مطالب شعبية ساخنة.. وسلطة عليا متوترة.. وقرارات حكومية هزيلة
- الطوفان القادم أن يقف الشعب ضد الجيش - المجلس العسكري يضع جميع السلطات في يده ورغم ذلك يدَّعي أنه يدير ولا يحكم وهو ما سبب شعورًا بالفراغ أدي إلي الانفلات الذي
ثلاثون سنة ومصر تبحث عن جوهرة الحرية.. شحب وجهها.. نقص وزنها.. وتفتحت غابات من زهور الحزن في قلبها.
لجأت إلي العرافين والمعارضين وأمراء المؤمنين فقالوا: إن الجوهرة موجودة في بطن حوت كبير.. رأسه في قصر العروبة.. وذيله في البيت الأبيض.
شكت إلي منظمات حقوق الإنسان.. وتكلمت في كل قنوات البث المباشر.. واستدعت لجنة من البرلمان الأوروبي للتحقيق، فاكتشفت أنهم جميعا مساهمون في شركة واحدة لسرقة المجوهرات.
ذهبت إلي الأولياء وأهل الكرامات فأخبروها أن الجوهرة مخبأة في صندوق ملك الجان القابع في جهاز مباحث أمن الدولة.. ومفتاحه في يد أمين لجنة سياسات الحزب الوطني.. وأنهما لن يعيداه إلا إذا رهنت شبابها.. وسالت دماؤها.. واخترقت رصاصات الغدر صدرها.. نذرت مصر للرحمن صوما.. فلم تكلم طوال ثلاثين سنة.. ديكتاتوراً.. أفطرت بعدها في ميدان التحرير علي خبز وماء وغضب وعناد.. فقد سقط عن العرش كبير الآلهة الحجرية.
لكن.. سقوط كبيرهم لم يقض علي عبادة الأوثان.. فرحيل أبو جهل إلي شرم الشيخ لم يكف لنشر رسالة الإيمان الديمقراطية.. والشباب الذي فجر الثورة كان عليه أن يعلن حرب الردة علي الذين لم يدفعوا زكاتها.. فكانت العودة إلي الميدان ضرورة مصيرية مهما كانت التكلفة السياسية.
كل ثورة لها جمعية عمومية تتكون من أعضاء التنظيم الذي صنعها.. يختار من بينهم مجلس قيادة الثورة.. كي يخطط ويسيطر ويحكم.. وغالبًا ما تكون الأعداد محدودة.. والشخصيات معروفة.. والتصورات مرسومة.. والقرارات حاسمة.
لكن.. ثورة 25 يناير جاءت بقانون مختلف.. فجمعيتها العمومية تتكون من شعب بأكمله.. ومجلس قيادتها يمثل تيارات سياسية مختلفة خرجت من ميدان التحرير.. وتعودت علي الاجتماع فيه.. وإصدار القرارات منه.. علي أن ينفذها نيابة عنها المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي فوضته لهذه المهمة الصعبة خلال فترة انتقالية محدودة.. دون أن تنسي حقها في المراجعة والمحاسبة.
لكن.. المجلس العسكري يصر علي أنه يدير ولا يحكم.. وهو أمر مثير للدهشة.. فهو بتعيينه الحكومة يمتلك السلطة التنفيذية.. وهو بإصداره القوانين يضع يده علي السلطة التشريعية.. وهو بالمحاكمات العسكرية شريك في السلطة القضائية.. بل إنه بإعلانه الدستوري وضع نفسه فوق جميع السلطات.. فلماذا ينكر أنه يحكم.. ويكتفي بأنه " يدير ".. وهو تعبير خفيف في ظرف ثقيل.. أو وصف بسيط في وقت معقد.. أو مصطلح غير دقيق في فترة حرجة تعاني من عشوائية الكلمات.. إن السلطة عندما تنكر وجودها فإن الشعب يتجاهلها.. ويتجاوزها.. ولا يخشاها.. ولا يحسب حسابها.. فما دامت تصر علي غيابها فلماذا نستدعي حضورها؟.. وهو ما يفسر تجاوزت الحياة في البلاد.. وخروج القوي المختلفة من عقالها.. فعندما لا تعترف رأس السلطة العليا بكيانها ولا تصف بدقة نفسها.. فكل شيء مباح.
وربما بقي المشهد السابق علي رحيل مبارك قائمًا ومستمرًا ومتصلاً.. شعب ساخن المطالب.. وسلطة بطيئة الاستجابة.. وقرارات هشة لا ترضي أحدًا.. وهو ما جعل التغيير الوحيد الذي حدث هو تغيير في القشرة.. وليس كل ما يبرق.. ذهبًا.
ويضاعف الشعور بالانصراف عدم خروج المشير للتحدث إلي الشعب.. والاكتفاء بكلمات عابرة في حفل تخرج ضباط جدد.. وكأنه لم يتجاوز حدود وزير الدفاع إلي ما هو فيه الآن من مسئوليات وصلاحيات.. إن الرجل الذي وثقنا فيه من حقه علينا أن نسمعه لنعرف كيف يفسر ما كان؟.. وكيف يري ما يجري؟.. وكيف يتصور ما هو قادم؟.. خاصة أنه بحكم منصبه العسكري كان بعيدًا عنا.. مجهولاً بالنسبة لنا.. وكل ما نعرفه عنه حكايات مجتهدة.. مثل رفضه بيع بنك القاهرة.. وطلبه أن تشتريه القوات المسلحة.. وادخار مليارات مناسبة تستخدم لو قطعت المعونة العسكرية الأمريكية.. ومواقف وطنية صارمة جعلت إسرائيل لا تستريح إليه.
ولعل صمته الطويل كان سببًا في جرأة أصوات متصاعدة ضده.. طالبت في جمعة تجديد الثورة برحيله.. ولم يستطع الإخوان إسكاتها.. فالرهان علي شعبيتهم تراجع.. ومؤشر رصيدهم السياسي بدأ في الهبوط.. ولست مع مثل هذه الشعارات.. فمخزون الوطنية في المؤسسة العسكرية كبير وثمين.. ولكن.. التباطؤ الذي تخيلته لافتات في " التحرير " نوعًا من التواطؤ، تسبب في ضياع خمسة أشهر من عمر الثورة دون طائل.. دفعت البلاد ثمنها غالياً.. وفجر في الشارع تصرفات سلبية خطرة.. ومريبة.. وجعل مجلس قيادة الثورة يطالب بمليونية الجمعة الماضية.. وشطب من التاريخ المدة السابقة.. فجاء يوم 8 يوليو ــ لأول مرة في التاريخ ــ بعد يوم 11 فبراير مباشرة.. ليكون اليوم التاسع عشر للثورة.
إن مشهد التحرير يوم 8 يوليو لا يختلف عن مشهده يوم 11 فبراير إلا في مشاعر المتظاهرين.. ذهب التفاؤل وجاء التحفز.. والتحفز هذه المرة لم يكن ضد النظام السابق، وإنما ضد النظام القائم.. وهو ما يعني أن شعار " الجيش والشعب إيد واحدة " لم يعد يحظي بالإجماع السابق.. وارتفعت هواجس الخوف من وجود نية صدام بين الشعب والجيش.. خاصة بعد تهديدات البيانات الأخيرة الصادرة عن المجلس العسكري.. وهو صدام ليس في مصلحة الطرفين.. فالجيش مهما كانت الملاحظات علي مجلسه العسكري هو حائط الصد الوحيد الذي يعني سقوطه فوضي شاملة.. مؤلمة.. لا نعرف نهايتها.. وإن كنا نعرف ثمنها.
وأنا أعرف أن الجيش لن يقبل بانهيار أعمدة الدولة.. ولكن.. سكوته طويلا.. واستيقاظه متأخرا.. سيجعل الحفاظ علي هذه الأعمدة مغامرة غير مأمونة.. فقد نجد أنفسنا جميعا تحت الركام.
ويسيطر علي المجلس العسكري شعور بوجود مؤامرات ضد مصر تدبرها قوي مختلفة إقليمية وخارجية للنيل منها.. وهو أمر طبيعي.. فكل القوي المحيطة بنا والمؤثرة علينا تسعي عامدة لخلق جيوب لها في الداخل.. ويمكن أن تستغل شبابا بريئا متحمسا لتحقيق ما تريد.. وليست صدفة أن تؤيد الثورة دول متخاصمة.. الولايات المتحدة وإيران.. مثلا.. وليست صدفة أن تخشاها دول متعارضة.. السعودية وإسرائيل.. مثلا.. وليست صدفة أن تسعي لاختراقها دول متباعدة.. قطر والاتحاد الأوروبي.. مثلا.
والمشكلة ليست في المتآمرين وإنما في المسئولين.. المنتبهين.. المشكلة ليست فيهم وإنما فينا.. فالميكروبات لا تؤثر إلا في الجسم المجروح.. المفتوح.. والفيروسات لا تنتصر إلا علي الجسد الهزيل.. ضعيف المناعة.
ولو رصدت الأجهزة الأمنية كميات الأموال السائلة التي تنفق في البلاد ــ وتسببت من كبر حجمها في الحفاظ علي سعر صرف الدولار ــ فإنها ستمسك بخيوط اللعب في الخفاء.. لكن.. المأساة أن تلك الأجهزة فقدت ذاكرتها السياسية.. ولا تعمل بكامل خبراتها البشرية.. كما أن هناك صراعًا تاريخيًا وربما شخصيًا بين بعضها البعض.. يجب أن يختفي الآن.. ولا مفر من تكوين منتخب قومي من الأمن الوطني والأمن القومي والمخابرات الحربية كي يكشف لنا ما يجري في الظلام.
لقد أسقطت الثورة كل الديكتاتوريات والأصوليات والأيديولوجيات.. كل القوي السياسية السابقة عليها فقدت خصائصها إن لم تفقد صلاحيتها.. فالسلفيون والجهاديون الذين كفَّروا الأحزاب سارعوا بتكوين أحزاب لهم.. وكل ما بقي منهم لحي طويلة صبغ أصحابها شيبها بالحنة.. واليساريون قبل أن يوافقوا علي الديمقراطية وافقوا علي السوق الحرة.. وكل ما أضافوه سلطة أكبر للدولة في تنظيم العمليات الاقتصادية والتجارية.. والإخوان تنكروا لتاريخهم القديم وأعلنوا قبولهم لرئيس جمهورية قبطي أو امرأة.
لكن.. كل هذه القوي القديمة ــ سواء كانت تحكم أو تسعي إلي الحكم ــ لم تستوعب منطق الثورة.. فعروق الشيخوخة في أجسادها لا تحتمل دماء الشباب الفائرة.. الساخنة.. وعقولها التقليدية الجامدة لا تتقبل الحلول الانقلابية العاجلة.. ومفاصلها التي نشف الزيت فيها لا تقدر علي مجاراة الأجيال الجديدة الغاضبة في سباق الحركة.
لقد أعاد خمول الكبار الصغار إلي الميدان بإصرار يصعب التحايل عليه هذه المرة.. فلا تراجع ولا استسلام.. لا تفاوض ولا تنازل.. ومطالب الثوار فوق رقبة الجميع.. من لا يستجيب إليها يرحل.. ومن يساوم عليها يسقط.. ومن يتجاهلها يستقيل.. فقد انتهي وقت البلف والتهويش والتضليل والتبرير والتسويف.
لقد جمع عصام شرف كل الخصائص الرديئة لرؤساء حكومات مبارك.. ضعف عاطف عبيد.. ثرثرة كمال الجنزوري.. عزلة عاطف صدقي.. و«طناش» أحمد نظيف.. ولم يشفع له أن ميدان التحرير اختاره وتحمس له.. فالثورة التي لم تمت قادرة علي تصحيح أخطائها.
وهو مثله مثل كل الذين تربوا في مدرسة مبارك الوزارية يضع في أذن طينًا والأخري عجينًا.. فلا يرد علي الاتهامات التي توجه إليه.. ولا يناقش الاختلافات معه.. ويعجز عن اتخاذ قرارات بمفرده.. ويقبل أن يكون «عجينة طرية» في يد غيره.. يشكلها كما يشاء.. يصنع منها بسكوتة تارة.. أو دمية تارة أخري.
ينتظره الناس في ثياب مقاتل فيخرج عليهم في ثياب مطرب.. كل المسدسات التي استخدمها ضد الفساد والتسيب والفوضي لم تخرج منها ذخيرة حية وإنما خرجت منها مياه.. فهو يلعب ولا يحكم.
لم يفلح في إقالة وزراء لا يريدهم.. ولم ينفذ تهديده بالنزول إلي التحرير لتقديم استقالته.. فحتي الفعل السلبي لا يقدر عليه.
إن مبارك قد سقط.. ولكن.. نظامه لا يزال راسخًا.. لذلك فالثورة مستمرة مهما كان التهديد والوعيد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى