- بداية فكرة النفق ومرحلة التنفيذ
- ذكريات أهل سراييفو المرة والسعيدة داخل النفق
أسعد طه: يحكى أن مدينة صغيرة لم يسلم من حبها من مر بها، في حضن الجبل كانت تختبئ، ومن أنهاره كانت ترتوي، عاشت في الغرب فأخذت منه لون البشرة وشكل العين وارتسام الأنف وتعرَّفت على الشرق، فأخذت منه دفء الروح وطيبة الناس وسحر المشهد،س ثمانون مئذنة لها أو ما يزيد، كل يوم تشهد لله بالوحدانية وكنائس بها ومعابد، وكأنها تقول للعالم: إن اختلاف المعتقد لا يستدعي استحضار البندقية.
يوماً حكمها أصحاب الياقات الحمراء فعرفت قلة الحيلة وهوان الشرفاء، وعجز الحكماء، غير أن الزمان دار دورته فانكشف السحر وسقط العرش وعادت لسراييفو حريتها، فخلعت عن نفسها رداء الانكسار وذل التبعية، كانت العاصمة البوسنية حينها تكاد تطير فرحاً في السماء، تكاد تلامس أطراف الشمس قبل أن تطبق على أنفاسها غربان الموت، قبل أن يلف عنقها حبل الفزع والهلاك، والحكاية تبدأ من هنا.س
ثمانية أعوام قبل نهاية القرن العشرين، ويومان بعد بداية الشهر الخامس وقالوا لسراييفو "كُفِّي عن الياسمين وقوس القزح، من الآن ليس لك من الأزهار إلا الشوك ومن الألوان إلا الأحمر القاني، من الآن أنت تحت حصار سيطول ألفاً وأربعمائة يوم وهو ما يكفي لأن نقتل من صغارك ما يزيد عن ألفين ومن كبارك ما يقل عن عشرة آلاف وأما الجرحى والمعاقون، وأما الفارون والمشردون فهم كثر، كثر كمن أحبك وكمن خانك" قال الصرب المحاصِرون.
بداية فكرة النفق ومرحلة التنفيذ
برانكوفيتش نجاد (مهندس النفق): لقد أخذتنا الحرب على حين غرة ولم نكن مستعدين، وكنا نتوقع من القوات الجوية للناتو أن تأتي لنا بالسلام من السماء، وأن تطرد الصرب، لكن الوقت كان يمر وكان علينا أن نبحث بأنفسنا على الحلول التي تضمن لنا الاستمرار على قيد الحياة، وهذا الشعور كان هو السبب في ميلاد هذه الفكرة بين عامة الناس.
الجنرال راشد (صاحب فكرة النفق): سأشرح لكم ببساطة، فعندنا مدرج المطار وعلى طرفيه (بوتمير) و(دوبرينيا)، والعدو موجود على الجانبين بجنوده ونيرانه والمرور عبر مدرج المطار كان مستحيلاً، لقد كان المرور صعباً جداً جداً، وقد احتجت مرة إلى خمسة ليالي، وفي الليلة السادسة استطعت النفاذ إلى المدينة وفي إحدى هذه الليالي، وعندما كنت منبطحاً بجانب أحد البيوت هنا، خطرت ببالي فكرة: لماذا لا نفعل شيئاً تحت مدرج المطار لكي نستطيع الدخول لمدينة سراييفو؟ وبالنسبة لي فقد كان ذلك هو ميلاد فكرة لعمل شيء ما.
أسعد طه: شيء ما يخترق طوق الحصار يكون كبيراً بالقدر الذي يسمح بمرور المحاصرين، صغيراً بالقدر الذي لا يسمح بأن يراه المحاصرون، طويلاً بما يكفي لأن يخترق صفوفهم، وقصيراً بما يحول دون أن يمسكوا به، شيء ما يكون قلبه هواء، وجسده من الحديد والحجارة هكذا كما النفق أو هو كذلك.
الجنرال راشد: بدأت البحث في المدينة عن مهندسين معماريين، شابين وشديدي العزم ويمكن الثقة بهما لإنجاز ممر تحت مدرج المطار وقد شرحت لأحد المهندسين (برانكوفيتش نجاد) فكرتي وأكدت عليه أن هذا الأمر غاية في السرية.
برانكوفيتش نجاد: لقد التقيت الجنرال راشد في أواخر عام اثنان وتسعون، وقد سألني: نجاد من هو أفضل مهندس معماري في سراييفو؟
فأجبته: إني أفضل مهندس في سراييفو فبعد أن مررنا بكل تلك الأحداث، ما كان بوسع المرء أن يفكر بما يمكن ومالا يمكن فعله لقد كنت حينها مستعداً لعمل المستحيل، ولكنه قال لي إنه تحدث إلى عدد من المهندسين في سراييفو، وأخبروه عن عدم إمكانية نجاح المشروع، وعندئذ قررنا تشكيل فريق يقوم بمهمة الفحص الميداني، وتحديد مسار النفق.
[فاصل إعلاني]
الجنرال راشد: بعد عدة اجتماعات ومشاورات وبتاريخ الثاني والعشرين من ديسمبر عام اثنان وتسعون، وقعت على أمر بتنفيذ المشروع، لقد كانت بدايته صعبة جداً، ببساطة لأنه لم تكن هناك ثقة بإمكانية إنجاز مثل هذا المشروع، وهو أمر مفهوم، وإذا ما نظرنا إلى كل العقبات التي كانت في مواجهة عمليات التفيذ مثلاً، سرية العمل، سلامة الناس، ونقص مواد البناء، وعدم إمكانية فحص الأرض، والقصف المستمر من قبل التشتنيك، ومراقبة القوات الدولية لنا.
برانكوفيتش نجاد: المهم أن نذكر كيف تم تحديد مسار النفق، فأقصر طريق يربط المناطق الحرة داخل سراييفو مع الخارج أي منطقة بوتيمير يقع هنا، وهي منطقة مدرج المطار، فالعدو كان يسيطر على منطقتي (فويكوفيتش) و(لوكافيتسا) وكان قريباً من هنا، فيما قوات الأمم المتحدة تسيطر على المدرج والصرب يسيطرون على (اليجا)، وبقى لنا هذا الممر الضيق الذي يدافع عنه جنودنا في (بوتيمير) ومع صعوبة الحصول على خرائط مطار سراييفو، قمت بتحديد المناطق التي يمكن أن تربط طرفي النفق، وقد حددنا منزلاً في دوبرينيا وهذا المنزل هنا، برغم من عدم تواجدي من قبل هنا، لكن الخط المنطقي على الخريطة يربط هذا المنزل بالمنزل الآخر في دوبرينيا.
أسعد طه: رويداً رويداً راح العمل في النفق يسير وقبل الفأس كان القلم وخطوط مستقيمة وأخرى منحنية وأرقام وحسابات تحدد نقطة البداية ونقطة النهاية، وما بينهما يحتاج إلى الرجال الذين هم رجال.
برانكوفيتش نجاد: بما أنه كان من الصعب تحديد مستوى المياه الجوفية في هذه الظروف وجدنا حلاً آخر، كان في المنطقة الكثير من الآبار الارتوازية والتي تعمل بالمضخات اليدوية، قمنا بتحديد مستوى المياه الجوفية من خلال إدخال الحبل في ماسورة إحدى المضخات من أجل تحديد المستوى الذي سنبدأ منه حفر النفق.
مواطن بوسنوي 1: كان هذا البيت يشكل كل شيء خلال الحرب أعني أنه كان يشكل خلاصاً لشعب سراييفو المحاصر، وتأسيس جيش البوسنة والهرسك وصمود دولتنا.
أسعد طه: انقضت الليالي الطويلة وانتهت الحسابات الدقيقة والرسومات المستفيضة، وبات حلم النفق جاهزاً للتنفيذ، حاضراً لأن يكون المنفذ والمتنفس.
برانكوفيتش نجاد: عندما أنجزنا عمل المخطط، قدمناه لقيادة الفيلق الأول، الذي قام قائده المرحوم مصطفى خيرولاهوفيتش بإصدار أوامره للفرقتين الرابعة والخامسة لإمدادنا بكل ما يلزم لكي نباشر أنا ورفاقي ببناء النفق.
الأمر العسكري كان على الورق، ولكن الأصعب كان العمل ميدانياً اتفقنا على تشكيل مجموعتين للعمل، الأولى تبدأ من دوبرينيا وكنت أنا على رأسها والثانية من الجهة الأخرى، تحت إدارة المهندس (فضل شيرو) من منطقة بوتيمير عندما وصل المهندس (شيرو) إلى المنطقة بوتيمير اتصل بقيادة الفرقة الرابعة وطلب منهم تأمين مكان العمل وتوفير الأدوات والأيدي العاملة اللازمة، وبما أن ذلك كان عام ثلاث وتسعون وكانت الحرب على أشدها، كان من الصعب على أي قائد عسكري أن يتخلى عن اثنين من جنوده، كان البعض يعتبر أنه من المهين للجندي المقاتل أن يقوم بعملية حفر نفق، خصوصاً وأن الجميع كان يعتقد أنه سيتم القيام بعملية عسكرية لفك الحصار عن سراييفو.
أسعد طه: المهندسون والعمال والجنود، ثلاث ينازعهم ثلاث، الأمل والثقة واليأس، الأمل في أوروبا أن تحرك –ولو ساكناً- والثقة في النفس أن تكسر ولو حلقة من الحصار، واليأس في الظروف القائمة أن تسمح بحفر النفق.
برانكوفيتش نجاد: إلى أن علم الرئيس (عزت بيغوفتيش) بالمشروع، طلب منا الحضور لنعرض احتياجاتنا عليه، والأمر الذي أقدره كثيراً أن الرئيس في ذلك الوقت في خضم المشاكل التي كان يواجهها من الوضع العسكري والمشكلة الإنسانية أصدر أوامره للقوات العسكرية بأن تؤمن لنا كل ما يلزمنا، وعندئذ فقط شكلنا وحدة عسكرية من مئة وستين شخصاً موزعين في المنطقتين، وبدأنا بالعمل الجدي.
مواطن بوسنوي 2: كنا نعاني نقصاً حاداً في المعدات إذ لم نكن نملك منها شيئاً، وحتى البسيطة مثل: الفؤوس وعربات اليد، وعندما حصلنا على عدد منها جندنا قوات الدفاع المدني التي كانت تتألف من رجال مسنين، والذين حفروا خندقاً مؤدياً إلى داخل النفق، لقد بدأنا العمل بالفعل في السابع عشر من شهر ديسمبر عام ثلاثة وتسعون، حينها كان البرد قارساً، والحفر صعباً جداً.
برانكوفيتش نجاد: ربما من المهم ذكره حول اتجاه النفق أننا وضعنا نقطتين الأولى هنا على هذا المنزل، والأخرى في دوبرينيا، وبما أنه تم اكتشاف هذا الاتجاه قمنا وبسرعة بحفر نفق آخر يصلنا بالنفق الأصلي من الجنب بزاوية مقدارها مئة وثلاثين درجة وذلك لأن قوات الأمم المتحدة التي كانت موجودة على المدرج كانت تحاول اكتشافنا وقطع الطريق علينا بما تملكه من معدات، لأننا قمنا بتغيير الاتجاه الأصلي للنفق، ولأن شخصين فقط كانا يعرفان الاتجاه للنفق فإن قوات الأمم المتحدة لم تتمكن من العثور علينا.
مواطن بوسنوي 2: مدخل النفق كان يحتاج إلى الكثير من المواد لبنائه، ولم تكن المواد موجودة في سراييفو، اضطررنا أن نحصل عليها بطرق عديدة، منها أننا لجأنا إلى استخدام المواد الحديدية بدلاً من الخشبية التي تستعمل عادة في هذه المشاريع، والسبب النقص الشديد في الألواح الخشبية اضطررنا لاستخدام أبواب المنازل، وخزانات الملابس لكي يسير العمل قدماً.
أسعد طه: سجَّل أيها التاريخ: نحن لا ننحني، نحن لا ننهزم، معداتنا خاوية، حلوقنا تشتاق للماء الممنوع، أجسادنا يحاصرها البرد، فكرنا مشغول بالأحبة الغائبين، الأب والابن والزوجة المحاصرين بين الحديد والنار، لكننا نحفر الأرض، وتحت الأرض ونسويها سرداباً طويلاً نتعلم ونعلم الآخرين فن الممكن من المستحيل.
برانكوفيتش نجاد: أولى الوحدات العسكرية التي بدأت بالعمل جهة دوبرينيا هي وحدة السلطان الفاتح قد حفروا الخمسة عشر متراً الأولى في ظروف صعبة جداً، إذا لم تكن هناك إضاءة ولمن عندما حصلنا على تلك الوحدات العسكرية بدأ العمل يسير بشكل طبيعي، وقد كانت تواجهنا بعض المشاكل، مثل هيكلية النفق، مثل سحب المياه الجوفية، كذلك نظام ضخ الهواء إلى النفق، لأنه وبعد حفره خمسة عشر متراً بدأ الناس يشعرون بالاختناق لعدم وجود الهواء، وكذلك نظام الإضاءة، وكثير من المشاكل التي وجدنا لها حلولاً أثناء العمل.
مواطن بوسنوي 2: كلما كنا نتعمق في الحفر كانت كمية الأوكسجين تقل، لذلك في نهاية العمل في حفر النفق لم يكن باستطاعة أقوى الشباب والتي كانت أعمارهم في العشرينات أن يحفروا لمدة تزيد عن خمسة دقائق، كان ينتابهم العرق والجهد بسرعة، وكان يتم استبدالهم على عجل بأفراد آخرين، وهكذا دواليك.
مواطن بوسنوي 1: أحتفظ بالمعدات والأشياء المتعلقة بالنفق يستطيع رؤيتها الزوار المحليون والأجانب، وهنا ترون المعدات الأصلية التي حفر بها النفق، وهي عبارة عن طوربة وفأس، وتلك كانت لحفر الأرض، أما السفلى فكانت مخصصة للوحل. إذا كان هناك أثناء عملية الحفر الرمل والوحل والطين، وكنا نتعامل مع كل شيء يدوياً.
مواطن بوسنوي 2: كما كان يجب علينا إخفاء الرمال التي نخرجها من النفق، لأن الصرب كانوا يراقبوننا من الجبال، ولذلك كنا نضع الرمال في أكياس وننقلها بعيداً، نخفيها خلف المنازل القريبة كي لا يلاحظوا ما نفعله، أما المياه التي كانت تتجمع وبسبب عدم وجود كهرباء وشفاطات كنا ننقلها بواسطة الجردل، أجمعها في أحواض وننقلها خارج النفق إلى أن تم توصيل الكهرباء، واستخدمنا نظام الشفاطات.
أسعد طه: تحت الأرض كان العمل يجرى على قدم وساق، وفوق الأرض كانت المعارك تجرى على قدمٍ وساق، وهذا الخيط الرفيع الرابط بين سراييفو وخارجها بات هو أمل المستضعفين في أن يكونوا أو لا يكونوا.
برانكوفيتش نجاد: عندما اقتربنا من الانتهاء من النفق كان الوضع العسكري صعباً جداً إذ تم اختراق خطوطنا على جبل (ايغمان) فيما كانت تجرب في جنيف مفاوضات حول مشروع (فانس أوين)، الذي لو تم التوقيع عليه آنذاك لأفضى إلى نتائج سلبية كبيرة على وحدة البوسنة والهرسك، لكن الوضع التفاوضي لممثلينا في جنيف كان سيئاً للغاية، لم يكن الوضع العسكري يميل إلى صالحنا، وكنت أتلقى من جنيف ثلاث أو أربع مكالمات هاتفية يومياً، يستفسرون من خلالها عن أية أخبار سارة حول التقدم في بناء النفق.
مواطن بوسنوي 2: عندما اقتربت المجموعتان من بعضهما وقبل كل عملية حفر للأمام كنا نأخذ ماسورة حديدية ونطرق عليها بشاكوش ثقيل لكي نتأكد هل نحن قريبين أم لا، وعندما نجد العكس فإننا نستمر بالحفر.
برانكوفيتش نجاد: والحقيقة أننا كنا قد حددنا تاريخ الانتهاء العمل يوم السادس والعشرون يوليو، ولكن بسبب الخطأ في الحسابات على الخرائط فيما يخص طول النفق، وكذلك التطبيق على أرض الواقع احتجنا إلى أربعة أيام أخرى.
مواطن بوسنوي 1: كان خط سير النفق الذي رسمه (نجاد برامكوفيتش)، كان يعبر أرضي بطول حوالي مائتي متر إلى أن يصل إلى مدرج المطار.
مواطن بوسنوي 2: أثناء عمليات الحفر كانت هناك تخوفات، فهل ستوفق المجموعتان اللتان تقومان بالحفر من اتجاهين متضادين في الالتقاء، خصوصاً وأنه عندما اقتربنا من بعضنا كنا نسمع أصوات حفر من الجوانب لذلك أعتقد الناس أننا أخطأنا في الاتجاه، وقد استطعنا بالكاد إقناعهم بالاستمرار في العمل، وإن كانت الأغلبية لم تصدقني في لحظة ما وضع أحد الشباب يده على الماسورة بالصدفة وأحس أن أحداً يطرق عليها من الجهة المقابلة، وعندما وضعت يدي عليها قلت لهم أخرجوها.
برانكوفيتش نجاد: هذا القضيب الحديدي موجود هنا منذ شهر فبراير عام ثلاثة وتسعون، وهو عبارة عن النقطة المساحية لتحديد سير النفق في بوتيمير)، ويوجد قضيب حديدي آخر في نافذة أحد المنازل في دوبرينيا هما النقطتان اللتان عن طريقها تحديد محور النفق في باطن الأرض.
مواطن بوسنوي 2: ذهبت لتغيير ملابسي استعداداً لهذه اللحظة السعيدة، ولكن لحظة وصولي للغرفة أسرع أحد الجنود قائلاً: لقد اخترقنا النفق، فلم يستطيع العمال الصبر وتسابقوا إلى اختراق النفق وإلى أن وصلت كانت الاحتفالات داخل النفق قد بدأت.
الجنرال راشد: أستطيع القول إن ذلك اليوم كان أسعد أيام حياتي ففي نفس الليلة تم عبر النفق إدخال اثني عشر طناً من العتاد العسكري إلى سراييفو، وبغض النظر عن كل الصعاب التي واجهت حفر النفق فقد لعب دوراً عظيماً لمدينة سراييفو وللبوسنة والهرسك عامة.
برانكوفيتش نجاد: في ليلة الانتهاء من حفر النفق في الثلاثين من يوليو عام ثلاثة وتسعين عبرته أول وحدة عسكرية بكامل أسلحتها بقيادة عدنان سولا كوفيتش متجهة إلى جبل (ايغمان)، وكذلك تم إدخال من عشرة إلى خمسة عشرة طناً من الأسلحة إلى مدينة سراييفو، وبهذا بدأت عملية تدعيم الموقف العسكري.
أسعد طه: حان إذاً وقت الفرح عرس في الأرض وآخر في السماء، في الأرض يحتفل محاصرون بشعاع أمل، الجوعى، والعطشى، والجرحى، العجائز، والنساء، والأطفال، الأرامل، والثكالى، واليتامى، وفي السماء مواكب الشهداء التي لا تهدأ وملائكة وكأنها تزف مقاتلاً أغتيل وهو يشق الأرض طريقاً إلى حيث الزوجة وإلى حيث الابن الذي ولد في غيبة الأب المقاتل خلف أسوار الحصار.
الجنرال راشد: استشهد لنا شخص واحد أثناء حفر النفق، وهو المرحوم (مجيد عاريفوفيتش) بعد ذلك وأثناء استخدام النفق كان هناك الكثير من القتلى خاصة في منطقة بوتيمير، لأن العدو التشينيك كان بقصف هذا الممر باستمرار أثناء استخدام النفق، لقد كان هناك الكثير من القتلى والضحايا.
د. يوسف حجير: العدو قريب جداً، العدو كان بعض المناطق حوالي 200 متر بعض المناطق حوالي 400 متر، يعني من كل الجهات كانوا.. كان مفتوح له، غير ما حد يمر، يعني لما بيشوفوا مجموعة كبيرة تمر.. من نفق تاني يضربوها سواء بالمدخل أو في المخرج، طبعاً كل.. كل القذائف يعني.
أسعد طه: يوسف.. يوسف حجير، عربي وإن شئت تحديداً فلسطيني، طبيب جراح، عاش حياته في البوسنة وعند وقوع الواقعة، آثر عن الهروب الصمود، وعن الفرار البقاء، هنا في دوبرينا حيث النفق، وحيث قوافل الموت تغتال البشر، يحيل مأرباً، للسيارات مستشفاً متواضعاً، يكون لاحقاً سبباً في إنقاذ حياة الآلاف، أطفالاً ونساء وعجائز ومقاتلين.
د. يوسف حجير: يعني النفق يبعد عن المستشفى حوالي 300، 305 متر، وكل المصابين سواء كانوا في النفق أو في مدخل النفق أو مخرج الخروج من النفق، كانوا يجوا المستشفى هذا، المستشفى هذا عمل في شهر مايو سنة 1992، أنا عملت كجراح، عندي، وكان عندي طبعاً خبرة كبيرة في –بما أنه اشتغل في جراحة الحوادث- في الإصابات الحربية، مجموعة كبيرة، يعني خلال المستشفى هذا مر حوالي 16 ألف جريح، من النفق لوحده حوالي 4500 جريح، حول النفق، يعني من مخرج النفق، مدخل النف، وفي داخل النفق.
الاستراتيجيين العسكريين ما يقولوا لو ماكنش المستشفى هذا لا يمكن.. ما فيش نظرية يعني يمكن المحافظة على المنطقة هاي من السقوط، المنطقة هاي تقريباً مثل داخل حدود العدو تقريباً يعني، يعني العدو كان محاصرها من ثلاث جهات ومن الجهة الرابعة ممكن تشوفها.. تشوفها الآن، الجهة الرابعة كانت في المنطقة منطقة التل هاي، كان فيها حتى الدبابة المحروقة العسكرية، الدبابة الصربية موجودة لحد الآن على التل هاي، يعني هاي الجهة الرابعة من الخروج.. الاتصال للمنطقة هاي في المدينة.. مدينة سراييفو، الجهات الأخرى الثلاثة كانت.. كانت ثلاث ثكنات عسكرية كبرى للجيش الصربي موجودة حول المنطقة هاي.
(.........): لقد كان هناك نظام معين لاستخدام النفق، خاصة وأن الجيش كان له الأولية المطلقة في استخدامه لاحتياجاته الخاصة، وعندما لم تكن للجيش حاجة لاستخدام النفق كان يستخدم في مرور الناس والأغذية.
مواطن بوسنوي 1: ما ترونه هنا في وسائل ومعدات كنا نقوم بإدخالها المدينة في السنتين الأولتين للحرب عبر النفق، لكي يتم تجهيز وتسليم على الأقل العدد الذي يكفي للدفاع عن المدينة لأنه لم يكن بمقدورنا أكثر من ذلك، حيث كان النفق ضيقاً لإدخال معدات أخرى واستطعنا فقط إدخال الأسلحة الفردية والذخائر والقذائف، وكذلك اللباس العسكري.
ذكريات أهل سراييفو المرة والسعيدة داخل النفق
أسعد طه: في سترة الليل، وعلى بعد أمتار من العدو، كان المدافعون عن المدينة يمرون عبر النفق، يمدون سراييفو بالسلاح، وتمدهم سراييفو بالرجال.
صالح: لقد عبرت وحدات كثيرة من الجيش النفق، لأنه كان يجب علينا الدفاع عن خطوط التماس، وكان ذلك بالغ الأهمية، لأننا كنا في سراييفو محاصرين، لقد استشهد الكثير من أحب أصدقائي، أنا بقيت هنا، والكثير منهم قتلوا، إما بالقرب من النفق، أو على خطوط التماس.
أسعد طه: صالح.. في الصفوف الأمامية هو، إذا ما لاحت نذر الحرب، وإذا ما حل السلام عاد إلى الصفوف الخلفية، يبحث عن لقمة العيش، وعن زاد الصغار، حين أراد الحديث.. حين أراد أن يسترجع ذكريات الغضب أبى أن يفعل ذلك، إلا في حضرة الرجال، الأصدقاء الشباب الشهداء.
صالح: كان عبور النفق من أصعب أيام حياتي، وبسبب طولي وقصر ارتفاع النفق، كان علي الانحناء بصورة مضاعفة لم يكن الهواء نقياً، وكانت المجاري والمياه تصل إلى هنا، وكنا مبللين والجو بارد جداً، والثلج يصل إلى هنا.
أسعد طه: يعود صالح فيتذكر كيف فاجأته الواقعة، وكيف فصلت أسوار الحصار بينه وزوجته في سراييفو وبين ابنهما خارج سراييفو، حين نشبت الحرب حين كان الولد هناك لدى الجد والجدة.
صالح: لقد كنت من أول المتطوعين، وعندما وصلت إلى الجبهة، وعدني القائد العسكري بأنه سيسمح لي بالذهاب لرؤية ابني، وقد حضنت القائد من شدة السعادة والفرح، وشكرته جداً على إنسانيته، عندما وصلت وجدت إحدى قريباتي وناديتها يا "جميلة" فنظرت إلي وسألتني من أين أتيت، قلت لها أتيت من الجبهة لأرى ابني "علاء الدين" لم أره منذ سنتين ونصف، وعند فراقنا كان طفلاً يبلغ من العمر سنتين ونصف، وها هو يبلغ الخامسة من عمره عند لقائنا، قالت لي إحدى النساء ألا أقول له أنى أبيه كي لا يخاف، قالت "جميلة" وهي تبكي عن ابني، لأني سمعت أصوات بعض الأطفال في المنزل حيث ابنها أيضاً.
كانت "جميلة" مستمرة في البكاء، في هذه اللحظة دخلت البيت، رأيته ولداً كبيراً في الخامسة من عمره، لم تصبر وقالت له: هذا هو أبوك، فرد عليها قائلاً: هذا ليس أبي أعطني البندقية لأقتله.
عند وصولنا إلى النفق لم أستطع أن أحمل ابني لأنني كنت أحمل كيس الملابس وهو ثقيل، لم أستطع القيام بذلك سألت أحد أصدقائي أن يساعدني في حمل الكيس، فوافق لأنه كان يحمل حقائب صغيرة. وصلنا إلى منتصف النفق ولم أستطع السير أكثر، لقد كانت المياه مرتفعة في النفق، وعندما أردنا وضع الكيس جانباً وقع منا في المياه وأصبح أكثر ثقلاً.
ذهب صديقي ولم ينتظرني لأني بقيت مدة ساعتين في النفق، لأن كيس الملابس كان ثقيلاً، وكان صديقي قد أخذ ابني معه.
وقال له هيا يا "علاء الدين" معي لكي آخذك إلى أمك، فرد عليه: لا أريد، أنا ليس لي أم، وعندما وصل إلى شباك المنزل، كانت زوجتي منهمكة والشباك مفتوح على مصراعية، وعندما رأته تعرفت عليه وسألت صديقي: هل هذا ابني "علاء الدين" وأجابت على الفور قائلة: نعم هو ابني "علاء الدين" وقفزت عبر الشباك باكية واحتضنته وهي تصرخ: إنه ابني "علاء الدين".
أسعد طه: إذا ما أردت أن تسطر من التاريخ صفحاته عن الحرب البوسنية أئت إلى هنا، اجلس عند بوابة النفق، واجمع حولك الصغار والكبار، الذين مروا من هنا إلى هناك، أو من هناك إلى هنا، واضع إليهم، واسمع ودون حكايات المقاتلين وقصص المواطنين، الفارين من سراييفو، والفارين إلى سراييفو، المنقوشة على جدران النفق اسماً وتاريخاً، المحفورة في الذاكرة دماً ودموعاً.
سيدة عجوز بوسنية: وعندما وصلنا إلى النفق، وكان عددنا حوالي أربعمائة، وقد اضطررنا للانتظار أمام النفق أربع ساعات، لأنه كان يتم نقل الجرحى، وكان يسمح بالمرور عبر على دفعات، وقد كنا خائفين كثيراً، فكانت هناك عواصف شديدة وكان الثلج عميقاً فوق الأرض، بعدها جاء دورنا ودخلنا إلى النفق ونحن نرتجف ونقع، وكانت المياه تغطي أرض النفق.
رجل عجوز بوسني: لقد حملت زوجتي طوال النفق وكنت أقع معها، ومن ثم نقف ونسير خمس خطوات لأننا لا نستطيع أكثر من ذلك، وكانت المياه نصل إلى هنا، وكنت أنتعل صندلاً وكان مبللاً جداً، أثناء المرور، كان يقع الكثيرون وكنا نرفعهم ونحملهم، إلى أن وصلنا إلى نهاية النفق، وقبل نهايته بقليل صدمت رأسي بالسقف، وأغمى علي وحملوني للخارج.. وقد كان هناك إطلاق كثيف للنيران، وكان الناس يعودون إلى النفق لمساعدة الذين وقعوا.
سيدة عجوز بوسنية: عند خروجنا من النفق، كنا نتحرك بصعوبة، وكانت حالة العجائز صعبة للغاية، وقد جلسنا قليلاً وإذا بقذيفة تسقط بالقرب منا، فتقتل اثنين على الفور وجرج الكثيرين، وبعد فترة خفت حدة القصف فقالوا لنا أنه يمكننا الذهاب.
رجل عجوز بوسني: لقد كانت حالتنا صعبة جداً عند خروجنا من النفق، لقد كنا نعاني الجوع والعطش والبرد، كان الأفضل لنا أننا لو متنا.
سيدة عجوز بوسنية: اضطررنا لأن بيت في العراء، وعندما وصلنا إلى بيت أحد أقربائنا في "دوبرينيا"، لم نجد تدفئة في المنزل، وكانت أخته مصابة، والشبابيك محطمة، وقد وجدنا بعض الأوراق وأشعلنا بها النار للتدفئة، تدفأنا قليلاً وأمضينا الليلة هناك، في اليوم التالي ذهبنا إلى مكان لا أذكره الآن، حيث أقمنا في مستوعبات خشبية مخصصة للعمال.
أسعد طه: كم مروا من هذا النفق، قادة وسياسيون، محليون ودوليون، كم التئم بسببه شمل عائلات، وكم أخرى انفرط عقدها، حين ولت وجهها شطر الغربة، كم من مريض مر عبره وكم منهم مات حين لم يتحمل قلبه عبء أكياس الطحين المحمولة على الصدر والظهر.
آميلا ببنتو: أنا "آميلا ببنتو" وأنا في الصف الخامس الابتدائي، وقد دخلت النفق من بوتيمير إلى سراييفو لأول مرة، عندما كان عمري خمس سنوات ونصف، وكان ذلك عام خمسة وتسعين، كنت أعبر النفق يومياً مع أمي لزيارة أبي المصاب في المستشفى، في النفق كنت خائفة بسبب المياه التي تتساقط، عند عودتي من زيارة أبي في المستشفى جلست على العربة التي تسير على السكة الحديدية التي كانت تصدر أصواتاً مزعجة.
وكانت المياه تسيل في النفق، والمصابيح الكهربائية مثبتة على جانبي النفق، وكان هناك أسلاكاً كهربائية، وإضاءة في بعض المناطق، ولم تكن في مناطق أخرى في النفق كان الكثير من الرجال والنساء يندبون حظهم، وربما كنت وأنا وطفل أخر الطفلين الوحيدين الذين مرا بالنفق، وأنا عبرت النفق كثيراً كثيراً، وأعرف كل شيء فيه عن ظهر قلب، كان جميع الضباط يعرفونني وكانوا دائماً يمزحون معي، عندما كنا نصل، كنا نختبئ في إحدى البيوت المهدمة، كان الناس يختبئون خلف الحجارة لكي لا يصيبهم الرصاص لأن أحد الجدران كان مواجهاً للنفق ويتم المرور بمحاذاته، وكان الكثير من الناس يقتلون هناك لأنهم لا يدركون خطورة المرور من هناك لذا كان يقف أحد الضباط ويمنع الناس من المرور.
كان السلم الواصل إلى النفق خشبياً، وكانت بعض درجاته مكسورة، وكنا نضطر للقفز عنها إلى المياه الموجودة في النفق، فتبتل ملابسنا وتتسخ، بسبب الطين والوحل، حتى أن وجوهنا كانت تتسخ، لقد حملني في إحدى المرات الضباط في النفق، وهي المرة الوحيدة التي جرحت فيها فيها نظيفة من النفق، وعندما عاد أبي للمرة الأولى من المستشفى، وضعوني معه في العربة، وكنت أغني باستمرار وكانت أمي والضباط يضحكون، ويقولون أنه عندما أكبر سأكون مغنية ناجحة.
مواطن بوسنوي 3: لقد كانت معظم الأحداث في النفق غير سارة مأساوية، لكن منها أيضاً السارة مثل حفلات الزواج إن ذلك يبدو وكأنه غير معقول، فأنا أذكر صديقي (ألفير سباهيتش) والذي جاء إلى (خراسنيسا) وهو يلبس البدلة وربطة العنق والحذاء، وأنتم تعرفون أن النفق كان مليئاً بالأوحال، ومنسوب المياه عالي، لكنهم جاءوا إلى هنا وأخذوا معهم العروس وهي تلبس بدلة الزفاف، والناس سعداء بهم وهم يمرون عبر النفق.
أسعد طه: وهكذا وجد الناس النور في نهاية النفق، وكأنه يقول لهم: احفروا الأرض ولو بإبرة، وعلموا أولادكم أن القوة في ساعد الظالم لا تهزم عزيمة في صدر مظلوم وأن الأيام دول، وأن الحكم اليوم ليس لهم، الحكم أبداً ليس لهم، إلى الملتقى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى