آخر المواضيع

آخر الأخبار

15‏/08‏/2011

بلال فضل : ودَمعٌ لا يُكفكَفُ يا دمشقُ

248
لذين زاروا سوريا يعرفون تلك القواعد جيدا: لا تتحدث فى قضايا شائكة أو حتى شبه شائكة مع أحد لا تعرفه، لا تتحدث فى السياسة فى مكان عام سواء كنت جادا أو هازلا ولو كنت مع أحد تعرفه وسط أناس يعرفهم، يستحسن ألا تتحدث فى السياسة وخلاص.
كنا نسمع عن تلك القواعد قبل أن نزور سوريا، لكننا لم نختبر جديتها إلا عندما زرناها، كان ذلك قبل عدة سنوات، ولم يكن بشار الأسد قد أكمل سنتين على وراثته لعرش أبيه الجمهورى، يومها كنا ذاهبين لعمل برنامج تلفزيونى لصالح قناة عربية أنا وصديقان عزيزان أحدهما مخرج تلفزيونى لامع والآخر منتج فنى بارع، بعد أن عبرنا أول خمسة ضباط جوازات متجهمين ومررنا إلى جوار عشر لافتات ترحب بالأشقاء العرب فى بلاد العروبة وثمانين صورة للأسد الأب ووريثه فى كافة الأحجام والأوضاع، التقينا بمندوب شركة الإنتاج السورية الذى رحب بنا بضحكات باشة باتت حذرة فور أن سمعنى وأنا أقول له إن صديقنا المنتج الفنى يقرب لسيادة الرئيس، قبل أن أردف قائلا «أصل الأستاذ إبن مراة الأسد»، كانت تلك المرة الأولى التى أرى فيها آدميا يلف حول نفسه ثلاثمائة وستين درجة
على طريقة أفلام الكرتون، لفته اللولبية توقفت عندما باغته صوت صديقنا المخرج قادما من أرضية المطار التى وقع عليها من الضحك، ولأنه تخيل أن ذهول الرجل وراءه عدم فهم للإفيه فبدأ يفسره له وهو يشير إلى الصور المحيطة بنا، لم يكمل صديقنا السورى الاستماع إلى تفسير الإفيه، لأن حلاوة الروح جعلته يتخذ تصرفا وحيدا هو أن يجرى، أى والله، أخذ يجرى ويجرى ويجرى حتى ظننا من فرط سرعته أنه إبن عمة العداء المغربى سعيد عويطة، وهكذا اختفى عن أنظارنا ليتركنا فى حيرة مطبقة ونحن نحاول فهم ما جرى أو لماذا يجرى بمعنى أصح؟.
بعد حوالى ربع ساعة جاء إلينا شاب مهذب وخائف، وقبل أن يعرفنا بنفسه قال لنا «منشان الله ماتحكوا فى السياسة لا عن جد ولا مزح»، كان يتحدث وهو يكاد يدفعنا إلى سيارة ليموزين اتضح أن الشركة أرسلتها لنا وأنه سائقها، عرفنا أن صديقنا العداء القادم لمرافقتنا قدم استقالة فورية كنا نحن أسبابها وطلب من السائق أن يذهب بنا إلى حيث ألقت، قال لنا السائق الخائف أن الله لطف بنا لأن صاحب الشركة الذى كان مقررا أن يأتى للترحيب بنا اعتذر لإنشغاله بإجتماع حزبى طارئ فهو قيادى فى حزب البعث، ثم شرح لنا موقف صديقه قائلا أن سخرية جارحة مثل هذه تقال على الملأ إذا لم تكلف قائلها الأجنبى الكثير يمكن أن تكلف سامعها السورى ماهو أكثر بكثير، كلنا كنا قد سمعنا كلاما يشبه ماكان يقوله بجدية، لكننا لم نكن نتصور أن الأمر خطير إلى هذا الحد، من باب الرخامة سألته «يا ترى العربية دى فيها ميكروفونات؟»، ولم أكن أتصور أن عجلة القيادة ستختل فى يده للحظات قبل أن يفكر مليا ثم يقول « لا يا أخى.. مابظن.. مابظن»، قبل أن يرفع مؤشر صوت الكاسيت إلى أعلاه ليملأ السيارة صوت صباح فخرى وهو يصدح «سيبونى ياناس فى حالى أروح مطرح ما أروح»، بدت الأغنية استغاثة احترمناها جميعا، لكن مفعولها لم يمتد معنا كثيرا، حيث ظللت طيلة فترة الزيارة التى لم تطل أكثر من ثلاثة أيام أعرف كل من ألقاه بصديقنا مدير الإنتاج «على فكرة الأستاذ ليه صلة قرابة من الدرجة الأولى بسيادة الرئيس»، والكل كان ينظر إليه مستغربا لأن لونه أسمر تماما، وكنت أبرر قائلا «معلهش أصلها قرابة من درجة الأم».
كانت أياما غريبة وجميلة، كان من حسن حظى أن أزور دمشق فى الربيع، ولذلك فهمت لماذا كان نزار قبانى الذى عاش فى أجمل مدن العالم عندما يحب ربيعا يصفه بأنه ربيع دمشقى، الصباح الدمشقى له أيضا طعم آخر لم أصادفه فى مدن أخرى كثيرة، التقينا خلال إقامتنا القصيرة بعدد من أجمل وألمع الفنانين والمثقفين السوريين الذين كنت أعشقهم وأقدرهم، ولا أذكر أن أحدا فيهم تحدث معنا فى السياسة قبل أن تدور رأسه مائة وثمانين درجة كأنها منظار غواصة يراقب الأجواء المحيطة بالجلسة، قبلها بأشهر كنت قد أصبت بخيبة أمل عندما تعرفت على الفنان الكبير دريد لحام الذى جمعتنى به علاقة عمل قصيرة أشرفت فيها على كتابة برنامج كوميدى سياسى كان يقدمه، واكتشفت كيف كان الرجل الذى كنا نظنه جريئا يخاف من ظله ويعمل ألف حساب لكل شيخ أو أمير أو رئيس يمكن أن يغضب من ضحكة يقدمها برنامجه، عندها فهمت لماذا كان إنفصاله حتميا عن الكاتب العظيم محمد الماغوط، ولذلك سعيت بشدة لكى أتعرف يومها على الماغوط، لكن حالته الصحية لم تمنحنى ذلك الشرف، وأعترف أننى لم أتفهم خوف دريد وحذره ولم أقدر شجاعة الماغوط ومرارته وقسوته حق قدرها إلا عندما زرت سوريا العظيمة التى كان مهينا لها ولنا ولأهلها أن نراها منسوبة فى كل شبر إلى حاكم صغير، فنتذكر أن بلادنا العظيمة هى الأخرى منسوبة فى أشبار كثيرة إلى صغير آخر. بعد تلك الزيارة كتبت متهكما أننى لو كنت قد صادفت شخصا باستمارة عضوية فى الحزب الوطنى وأنا نازل من سلم الطائرة ربما كنت سأضعف وأوقع على الانضمام للحزب امتنانا لديمقراطيته الكرتونية التى كانت أحن وأرحم من تلك الديكتاتورية الباطشة القاطعة، والتى جعلته يكتسب شرعية تبقيه ثلاثين سنة على رأس الحكم، تاركا للناس حرية أن يسخروا ويتكلموا كما يشاؤون طالما ظل هو يفعل مايريد، قبل أن يكتشف هو ويكتشف الناس جميعا أن الكلمة يمكن أن تكون بالفعل يدا تضرب على رأس الحاكم ورجلا تطيح به من على كرسيه.
بالطبع لم أكن أتخيل لا أنا ولا كل من مروا بمواقف مثل هذه أن ينتفض المارد السورى من قمقمه الذى ظننا أنه لا يخرج منه أبدا، تماما كما لم أكن أتخيل أننى فى زيارتى الثانية لسوريا التى جاءت بعد سنتين فقط من الأولى، سأقوم بشراء كتاب يهاجم بشار الأسد بشراسة من قلب دمشق نفسها. ولكن تلك قصة أخرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى

ADDS'(9)

ADDS'(3)

 


-

اخر الموضوعات

مدونة افتكاسات سينمائية .. قفشات افيهات لاشهر الافلام

مدونة افتكاسات للصور ... مجموعة هائلة من اجمل الصور فى جميع المجالات

مدونة افتكاسات خواطر مرسومة.. اقتباسات لاهم الشعراء فى الوطن العربى والعالم

مدونة لوحات زيتية ..لاشهر اللوحات الزيتية لاشهر رسامى العالم مجموعة هائلة من اللوحات

من نحن

author ‏مدونة اخبارية تهتم بالتوثيق لثورة 25 يناير.الحقيقة.مازلت اسعى لنقلها كاملة بلا نقصان .اخطئ لكنى منحاز لها .لايعنينى سلفى ولا مسلم ولا اخوان يعنينى الانسان،
المزيد عني →

أنقر لمتابعتنا

تسوق من كمبيوتر شاك المعادى