في صباح الإثنين 2 مارس 1981 الجو صحو شديد الحرارة في واحة سيوة غرب مصر الطائرة الهليوكوبتر الروسية الصنع التابعة للقوات الجوية المصرية لا تزال رمال سيناء تتذكرها وهي علي وشك الهبوط، قائدها المقدم طيار "سمير غيث" يطلب الإذن علي المهبط الرسمي لفوج المقر الغربي.. تأتيه إشارة بأن المهبط تحت الصيانة وأنه مسموح له بالهبوط في مهبط أقرب للمكاتب الإدارية فينحرف سمير ومعه علي الركب العامودي الطائر 14 قائدا عسكريا ميداني بينهم الفريق "أحمد بدوي سيد أحمد" وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة منذ 14 مايو 1980 .
هبطت الطائرة علي الأرض الرملية وقد لوحظ أنها رمال سميكة نوعا.. يخطو بدوي ومعه 13 قائد عسكرياً من أبطال حرب أكتوبر الحقيقيين لا يتصورون الغدر بين أبناء جيلهم في مشهد تكرر لقائدهم الأعلي الذي سيلحق بهم في جنة الله بعد 7 شهور فقط، يقف الجميع داخل الطائرة وتهرع الخدمة الأرضية لفتح أبواب الطائرة من الخارج حيث لا تفتح الأبواب من الداخل في هذا الطراز إلا في حالات الطوارئ. الساعة تشير للتاسعة صباحا ولديهم عمل طويل للمرور والإشراف علي حالة الوحدات العسكرية العاملة ضمن قيادة المنطقة الغربية التي تحولت منذ 20يوليو 1977 لساحة مواجهات عسكرية ساخنة بين مصر وليبيا يمرون علي كل جندي.
يسأل قائد ميداني الفريق بدوي:"سيادتك ممكن نأتي بعربة تنقل السادة اللواءات للقاهرة في طريق العودة لأن العدد مخالف للتعليمات الأمنية حيث لا يمكن الجمع بين أكثر من رتبتي العميد علي طائرة واحدة" فيضحك بدوي ويقول له: "أولا نحن بين إخوتنا وأنا صاحب القرار والأساس أنني أريد تعليم القادة التوفير في كل شيء يصمت القائد الميداني أمام رأي الوزير.
تقترب الساعة من العاشرة صباحا وتكون الخبرة عامل الإنجاز وعشرات الملاحظات قد سجلتها دفاتر القوات والمكاتب والوحدات التابعة للمنطقة الغربية.. في ذلك اليوم يتناول القائد مع زملائه وجبة خفيفة.
حالة غير طبيعية تنتاب طاقم الطائرة المكون من سمير غيث قائد الطائرة ومعاون آخر له ومهندس الرحلة ومضيفة عسكرية.. وفي طريقه للطائرة قبل وصول القادة يقف قائدها ومعه معاونه يتلفتان حولهما يعاينان المكان وعلي بعد أمتار قليلة أسوار المعسكر وقد مدت بطولها أعمدة إنارة حديثة ركبت عليها أيضا أسلاك الاتصالات الخاصة بالهاتف الخاص بالمنطقة الغربية وأسلاك أخري ملقاة علي الأرض.
يصل القادة ومن خلفهم العاملون بالقيادة الغربية يودعونهم وتغلق أبواب الطائرة ويحصل قائدها علي إذن الإقلاع، يشتد صوت المحركات وتدور ريشات الطائرة العامودية بأقصي قوة مثيرة للرمال وبدوي يلوح بيده مع زملائه من نوافذ الطائرة لمن يقفون علي الأرض ، ثوان قليلة والطائرة ترتفع عجلاتها من الأرض، وفجأة خطاف مربوط في ذيل الطائرة يجذبها ناحية أسلاك الإنارة القريبة.. تتأرجح بقوة يطلق قائد الطائرة آخر نداء طوارئ فيأتيه أمر غريب من المراقبة (اقفز) ولأنه لا توجد أبواب في قمرة القيادة فيقوم بالجري ووراءه طاقمه وفي أقل من ثانيتين يكون خلفه معاونه والمهندس والمضيفة العسكرية وكأنهم يعرفون ومدربون علي اللحظة فيكسر سمير غيث عجلة دافع باب الطوارئ فينخلع الباب في ثانية واحدة وهي الحالة الوحيدة التي يمكن للباب فيها أن يفتح من الداخل وفي سابقة تاريخية لم تحدث ولن تحدث ثانية في الطيران العسكري يترك قائد الرحلة طائرته لينجو قبل الركاب.
ولأن الارتفاع قد بلغ الآن حوالي 10 أمتار والأرض عليها طبقة سميكة من الرمال وكأن أحدا وضعها بالقصد لتحتوي من سيقفز من الطاقم الذي يسقط أعضاؤه في الهواء بسلام بينما الطائرة تتأرجح وينخلع بعد 3 ثوان الذيل ومعه الكرسي الجالس عليه العميد "أبو بكر" سكرتير بدوي العسكري فيسقط مصابا بإصابات طفيفة.
أما الفريق أحمد بدوي ومعه اللواء صلاح قاسم رئيس أركان المنطقة العسكرية الغربية واللواء علي فايق قائد المنطقة الغربية واللواء جلال سري رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة واللواء أحمد فواد مدير إدارة الإشارة واللواء عطية منصور رئيس هيئة الإمداد والتموين واللواء محمد حشمت رئيس هيئة التدريب واللواء محمد أحمد المغربي نائب رئيس هيئة التنظيم والإدارة واللواء فوزي الدسوقي مدير إدارة الأشغال العسكرية والإبرار واللواء محمد حسن مدير إدارة المياه والعميد أركان حرب محمد السعدي مدير هيئة عمليات القوات المسلحة والعميد أركان حرب محمد وهبي من هيئة العمليات بوزارة الدفاع والعقيد مازن مشرف من هيئة العمليات والعقيد أركان حرب ماجد مندور من هيئة العمليات.
فقد توقفت بهم عقارب الساعة وآن أوان الرحيل ومع أن رائحة الغدر والخسة كانت تحيط بالمكان إلا أن الشرف كان في وداعهم فقد حصلوا للتو علي لقب الشهداء، وفي الثانية والنصف بعد ظهر اليوم التالي خرجت مصر كلها تودعهم من أمام مقر وزراة الدفاع بالقاهرة وقد أصدر في صباح الثلاثاء 3 مارس السيد رئيس الجمهورية محمد أنور السادات قرارا جمهوريا بترقيتهم جميعا للرتبة الأعلي ومنح أسمائهم نوط الواجب من الطبقة الأولي.
لقد نفذ الجاني فعلته الإجرامية بتنفيذ وتخطيط أجهزة مخابرات فالعملية من النوع السهل الممتنع والأداة من المحيط وبشكل طبيعي غير مشبوه ويحسب قضاء وقدرا ولا يمكن فتحه إلا في وجود معلومات جديدة.
طائرة تقلع من مطار ألماظة علي متنها فريق تحقيق متخصص ومعهم عشرات الإعلاميين والصحفيين يعاينون موقع الحادثة ويقلبون في الوقائع التي تلت الجريمة التي ستعيدنا مرة أخري لسيرة الرئيس المخلوع وقضيتنا اليوم هي بطل فيها فلا يوجد قائد لا يزال ينبض في قلبه نبض الشرف العسكري إلا ويشهد بالعداء الغريب الذي كان بين بدوي ومبارك فالأخير راح يتصل بشكل مشبوه بعدد كبير من القادة العسكريين، بل قام بتعيين ملتف لعدد منهم في مراكز مفصلية حتي يكونوا رجاله في الجيش وفي وزارة الدفاع بدأ يلعب دور سمسار السلاح فذهب أحمد بدوي للسادات وحكي له كل شيء بالوثائق وترك للسادات نسخة من كلامة مذيلة بتوقيعات مبارك فأمر السادات سكرتيره فوزي عبد الحافظ أن يحضر إليه وزير الدفاع يومها الفريق "كمال حسن علي" من 1978 إلي 14 مايو 1980- ليسأله السادات في حوار تاريخي مشهور: "قل لي ياكمال الكلام اللي وصلني عن النائب حسني مبارك صح ولا لأ أنا مش عايز إلا إنك تجاوبني .. صح ولا لأ يا كمال؟" ساعتها لم يجد كمال حسن علي بدا أمام إصرار السادات إلا أن يعترف بأن المعلومات سليمة فيلتفت السادات لفوز عبد الحافظ ويقول له: "قل لمبارك يروح يقعد في بيته ولما أعوزه هندهله".
هددت معلومات أحمد بدوي النائب مبارك بقوة وكادت أن تطيح به خارج التاريخ ونتعرف اليوم علي معلومة جديدة تضاف للتاريخ، فقد علمنا أن أحمد بدوي كان قد أمد النائب علوي حافظ قبل وفاته بساعات بملف معلومات عن فساد مبارك في الجيش استخدمه علوي بعدها بأعوام في الاستجواب الأشهر في مجلس الشعب في 5 مارس 1990 وهنا نعود لأجواء الاستجواب فعلي ما يبدو تسبب علوي دون أن يدري في أحداث جسام بسبب هذا الاستجواب الذي علمنا أنه ظل معلقا في مجلس الشعب لمدة عامين أي قدمه علوي أول مرة في عام 1988 وفي يوم الاستجواب اختاره رجال مبارك ليكون يوم مباراة هامة لفريق المنتخب الوطني ومنتخب نيجيريا في بطولة الأمم الأفريقية وكان توقيت الاستجواب هو ذات توقيت إذاعة المباراة وكانت الفكرة فكرة وزير الإعلام محمد صفوت الشريف.
أوراق المضبطة عدد صفحاتها 38 صفحة وقد سجلت أن وزير الدفاع الفريق "يوسف صبري أبو طالب" قد تغيب عن الجلسة التي استمرت لمدة 220 دقيقة كانت أطول فترة توتر مرت علي مبارك أثناء حكمه ومن صفحات المضبطة وجدنا الآتي في الصفحة رقم 16 علي لسان النائب علوي حافظ: "أنا أكرر وأصر علي الربط بين صفقات السلاح المريبة وبين مصرع صديقي ودفعتي 48 حربية وأخي وزميلي في السلاح المشير أحمد بدوي وأرجو من الحكومة والمجلس الموقر أن يعيدا فتح التحقيق في مقتل أحمد بدوي وزملائه 13 لواء أركان حرب هم قادة حرب أكتوبر" ، فما كان من عاطف صدقي رئيس مجلس الوزارء يومها إلا أن تجاهل طلب علوي وأصدر صفوت الشريف أمره للصحف بعدم نشر الطلب.
إن التحقيقات السرية في مقتل المشير أحمد بدوي تمتلئ بالبيانات الشاذة والغريبة والسلك المربوط في ذيل الطائرة فسر علي أنه من بين الأسلاك التي التفت علي جسم الطائرة وقت الحادثة وهو من نفس النوع التي ركبت منها أسلاك الإنارة والاتصالات وكانت كابلات زائدة علي الحد بجانب سور القيادة المكشوف علي الطريق الدولي.
طاقم الطائرة قصة غير طبيعية علي الإطلاق ويكفي أن نؤكد أن سمير غيث الشاهد الرئيسي في الحادثة والذي لم يحاكم أبدا عسكريا دخل لص منزله ثم أطلق عليه عدة طلقات ليقتله بعد الحادثة بعام أمام منزله بحي العجوزة، أما سكرتير المشير بدوي ففي نفس العام يقتل في حادثة أخري جنائية ليضيع الأمر نهائيا دون تحديد الجناة.
أما زيارات وزراء الدفاع فهي دائما مصورة غير أن فيلم يوم زيارة المشير بدوي لم يوجد أبدا حتي الفيلم الذي صوره التليفزيون المصري للحادثة لا يوجد، والدفع بأن الحمولة زائدة لا يستقيم فحمولة الطائرة العسكرية 4 أطنان وهم 19 فردا علي متنها.
وزعمت معلومات أخري أن "معمر القذافي" الذي كان يكره الرئيس السادات بشدة بمساعدة مبارك تخلصا من أحمد بدوي وال13 قائدا كصفعة للسادات بسبب قيامه بشن هجمة خاطفة في 21 يوليو 1977 كبدت القذافي الكثير من سمعته وهي تلك الحرب التي توقفت في 24 يوليو 1977 بعد توسط الرئيس الجزائري هواري بومدين والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
والمعلومات تفيد أن القذافي كان دائما يلعب في منطقة الصحراء الغربية طولها وعرضها لقربها من الحدود الليبية ولعلاقاته المتميزة مع عرب المنطقة وأنه بمساعدة عملاء دبروا الواقعة لتبدو عادية بمساعدة مبارك من الداخل للتخلص من بدوي الذي كاد أن يطيح بمبارك، حيث ربط سلك بالطائرة بطريقة لا تبدو للعيون العادية وعندما ارتفعت الطائرة جذبت بقوة للأسلاك التي كانت من ذات النوع ولأن الطائرة عند إقلاعها تثير الرمال بقوة ونظرا لكمية الرمال التي وجدت زائدة عن الحد بالمكان وفسرت علي أساس أنها وضعت لاستقبال الوفد العسكري فقد أغلق كل المودعين عيونهم وتوقفت الكاميرا الخاصة بالزيارة عن التصوير في تلك الدقائق الفاصلة، فلم يلاحظ أحد أن الطائرة يجذبها شيء للخلف وفي ثوان كان كل شيء قد تم، كما دبر له فمبارك والقذافي يتضح بعدها في فضيحة الأجنحة البيضاء أنهما كانا شريكين منذ البداية سرا في العديد من صفقات السلاح الدولية المشبوهة وهي تلك الصفقات التي ذكرت في التقرير الأمريكي 144 في 25 إبريل 1979 والتقرير رقم 86 الصادر في 15 مايو 1979 والتي طوتها صفحات تحقيقات النيابة العامة المصرية سرا منذ عام 1982 وحتي عام 1985 عندما صدر لها قرار الحفظ التام والنهائي.
نقلا عن روزاليوسف اليومية : 26 - 07 - 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى