأ وحدة الشعب والجيش، فالناس تشك في حقيقة ما يجري، وعندها كل الحق، فلا شيء يمضي إلي غايته، ومحاكمات مبارك وعائلته ورجاله ونسائه تبدو كلعبة هزلية، أنباء عن تحقيقات هنا أو محاكمات هناك، ودون نتائج تغري بالتصديق، فالسوس ينخر في القصة كلها، تحاكمون الفاسدين بقانون وضعه الفاسدون ذواتهم، وكأننا بصدد سرقة فرخة أو حبل غسيل، ثم تفاجئنا البراءات وإخلاءات السبيل، وبدعوي مراعاة إجراءات القانون العادي، وهذا كلام لا معني له، فهو الحق الذي يتلبسه الباطل، فالثورة تعني ـ بالبداهة ـ هدم نظام قانوني، وبناء نظام آخر، وقد سقطت شرعية قوانين نظام مبارك جميعا، وسقطت شرعية نائبه العام، والمطلوب ـ بالبداهة ـ قانون خاص للمحاكمات، المطلوب: قانون للفساد السياسي، أو عودة لقانون الغدر الذي أنشأته ثورة 1952، ودونها سوف تتداعي فصول الهزل، ادعاء بإقامة محاكمات لامتصاص غضب الرأي العام، ثم الغدر بالناس في أقرب فرصة، وإصدار أحكام بالبراءة، أو تقديم أكباش فداء هنا أو هناك، والتضحية بالأصغر حماية للشيطان الأكبر، وعلي طريقة الحكم بإعدام أمين شرطة هارب، وتحصين الضباط من المجرمين الكبار، بل وإخلاء سبيلهم علي نحو ما جري في محاكمة قتلة شهداء السويس البطلة، أو تقديم السفاح حبيب العادلي كمتهم رئيسي، وحماية مبارك في منتجع شرم الشيخ، وتأخير المحاكمة انتظاراً لعزرائيل خلاصا من دواعي الحرج، أو اصطناع محاكمة صورية علي طريقة مرافعات فريد الديب محامي مبارك والجواسيس، ربما تنتهي بتبرئة مبارك نفسه، أو منحه وساما علي سبيل التكريم لدوره في نهب البلد وإذلال وخيانة الشعب المصري.
نعم، علي المجلس العسكري أن يعي حقيقة شعور الناس، فنحن بصدد ثورة ثانية إنقاذاً وإنفاذاً لأهداف الثورة الأولي، نحن بصدد غضب ساطع ضد المجلس العسكري نفسه، نحن بصدد إنذار شعبي للجنرالات، نحن بصدد «كارت أحمر» لحكومة المجلس العسكري ورئيسها عصام شرف، وبصدد «كارت أصفر» لحكم المجلس العسكري نفسه، نحن بصدد خطر عليهم أن ينتبهوا إليه، صحيح أنهم لم يكونوا يريدون محاكمة مبارك ورجاله، وصحيح أنهم استجابوا بعد الإعلان عن غضبة 8 أبريل 2011، والاحتشاد الشعبي الهائل في ميدان التحرير، ثم رفع عنهم القضاء المصري باقي دواعي الحرج، وحكم بحل حزب الرئيس المخلوع، وبحل المجالس المحلية الفاسدة المزورة، ثم بدت حساسية المجلس العسكري لمطالب الثورة كأنها تضعف، وبدا كأنهم يقولون لنا: تظاهروا كما تريدون، ونحن سنفعل ما تريده قوي غامضة في الداخل والخارج، فلا شيء يمضي إلي نهايته، ولا قرار سالك إلي غايته، فلم يصدر قانون العزل السياسي للفاسدين، ولا قانون العزل الإعلامي للمزيفين، ولا جري تطهير الوزارات والجامعات، وظل كل شيء علي حاله، بل شكلوا حكومة بعناصر ثورة مضادة في غالب شخوصها، ودون أن يصارحوا الشعب بالحقائق، دون أن يوقفوا التمويل الأمريكي والتمويل السعودي لجماعات مريبة في مصر، وكأن مصر هانت وصغرت، وتحولت إلي ميدان مفتوح لألعاب مخابرات، تجهد في احتواء الثورة وكتم أنفاسها، ثم أن أيا من الجنرالات لا يصارحنا بما يجري في الغرف المغلقة، وبما يطلبه المسئولون الأمريكيون، والذين يتقاطرون إلي القاهرة، وإلي مكتب المشير طنطاوي، وبمعدل لقاء كل 48 ساعة، ثم تتوالي تطورات لا تبعث علي اطمئنان، كالإعلان في واشنطن عن حوار الإخوان والأمريكان، واللقاء المفاجئ لمرشح محتمل للرئاسة، وقريب من الأمريكيين، في مقر حزب كبير باسمه لا برسمه، والظهور الأول للفريق سامي عنان في لقاء سياسي، كانت أطرافه في غالبها من جملة أحزاب الكارتون ذاتها التي صنعها مبارك، وكأن الأمريكيين ينفذون خطة احتواء للثورة، ويريدون استبقاء مصر كمستعمرة أمريكية، وفي وضع الخضوع لرغبات الإسرائيليين، ويضغطون بما تعرف ونعرف، ثم يجدون من يعاونهم علي الإثم والعدوان.
وما يجب أن يقال للجميع واضح تماما، وهو أنه لا يمكن استغفال الشعب المصري، وأن جريمة احتواء الثورة أو إجهاضها لن تمر، فقد عرف المصريون طريقهم، ونزعوا حجاب الخوف إلي الأبد، وهم قادرون علي إظهار العين الحمراء في لحظة الخطر، فالمجلس العسكري ليس مجلسا لقيادة الثورة، إنه مجرد «وكيل» مؤقت عن «الأصيل» الذي هو الشعب المصري، ونفاذ قرارات سلطته مشروط بالتزام كامل بأهداف الثورة، ودون تحريف أو تخويف ومع كامل الاحترام الشخصي، فلا يصح لأحد أن يخدع نفسه، فالشعب بعد ـ جمعة 8 يوليو ـ ينتظر تغييراً جوهريا في السلوك والقرارات، ينتظر إعداماً كاملاً عاجلاً لنظام مبارك المخلوع وينتظر دستوراً جديداً يفتح الطريق المباشر لحكم الشعب، ونأمل أن تكون الرسالة وصلت بالبريد الثوري السريع.
وباختصار، فقد أصدرت محكمة الشعب المصري حكمها في جمعة 8 يوليو، أخرجت «الكارت الأحمر» لحكومة الثورة المضادة، وأبرزت «الكارت الأصفر» لجنرالات المجلس العسكري، وإنا لمنتظرون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى