مقدم الحلقة: يسري فودة ضيوف الحلقة: عبد الباري عطوان: رئيس تحرير القدس العربي تاريخ الحلقة: 16/04/1998
- علاقة الحكومة البريطانية بصفقات الأسلحة النووية مع العراق
- ملف الأسلحة الكيماوية والبيولوجية بين بريطانيا والعراق
يسري فوده: فيما كانت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا تحشدان قواتهما الضاربة حول العراق كان سكوتلانديارد يستعد عملياً لمواجهة ما وصفه بهجوم كيماوي أو بيولوجي محتمل على محطات كهذه لمترو الأنفاق وغيرها من أماكن التجمعات، في الوقت نفسه تصدر عن وزارة الخارجية البريطانية وثيقة تتهم العراق بالفشل في إثبات عدم وجود سبعة عشر طناً من مواد وسيطة تكفي لإنتاج أكثر من ثلاثة أضعاف الكمية التي يعترف العراق بامتلاكها بما يسمى وسيط الأنثراكس أو بكتيريا الجمرة الخبيثة.
لا تذكر الوثيقة بالطبع أن لندن استمرت في الواقع في إمداد بغداد بلبنة هذه البكتيريا الفتَّاكة حتى بعد انتهاء حرب الخليج إلى عام 94.
علاقة الحكومة البريطانية بصفقات الأسلحة النووية مع العراق
الطريق إلى الشمال يبدأ من الجنوب، بعيداً عن زحام العاصمة في مقاطعة (سَرَي) جنوب لندن في عام 87 كان أن العراق وإيران لا يزالان يمسكان بتلابيب بعضهما البعض، وكان أن قام رجل أعمال من أصل عراقي يُدعى علي داغر بتأسيس شركة صغيرة سماها "يوروماك" نالت مباركة السلطات البريطانية بالتعامل مع العراق، ثم فجأة لم يعد لها اليوم وجود لأسباب سياسية.
اليوم تقبع ملفاتها في زاوية من منزل علي داغر مادة خصبة لعمل درامي مثير وصل إلى دوائر وكالة الاستخبارات الأميركية CIA.
في شتاء عام 89 على الشاطئ الآخر من المحيط الأطلسي تنكر عميل الجمارك الأميركية (دانيال
سوبنيك) باسم مستعار بعد أن قرر أن علي داغر ضالعٌ في مؤامرة عراقية لبناء سلاح نووي.
استحوذت قناة (الجزيرة) على هذا الشريط الصوتي.
دانيال سوبنيك: يا قاضي التحقيق استخدم الاسم الحركي (دان سوندس)، مرة أخرى تاريخ اليوم هو التاسع والعشرين من ديسمبر عام 89، وساعة إجراء هذه المكالمة هي الثانية وخمس دقائق تقريباً بتوقيت كاليفورنيا.
علي داغر: آلو.
دان سوندس: أهذا علي؟
علي داغر: نعم
دان سوندس: أنا دان سوندس
علي داغر: أهلاً يا دان.
دان سوندس: عذراً لإزعاجك في المنزل، لقد حصلت على الرقم من المكتب.
علي داغر: لا يهمك، صباح الخير، كيف حالك.
دان سوندس: بخير، وإن كان الوقت مبكراً هنا.
علي داغر: كم الساعة الآن في كاليفورنيا؟
دان سوندس: الثانية صباحاً تقريباً، سبب اتصالي هو السؤال عن صحتك، يقولون إن الطقس أثَّر فيك قليلاً، أأنت بخير؟
علي داغر: نعم، إن بي ألماً في الظهر يا دان.
دان سوندس: أرجو أن تشعر بالتحسن.
علي داغر: أرجو ذلك أيضاً.
دان سوندس: اسمع المسألة باختصار، عذراً لأن الوقت مبكر، ولكن كل شيء على ما يرام هنا، وسينتهي العمل على الطلبية ربما غداً.
علي داغر: حسناً.
دان سوندس: أما سبب اتصالي فهو رئيسي في العمل، لقد اتصل بي (جيري) على المنزل في وقت متأخر ليلة أمس.
علي داغر: نعم.
دان سوندس: أعتقد بيني وبينك أنه يشبه (جينين) فهو يريد الصفقة وهو راض عن المبلغ، لكنه يشعر ببعض التوتر، يقول إنه قرأ بعض الأشياء في الصحف، وقد حاولت أن أطمئنه، هذا كل ما في الأمر.
علي داغر: نعم.
دان سوندس: لقد ناقشت معه الأمر (الخاص) إلى العراق ممنوع قانوناً.
علي داغر: نعم.
دان سوندس: ويريد الشحن بأقصى سرعة، وقد حاولت أن أطمئنه.
علي داغر: نعم، لا توجد مشكلة، سيأتي هؤلاء الرجال لمقابلتك خلال الأسبوع الأول أو الثاني من.. من يناير.
دان سوندس: حسناً.
علي داغر: سندفع لك بقية المبلغ بمجرد عودة (جينين) سنرسل لك بقية المبلغ.
دان سوندس: حسناً.
علي داغر: فقد حصلنا على موافقتهم، وعندما يحضرون إذا لم تكن راضياً عن الإجراءات أو عن أسلوبهم في العمل أو عن وجهتهم فإن لك الحق في أن تقول: لا أنا آسف لا أستطيع قبول ذلك، عليكم أن تفكروا في أسلوب آخر.
دان سوندس: نعم، لقد قلت له.
علي داغر: هذه مسألة تعود إليك، وإن كنت لا أرى في ذلك أي مشكلة.
دان سوندس: حسناً.
علي داغر: تعلم أن هذه المكثفات يمكن أن تستخدم لكلا الغرضين المدني والعسكري.
دان سوندس: حسناً، أنا...
علي داغر: هي ليست فقط للاستخدام العسكري.
دان سوندس: ولكننا نعرف الغرض منها، وهذه هي الصفقة، وأنت تعلم المحولات كذلك.
علي داغر: أيًّا ما كان الأمر، هذه مسألة تستطيع أنت اتخاذ القرار فيها.
دان سوندس: نعم.. نعم.
علي داغر: تقبض المبلغ وتؤدي عملك جيداً وتقابل الناس.
دان سوندس: نعم.
علي داغر: تتحدث إليهم وتسألهم عن مكان إرسالها.
دان سوندس: حسناً، كما قلت إنني...
علي داغر: يا دان، إنها في الواقع طلبية صغيرة جداً، وليست من شأن أي أحد.
يسري فوده: في العام الماضي صدر في لندن كتاب يحمل عنوان "لعبة العدالة" يحوي فصلاً يحمل بدوره عنوان "علي داغر والأربعون مقداحاً نووياً" ألفه واحد من أشهر المستشارين القضائيين في المملكة المتحدة، يقول (جيفري روبرتسون): إن علي داغر كان ضحية مؤامرة بريطانية أميركية.
جيفري روبرتسون: لقد ظهر دليل في أميركا يشير إلى أن ثمة خطة لاستغلاله في عملية التبادل مع صحفي يُدعى (فرزاد باسبود) الذي كان قُبض عليه في العراق وحُكم عليه بالإعدام، وكان على وشك الشنق، وكان ثمة دليل في الوثائق السرية لمصلحة الجمارك الأميركية يوحي بأن مصلحة الجمارك البريطانية طلبت منهم الإسراع في اللدغة، كما سموها، أي الإسراع باعتقال علي داغر حتى يتسنى تقديمه للعراق، أنتم لا تعدمون (باسبود) ونحن نقدم لكم علي داغر، لقد كان ذلك أمراً غير عادي، إذ لم يكن علي داغر يمثل أي قيمة مخابراتية للعراق على الإطلاق، لقد كان مواطناً بريطانياً يعيش ويعمل في بريطانيا، ولا صلة له بصفقات الأسلحة من أي نوع كانت.
يسري فوده: إذا كان صحيحاً أن النظام العراقي استخدم أسلحة الدمار الشامل سواء في حربه الطويلة مع إيران أو بعد ذلك ضد طائفة من أبناء شعبه نفسه في عمليات قتل جماعي، فإن من الصحيح كذلك أن وزير الدولة البريطاني لشؤون الخارجية آنذاك (وليام وولد جريف) تلقى في شتاء عام 88 خطاباً رسمياً شديد اللهجة يطالبه بضرورة تخفيف القواعد التي تحكم تصدير المعدات والمواد مزدوجة الغرض إلى العراق، حمل الخطاب توقيع وزير شؤون التجارة والصناعة آنذاك (آلان كلارك) حتى اليوم يصرِّح لقناة (الجزيرة) بأنه لا يرى في ذلك شيئاً غير أخلاقي.
آلان كلارك (وزير شؤون التجارة والصناعة 1988): حسناً، إن ذلك لا يهمني، لقد سجلت رأيي بأنه ليس من شأني ما تفعله مجموعة من الأجانب ببعضها البعض، لقد اخترت الرجل الخطأ إن كنت تريد أحداً يغطي على ذلك، كنت وزيراً للتجارة، وكان من شأني توسيع دائرة التجارة البريطانية، هذا واجبي.
يسري فوده: إذن ما هو حجم الفجوة في بريطانيا بين السياسة والمصالح الاقتصادية؟
آلان كلارك: من الصعب الجزم، أعني أن الفجوة بين السياسة والمصالح الاقتصادية تختلف من حالة إلى أخرى.
عبد الباري عطوان (رئيس تحرير صحيفة القدس العربي): يعني من أين يمكن أن يحصل العراق على أسلحة الدمار الشامل والأسلحة الكيماوية والبيولوجية على وجه التحديد؟
توليد الجمرة الخبيثة
طبعاً من.. من الدول الغربية، من الدول الأوروبية، من الدول الحليفة للعراق التي ساندته في حربه ضد إيران، هذا أمر طبيعي، ونحن نعرف أن العراق استخدم أسلحة كيماوية في.. في هذه الحرب، ولم تتحدث بريطانيا بكلمة واحدة عن هذه الأسلحة أو عن الأخطار التي نجمت عنها لسبب بسيط لأنها تخدم أهدافها، فسكتت وصمتت، لكن إذا استخدمت هذه الأسلحة ضد إسرائيل أو ضد بريطانيا أو قوات بريطانيا أو قوات أميركا فهنا يختلف الصورة، يعني هم يعني لا يضرهم أنت أن تستخدم أو أن تنتج أسلحة كيماوية أو بيولوجية، ولكن ما يضرهم هو أين ستستخدمها.
مداخل 1: من ناحية لم تكن السياسة البريطانية لتسمح للعراق بأن يكون أكثر قوة، ومن ناحية أخرى الطمع الجشع لشركات الأسلحة البريطانية أدى بها إلى الاستمرار في بيع الأسلحة بما فيها وسائل تصنيع أسلحة الدمار الشامل إلى الحكومة نفسها التي كانوا بدءوا في مساواتها بالشيطان.
يسري فوده: كان العراق قد أصبح رسمياً زبوناً مفضلاً لدى الحكومة البريطانية التي أصدرت عام 88 قائمة بأسماء الشركات والمنشآت العراقية التي تشجع الشركات البريطانية على التعامل معها، من بينها منشأة القعقاع سعت هذه إلى الحصول على حوالي مائة مكثِّف لأغراض لم تفصح تماماً عنها، ومن هنا قفزت شركة علي داغر لإتمام الصفقة مع الشركة الأميركية المصنِّعة للمكثفات CSI لكن إلحاح ممثلها عميل الجمارك الأميركية حدا بعلي داغر إلى الانسحاب من مشروع الصفقة في أبريل/نيسان عام 89.
وسط هذه الأكوام من الملفات والوثائق التي يحتفظ بها علي داغر في مخزن متصل بمنزله تقبع كذلك نسخة من المكثِّف، هذا هو المكثف الذي قامت له الدنيا ولم تقعد على شاطئي المحيط الأطلسي، في الولايات المتحدة الأميركية وهنا في بريطانيا، يعلمون جيداً هنا وهناك أن هذا المكثِّف ليس قنبلة نووية، وأنه إذا كان يمكن بأي حال من الأحوال استخدامه كمكوِّن من مكونات سلاح نووي فإن له استخدامات أخرى مدنية تدفع وزارة مثل وزارة الصناعة والتجارة البريطانية إلى عدم اعتباره تكنولوجيا متقدِّمة على أية حال.
مهمة مستحيلة، اختلطت أوراق المصالح الاقتصادية من وجهة النظر البريطانية بأهداف استراتيجية تتعلق بأمن منطقة الشرق الأوسط، لكن بعض المراقبين يضيف إلى ذلك بعداً يدخل في دائرة التجسس وفي دوائر أخرى.
محلل سياسي عربي: مدام تاتشر (رئيسة الوزراء البريطانية) أوعزت للمسؤولين البريطانيين بالتعاون مع هذه الشركة أو شركات أخرى أنشأها العراق في الغرب للحصول على هذه المكونات، وأنهم أعطوهم معدات معطوبة، وهدفهم الأول والأخير معرفة أين توصل العراق في أي مرحلة متقدمة من هذه الأبحاث ومن هذه.. ومن عمليات تطوير الأسلحة، إذن إعطاء العراق أسلحة أو.. أو معدات لم يكن هدفه تطوير هذه الأسلحة، بالعكس معرفة مدى وصول العراق إلى أي مرحلة توصَّل في إنتاج هذه الأسلحة فقط ومعظم المكونات لم تستخدم.
رسم بياني لصادرات المملكة المتحدة من الأسلحة
مداخل 1: في اعتقادي أن الديكتاتورية العراقية ديكتاتورية مقصومة الظهر، شيطنها الغرب كوسيلة لإرعاب الجيران كي يشتروا المزيد والمزيد من الأسلحة الغربية، وكي يسمحوا للمزيد والمزيد من القوات الغربية بالتمركز فوق مياه وأراضي دول شبه الجزيرة العربية.
عبد الباري عطوان: أما الحكومة البريطانية تعامت عن خطط الرئيس العراقي لغزو الكويت فهذا صحيح، بدليل أن الحكومة العراقية.. الحكومة البريطانية في تلك الفترة قدمت 400 مليون جنيه إسترليني تسهيلات قروض للحكومة العراقية، وهذا قبل غزو الكويت بعام على وجه التحديد وبعد انتهاء الحرب بين العراق وإيران، فهذا يعني أن السياسة البريطانية في تعزيز العلاقات مع العراق استمرت، لكن بعد ذلك اكتشفت أو اكتشف يعني العملاء الأميركيين والبريطانيين وربما الإسرائيليين بأن الحكومة العراقية تطور أسلحة دمار شامل ضخمة، تطور أسلحة كيماوية، تطور أسلحة بيولوجية، المدفع العملاق، ولذلك بدأت في إرسال الجواسيس، وكل.. وأحد هؤلاء كان اللي هو (بازوفت) الصحفي العامل في صحيفة "الأوبزيرفر" الذي أخذ عينات تربة من أحد المواقع القريبة من المعامل الكيمياوية العراقية، ونعرف بقية القصة حيث أعدم في العراق وصارت.. وحدثت أزمة بين البلدين بين العراق وبريطانيا.
جيفري روبرتسون: وبعد حرب الخليج اتضح أن الحكومة البريطانية لم تكن تريد تسريب حقيقة أنها شجعت مصنعي الآلات البريطانية على التجارة مع العراق، ولهذا حاولوا إخفاء أدلة كانت ضرورية لمحامي الدفاع في قضية مدراء (متريكس تشرشل)، في كلا القضيتين قضية متريكس تشرشل وقضية السيد علي داغر كان هناك عامل مشترك هو محاولة الحكومة إخفاء معلومات محرجة، وإن كان ذلك أكثر وضوحاً في قضية متريكس تشرشل مقارنة بقضية السيد علي داغر.
يسري فوده: في فبراير/شباط عام 96 كانت لندن وبغداد في الواقع في انتظار الكشف عما توصل إليه السير (ريتشارد سكوت) بعد أكثر من ثلاث سنوات من التحقيق في فضيحة الأسلحة بناءً على تكليف من رئيس الوزراء آنذاك (جون ميجور) جاء تقريره في ألفي صفحة غير معني بالسياسة الخارجية بقدر اهتمامه بكواليس العمل المكتبي الحكومي، وما إذا كانت الحكومة قد استغلت قواعد سرية لأهداف بعينها.
تضمَّن التحقيق شهادات لعشرات من المسؤولين، على رأسهم (مارجريت تاتشر) و(جون ميجور)، كلهم أنكروا، كلهم استنكروا، بل إن وزير الخارجية -آنذاك- (دوجلاس هيرد) قطع بأن أسلحة من أي نوع كان أو مواد قاتلة من أي نوعٍ كان لم تُرسل إلى العراق، أما هذه فلم تكن مكثِّفات أو ذخائر أو بنادق آلية، مكونات ما أطلق عليه المدفع العملاق، قامت بتصنيعها لحساب العراق، شركة أخرى تقع في شمال شرقي إنجلترا ضُبطت في عام 90.
بعد ذلك بعامين كان ثلاثة مدراء في شركة متريكس تشرشل يحتفلون بتبرئة ساحتهم من اتهام بتصدير معدات عسكرية إلى العراق بصورة غير قانونية، برِّئت ساحتهم لا لأنهم لم يصدِّروا معدات عسكرية للعراق، بل لأن أدلة تكشف على أن الحكومة البريطانية صرحت لهم بذلك، بل شجَّعتهم عليه.
هوت القضية من مرتبة الدراما إلى مرتبة المهزلة بعد شهادة آلان كلارك التي لم يدلِ بها حباً في الحقيقة بل لسبب آخر.
آلان كلارك: لأن اثنين من المدراء الخاضعين للمحاكمة كانا في الواقع يعملان لحساب المخابرات البريطانية، وشعرت بأنه لا ينبغي تقديمهما للمحاكمة على الإطلاق إذا كانا يعملان للمخابرات.
محلل سياسي عربي: تبرير هذا الرجل يأتي ضمن محاولة للدفاع عن ذلك لأن.. لأننا كلنا نعرف أن بعد.. بعد تحقيقات لجنة سكوت أصبح هناك فيه تحقيق قضائي لأخذ هؤلاء إلى المحكمة، لكن هؤلاء عندما جلبوهم إلى المحكمة قالوا: نحن لدينا أوراق وتسجيلات وأمور تثبت أن المسؤولين البريطانيين خولونا بذلك من أجل إطلاع البريطانيين والأميركيين إلى المستوى التي توصل إليه العراقيون، فمثلاً على سبيل المثال مثلاً إذا طلب العراق (Capacitor) أو أي شيء آخر، أو رقم شيء مكونات لا يعرفها إنسان إلا الذي أنتج ذلك القطعة، وقتها.. عند ذلك يعرفوا أن العراق وصل إلى هذا الحد.
مداخل 1: حسناً كما قال الآن كلارك يوماً ما التطبيق إن لم تكن السياسة كذلك هو أن تكون اقتصادياً مع الواقع، بعبارة أخرى: أن تكون أقل من صادق بشأن السياسة الخارجية وسياسة الأسلحة التي لا تتوافق معها، وكان ذلك واضحاً في حكومتي تاتشر وميجور غير الأخلاقيتين، وإن كنت أظن أنه ينطبق أيضاً على السياسة الخارجية الأخلاقية لحكومة حزب العمال البريطانية.
يسري فوده: الأكثر تشويقاً أن الحكومة البريطانية لم تفتح خزائن أسلحتها أمام العراق من وراء الكواليس وحسب، بل فتحت كذلك خزائن بنوكها كي يستطيع العراق المنهك شراء هذه الأسلحة والمعدات.
مداخل 2: تقول وزارة الدفاع للبرلمان أنها فقدت كل الوثائق، وأنهم لا يتذكرون أين ذهبت القذائف، لكن ما وجدناه هو هذا، هذا هو ختم عراقي على الصندوق، الوثائق وخطابات الائتمان، وكل شيء يبين إنها مُوِّلت عن طريق بنك بريطاني.
يسري فوده: لتبسيط الأمور تخيل -ولو للحظة- أنني ممثل لحكومة ما أو لشركة ما تريد شراء أسلحة أو أجهزة أو مواد يمكن استخدامها في تصنيع أسلحة من أي نوع كان، ما يحدث عادة شيء من هذا القبيل، أتوجه إلى تاجر الأسلحة أو مصنع الأسلحة، أقول له: إنني أمثل مثلاً شركة أو مؤسسة عراقية، يقول: أهلاً وسهلاً ستكلفك هذه الصفقة ذلك المبلغ، فإن كان لديك كان بها، وإن لم يكن لديك فلا بأس، يقول ذلك بالطبع بعد القيام ببعض الاتصالات الجانبية، أثناء ذلك في وزارة التجارة والصناعة البريطانية قسم خاص اخترعته الحكومة البريطانية، اسم هذا القسم "قسم ضمان قروض التصدير"، يقوم هذا القسم بالطبع بعد أن يتأكد من أن الحكومة البريطانية راضية عني بالاتصال بأحد البنوك والتعهد لديه بضمان المبلغ المتفق عليه وكذلك ضمان الفائدة.
حين أصل إلى البنك أجد المبلغ المتفق عليه في انتظاري آخذه وأمضي، إذا فشلت في رد المبلغ المتفق عليه فلن أخسر شيئاً، قسم ضمان قروض التصدير هو المسؤول أمام البنك، وهذا القسم بعبارة أخرى هو الحكومة البريطانية، لا تبقى إذن سوى خطوة أخيرة أعود إلى مصنع الأسلحة وفي يدي المبلغ المتفق عليه، أو لعله مر من حساب إلى حساب اتركه لديه، ثم أحمل البضاعة وأمضي.
بكل هذه البساطة؟ نعم بكل هذه البساطة.
لكن هذه البساطة وضعت قسم ضمان قروض التصدير في مأزق غير مرة، إذ أدى فشل العراق في الوفاء بهذه القروض إلى اضطرار القسم إلى دفعها للبنوك من جيوب المواطنين البريطانيين حتى عام 96 اقترب المبلغ من مليار جنيه إسترليني.
تشير إحصاءات السوق العالمية لتصدير السلاح إلى هيمنة الولايات المتحدة للأميركية بنسبة 54% فيما تتذيل القائمة الصين بنسبة 2%، ويبلغ نصيب روسيا 11%، بينما تأتي دول الاتحاد الأوروبي في المرتبة الثانية بنسبة 33%، بين دول الاتحاد الأوروبي تستأثر بريطانيا بنصيب الأسد في تصدير الأسلحة بنسبة 55% تيلها فرنسا بنسبة 23%، ثم ألمانيا بنسبة 13%.
في الطرف الآخر من السوق تأتي منطقة الشرق الأوسط على رأس المناطق المستوردة للسلاح من الولايات المتحدة التي صدرت لها بين عامي 93 و95 ما قيمته ثمانية عشر مليار دولار من الأسلحة، ويتكرر النمط نفسه في الفترة نفسها بالنسبة لبريطانيا التي صدرت لمنطقة الشرق الأوسط ما قيمته اثنا عشر مليار دولار من الأسلحة والمعدات.
مداخل 1: الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن مسؤولة عن نحو 85% من مبيعات الأسلحة في العالم، ولهذا فالمصالح المكتسبة في بيع الأسلحة واضحة حقاً، وبالطبع ليس غريباً علينا مشهد الحكومات العربية التي لا تستطيع في الواقع استخدام الأسلحة، ولا تملك وسائل استيعابها، ولا توجد لديها حاجة حقيقية لاستخدامها، مشهدها المسرحي وهي ترغم على شراء بعض من أكثر التكنولوجيا العسكرية تعقيداً، وهو مجرد وسيلة لتدوير البترودولار ولإجبار الدول العربية هذه على الدفع للدول الإمبريالية الغربية لتأمين دعمها السياسي والدبلوماسي المستمر.
يسري فوده: على بعد آلاف الأميال كشف أحد رجال الأعمال التشيليين عام 95 عن أن الإدارة الأميركية كانت على علمٍ تامٍ ببيع مكونات قنابل عنقودية بمواد أميركية إلى العراق.
رجل أعمال تشيلي: إن لدينا اعترافاً لمسؤول في وزارة الدفاع الأميركية يؤكد تحت اليمين الدستورية وجود وثائق عن أن مدير وكالة الاستخبارات الأميركية الـ CIA ونائبه لم يكونا على علم بأنشطتنا وحسب، بل أيضاً شجعاها ودعماها.
يسري فوده: بعد ذلك بيومين اثنين كان رئيس الوزراء البريطاني السابق جون مبحور في زيارة للرئيس الأميركي (بيل كلينتون) يكشف فيها النقاب عن ما هو مكشوف بالفعل.
مداخل 3: عليكم أن تنظروا إلى النطاق الشاسع من الأمور التي تلتقي بشأنها النظرة الغريزية لكل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة التقاء النعل بالنعل، انظروا إلى أهم قضايا الساعة العلاقة مع روسيا، العلاقة مع الشرق الأوسط، العلاقة بشأن الإرهاب، العلاقة مع إيران، العلاقة مع العراق.
يسري فوده: في اليوم التاسع عشر من شهر مارس/ آذار عام 90 كان مطار هيثرو بالقرب من لندن مسرحاً لعملية بوليسية، عندما وصل ما قيل إنه أربعون مقداحاً نووياً طلبتها منشأة القعقاع استبدلت خلسة بأخرى مزيفة قدمتها شركة CSI الأميركية، وأثناء نقلها إلى طائرة شركة الخطوط الجوية العراقية تمت عملية الاعتقال، كانت قنبلة صحفية سربت أخبار التحضير لها عمداً لإحدى الشبكات التليفزيون الأميركية، وكان بطلها صاحب الوجه المزدوج العميل الأميركي (دانيال سوبنيك)، أما علي داغر فقد أوقعه مكثف لا حول ولا قوة في الثامن والعشرين من مارس/ آذار عام 90، لكنه لم يقدم إلى هذه المحكمة إلا حين كانت أنظار العالم كله في ذلك الوقت موزعة بين العراق والكويت فيما عرف بعاصفة الصحراء.
بعد ذلك بأيام قليلة كتبت رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك (مارجريت تاتشر) هذا الخطاب.
تهنئة حارة إلى كل هؤلاء الذين اشتركوا في عملية منع تصدير مكونات سلاح نووي إلى العراق. إن لدى الأمة كلها سبباً -على حد قولها- لأن تكون ممتنة لكم.
يقطع أشهر مستشار قضائي في بريطانيا بأن هذا الخطاب أثَّر بصورة حاسمة في سير القضية التي جرت مداولاتها في هذه المحكمة.
ملف الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية بين بريطانيا والعراق
بعد أسابيع قليلة من عاصفة الصحراء حُكم على علي داغر بخمس سنوات مع النفاذ وعلى مرؤوسته الفرنسية بثمانية عشر شهراً.
اليوم على المستوى السياسي فيما يوضع الملف النووي العراقي على الرف تسحب الحكومة البريطانية ملفاً آخر أكثر إثارة للذعر وتزيل عنه الأتربة: الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية.
رئيس الوزراء البريطاني: إن كل الدول مهمته بالتأكد من انصياع صدام حسين لقرارات مجلس الأمن الصادرة بعد حرب الخليج، وسبب أهمية انصياعه لهذه القرارات أن الأمر يتعلق بصناعة أسلحة الدمار الشامل الكيماوية والبيولوجية، وإذا سمح له بالاستمرار في تدوير هذه الأسلحة فالأخطار المحدقة ليس فقط بالشرق الأوسط، بل بالعالم كله واضحة وجلية.
يسري فودة: هذا ما يقوله رئيس الوزراء البريطاني، أما التاريخ فإن له رأياً آخر يقول: إن بلاده هي التي بدأت بتطوير بكتيريا الجمرة الخبيثة المعروفة باسم الأنثراكس أثناء الحرب العالمية الثانية، بل إنها أمرت بتصنيع أكثر من مليون قنبلة جرثومية من هذا النوع استعداداً لإلقائها على رؤوس الشعب الألماني إذا لزم الأمر.
هذه المرة الطريق إلى الجنوب يبدأ من الشمال يقول واحد من أندر المتخصصين في هذا النوع من الأسلحة إن أي صاحب مخبز أو مصنع للجعة أو حتى حانوتٍ للبقالة يمكنه أن يكون تاجر أسلحة.
مداخل 4: ما أجده مشوقاً هو الأسلوب الذي جزمت به بريطانيا والولايات المتحدة بأنها بكتيريا الجمرة الخبيثة، وليس أي نوع آخر من مئات الوسائط البيولوجية المختلفة التي يزعمون أن العراقيين ينتجونها، وذلك لأنهم لابد كانوا على علم بأن تكنولوجيا إنتاج بكتيريا الجمرة الخبيثة جاءت من معامل بريطانية أو أميركية، وهذا أمر لا يدهشني لأننا نعلم أن بريطانيا والولايات المتحدة كلتيهما تعامتا عن تطوير العراق الأسلحة الكيماوية والبيولوجية طيلة الصراع العراقي الإيراني، وأثناء استخدام صدام الأسلحة الكيماوية ضد الأكراد في الشمال، خذ مثلاً حلابشة، وحين قامت حرب الخليج أدركوا فجأة أنهم كانوا يقومون أو يسمحون سراً بإمداد هذه الوسائط إلى الشخص الذي كان على أية حال شرطيهم في المنطقة كلها لفترة طويلة من الزمن.
يسري فوده: كان اللواء الركن عبد الأمير عُبيِّس الصباح بين القادة العراقيين الأول الذين عبروا الحدود إلى إيران وأخلصوا للعراق، الآن يختار المنفى.
أثناء وجودكم في مثل هذا الموقع العسكري القيادي في العراق هل صدرت إليكم في يوم من الأيام أي تعليمات باستخدام أو حتى التفكير في استخدام مثل هذا النوع من الأسلحة؟
عبد الأمير عبيس الصباح: الحقيقة لم يمر يعني على المستوى الشخصي لم يمر موقف يتطلب استخدام هذا.. هذا السلاح، وحتى لو تطلب الأمر أن.. أنا شخصيا لن ألجأ لهذا الأسلوب إطلاقاً حتى لو توفرت لي عندي.. لدي الإمكانيات.
يسري فوده: هل علمت في أي يوم من الأيام عن زميل، عن رئيس أو عن مرؤوس صدرت إليه مثل هذه التعليمات باستخدام أو حتى التفكير في استخدامه؟
عبد الأمير عبيس الصباح: لأ، هو سلاح استراتيجي، ما.. لا يؤخذ نظر القادة في.. في استخدامه إلا في المراحل النهائية، ومستويات القياة العليا، يعني بمستويات قيادة الفيلق وأكثر ربما..
يسري فوده: فيما وضعت مصداقية العراق كل يوم في الميزان سقطت كل لحظة مصداقية فرق التفتيش المتعاقبة في الميزان نفسه.
أمام تراجع مفردات القوة العسكرية التقليدية للعراق، واقعياً ما الذي يمكن أن يفعله ما يوصف بالمجتمع الدولي أمام زئبقية أسلحة الدمار الشامل.. أسلحة اليأس؟
مداخل 4: إن الطريقة الوحيدة لحل مشكلة احتمال استخدام الأسلحة البيولوجية هي الطريق السياسية فأنت لن تستطيع حلها بوجود فرق التفتيش نظراً إلى سهولة إنتاجها، ورغم سهولة إنتاجها عليك أن تتذكر أن أي منتج بيولوجي عديم الفائدة دون نظام للإيصال، ومن السهل اكتشاف أنظمة الإيصال سواء كانت قنابل أو وصواريخ، ولكن مجرد صناعة أنبوب يحوي بكتيريا الجمرة الخبيثة يستخدمه إرهابي أو منفذ عملية انتحارية هو أمر من السهولة بمكان، ولا توجد أي طريقة للاكتشاف أو الوقاية من مثل هذا العمل.
مداخل 5: إلا إذا كنت تريد حظراً تاماً على تصدير أي مادة متقدمة من أي نوع إلى العراق، وهو ما لن يصلح على أية حال لأنهم سيشترونها من أي مكان آخر، فسوف تجد نفسك في موقف صعب للغاية، أين ترسم الحدود؟ ترسم الحدود لدى تكنولوجيا القذائف الباليستية والأسلحة المباشرة وهي محظورة بالفعل، ولدى لبنات الأسلحة الكيماوية والبيولوجية وهي كلها محظورة، أما الكيماويات العادية والمواد العادية غير المحظورة إذا أرادوا شراءها نبيعها لهم.
محلل سياسي عربي: لكن يقال وهذا الشيء اللي يحير الإنسان أن هناك 11 ألف عالم عربي في العراق، هؤلاء هم الثروة الذي يجب القبض عليها، بعد فترة يقال أن هناك ألف عالم عربي، حيرتونا، يعني الإنسان يحتار هناك معلومات كثيرة وتضليل كثير وتضخيم كثير، والإنسان العربي للأسف يأخذ معلوماته كلها من الإعلام الغربي، والعراق لا.. لا أحد ينقل كلامه إلا لماماً يعني
يسري فوده: في مايو/ آيار عام 94 لم تكن محكمة الاستئناف العليا في حاجة إلى أكثر من ساعتين لبترئة علي داغر، ولم يكن علي داغر في حاجة إلى مجهود كبير كي يقوى على هذه الابتسامة، لكن قصته لم تنتهِ بعد.
جيفري روبرتسون: أعتقد أنها كانت علمية تغطية خطيرة للغاية، لقد كانت بريطانيا نفاقية وكانت حكومة تاتشر في أعماق النفاق، أرادت أن تكسب من الناحتين، فنظاهروا على خشبة المسرح العالمي بأنها لا تتعامل مع العراق، ولكن سراً تسمح بل تشجع رجال الأعمال على عقد صفقات بالملايين بل المليارات مع العراق.
لقد قال الوزراء شخصياً لرجال الأعمال إنه ينبغي عليهم بيع معدات صنع القنابل لصدام حسين دون أن يخبروا أحداً، غطوها كان هذا هو الشيء الفظيع، وبعد ذلك توجهوا إلى مجلس العموم وكذبوا من بين أسنانهم.
عبد الباري عطوان: يعني من الصعب أن.. أن نمزج هنا بين السياسة والأخلاق، خاصة عندما يتعلق الأمر في بريطانيا، لأن معظم السياسات الخارجية البريطانية على مر العقود الماضية كانت سياسة بلا أخلاق.
مداخل 6: لا، أنا لا أرى في ذلك شيئاً غير أخلاقي على الإطلاق، شأني هو المصلحة الاقتصادية للبلاد، ما يفعلونه بالأسلحة ليس من شأني.
يسري فوده: كانت الحكومة البريطانية بحلول فبراير/ شباط عام 96 قد باتت على حافة الهاوية، حين انفضح أمر الأسلحة توقع كثيرون أن تلملم بعض وقارها وتذهب. كان على أعضاء مجلس العموم البريطاني أن يختاروا نعم أو لا لإحالة الحكومة إلى اقتراعٍ على الثقة.
أفلتت إذن بشق الأنفس الحكومة البريطانية السابقة من اقتراع على الثقة، لكنها لم تفلت بعد من قبضة التاريخ، فأما الحكومة الحالية فأمامها كثير من العبر، وأما العراق فقد سبر ربما أكثر من غيره أغوار النفاق الغربي، وأما علي داغر فقد تحطمت حياته العملية وتأثرت حياته الإنسانية، ولايزال حتى في بلاد تدَّعي أنها تحمي حمى الحرية لا يقوي على الحديث، حين يأخذ حقه كاملاً من تلابيب الحكومة البريطانية لنا معه موعد آخر.
طيب الله أوقاتكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى