آخر المواضيع

آخر الأخبار

24‏/09‏/2011

الاقتصاد المصري ومعضلة الفقر في عهد مبارك

    الاقتصاد المصري ومعضلة الفقر والتهميش كمحصلة للسياسات الاقتصادية العامة

400

الاحتجاجات العمالية بسبب انخفاض الرواتب والأجور كثرت في العشرية الثالثة من حكم مبارك  (الفرنسية-أرشيف)

                                       أحمد السيد النجار

تُعتبر سياسات التحول الانتقائي نحو اقتصاد السوق الرأسمالي في عهد الرئيس المصري الحالي محمد حسني مبارك، والتى تأخذ ما يلائم الطبقة الحاكمة، دون أن تأخذ بباقى عناصر نظام اقتصاد السوق الرأسمالي والتي تشكلت تحت ضغوط تاريخية من الشعوب، بالذات ما يتعلق بالحريات الديموقراطية وتداول السلطة والمساواة بين الجميع أمام القانون، وإعادة توزيع الدخل من خلال نظام ضريبي تصاعدي، ونظام فعال للدعم، وتحسين أحوال الفقراء والعاطلين. وتعتبر هذه السياسات هي الإطار العام للنظام الاقتصادي في عهد الرئيس مبارك. ويتشكل الجانب الأعظم منها من السياسات التى طلبتها أو أمْلتها الدول الدائنة وصندوق النقد والبنك الدوليان على النظام الحاكم في مصر بعد أن كبل مصر بديون خارجية هائلة بلغت نحو 50 مليار دولار في عام 1988 حسب بيانات البنك الدولي[1]، ولم يتمكن من التخلص منها إلا بمقايضة تلك الديون بموقف الحكومة المصرية المشارك في التحالف المضاد للعراق في حرب عام 1991، وأيضا بتطبيق أغلب ما طلبته الدول الدائنة من سياسات اقتصادية وعلى رأسها بيع القطاع العام للرأسماليين المحليين والأجانب في صفقات فاسدة بصورة مروعة في غالبيتها الساحقة، بغضِّ النظر عن ملائمة تلك السياسات لمتطلبات التنمية في مصر، وزاد على ذلك ضعف كفاءة وفساد التطبيق لتلك السياسات التي كان من الممكن أن تنتج وضعا أفضل بكثير لو كان هناك نظام سياسي-اقتصادى أعلى كفاءة وشفافية وأقل فسادًا.

وإذا كان تقليص دور الدولة بكل ما يعنيه من خروجها من عمليات الاستثمار المباشر في الصناعة والزراعة، والاكتفاء بتطوير البنية الأساسية، وتحرير سعر وسوق الصرف، وخصخصة القطاع العام، هي الملامح الرئيسية للسياسات الاقتصادية لنظام مبارك منذ عقدين من الزمن تقريبا، فإن القوانين والقرارات الاقتصادية التي صدرت في ظل الحكومة الراهنة التي تسلمت الحكم عام 2004، تؤكد على طبيعة هذا النظام وسياساته الاقتصادية الموجهة لخدمة الطبقة الرأسمالية الكبيرة المحلية والأجنبية على حساب الطبقة الوسطى والفقراء، وهو ما يمكن إدراكه من قراءة تحليلية ونقدية لقوانين الضرائب، وحماية المنافسة ومنع الاحتكار، وسياسات التشغيل والأجور، وتوزيع الدخل والخصخصة.

قانون الضرائب.. انحياز فج للرأسمالية الكبيرة على حساب الطبقة الوسطى
قانون حماية المنافسة ومنع الاحتكار..لا يمنع الاحتكار ولا يحمي المستهلكين
سياسات التشغيل والأجور والخصخصة وانتشار البطالة والفقر
توزيع الدخل، وسحق الفقراء والطبقة الوسطى
الدعم والتحويلات مخصصات محدودة وموجهة للطبقة العليا بالأساس

قانون الضرائب.. انحياز فج للرأسمالية الكبيرة على حساب الطبقة الوسطى

يعتبر قانون الضرائب الذي تم إقراره عام 2005، من أهم أركان السياسة الاقتصادية للنظام الحاكم في مصر، وهو الأكثر تكثيفا لانحيازات هذا النظام وطبيعته الاجتماعية. ومن البديهي في النظم الضريبية الرأسمالية أن يدفع الأثرياء والرأسماليون ومؤسساتهم التجارية والصناعية الجانب الأكبر من الضرائب لتشكل الجزء الأعظم من الإيرادات العامة للدولة التي تستخدمها في تمويل إنفاقها العام؛ حيث إنهم وشركاتهم يستفيدون أكثر من باقي المواطنين من الإنفاق العام. وانطلاقا من هذه البديهية صاغت الدول الرأسمالية نظما ضريبية متعددة الشرائح وتصاعدية تعفي الفقراء من الضريبة وتكتفي بإسهامهم الكبير المتمثل في حقوقهم في إيرادات الموارد الطبيعية والبيئية والتراثية والمشروعات العامة القديمة لبلادهم، وتفرض ضرائب مخففة ومتدرجة على الطبقة الوسطى تتلاءم مع قدراتها المالية أو المقدرة التكليفية للممولين فيها، وتفرض ضرائب عالية ومتدرجة أيضا على الطبقة العليا وعلى رأسها الرأسماليون الكبار وشركاتهم في كافة المجالات.

"
توسيع نطاق الشرائح الضريبية وتقليل عددها في القانون، فإنه جاء على حساب اعتبارات العدالة بصورة شديدة الفظاظة، ولعل أسوأ ما في هذا القانون هو توحيده لمعدل الضريبة لمن يبلغ دخلهم السنوي 40 ألف جنيه، مع كل من تزيد دخولهم أو أرباحهم عن هذا المبلغ إلى أي مستوى حتى ولو كان عشرات المليارات من الجنيهات

"
لكن هذه البديهية غابت عن قانون الضرائب الذي أُقر عام 2005، والذي جاء تفصيلا لمصلحة الطبقة الرأسمالية الكبيرة على حساب باقي المجتمع. وصحيح أن ذلك القانون رفع حد الإعفاء الضريبى إلى 5 آلاف جنيه مصرى في العام (المادة 7)، يضاف إليها أربعة آلاف أخرى (المادة 13)، ليصبح حد الإعفاء هو 9 آلاف جنيه. لكن هذا الحد ظل ثابتا حتى الآن رغم أن معدل التضخم في مصر بلغ 8.8%، 4.2%، 11%، 11.7%، 16.2% في الأعوام 2005، 2006، 2007، 2008، 2009 بالترتيب حسب بيانات صندوق النقد الدولي المأخوذة من بيانات رسمية مصرية[2]. وهذا يعني أن القيمة الحقيقية لحد الإعفاء قد تراجعت مع ارتفاع معدل التضخم دون تغيير هذا الحد الأدنى للإعفاء. وفيما بين حد الإعفاء الضريبى وبين الدخول التي تبلغ 20 ألف جنيه في العام يكون معدل الضريبة 10%، بينما يبلغ المعدل 15% على الدخول التي تتراوح بين 20 ألف و40 ألف جنيه في العام. أما الدخول التي تزيد عن 40 ألف في العام فتُفرَض عليها ضريبة بمعدل 20 %. وينص القانون على المساواة بين شركات الأشخاص وشركات الأموال في معدل الضريبة البالغ 20% على الأرباح التجارية والصناعية التى تتجاوز 40 ألف جنيه في العام، وذلك بدلا من القانون القديم الذى كان يجعل الحد الأقصى للضريبة على شركات الأشخاص هو 32%، والحد الأقصى للضريبة على شركات الأموال 42%.

كما أعفى القانون كل الأوعية الادخارية من الضرائب، وأعفى أرباح الاستثمارات في الأسهم والسندات من الضرائب، وأعفى مشروعات جهاز الخدمة الوطنية بوزارة الدفاع من الضرائب كلية، وأعفى أرباح منشآت استصلاح واستزراع الأراضى، وإنتاج الدواجن والنحل، وتربية الماشية وتسمينها، ومصائد الأسماك ومراكب الصيد لمدة 10 سنوات من بدء النشاط، كما أعفى المشروعات الممولة من الصندوق الاجتماعى لمدة 5 سنوات. وبالمقابل فإن القانون ألغى الإعفاءات على الاستثمار المباشر، وفرض الضرائب على الدخل الذى يحققه أصحاب حقوق الملكية الفكرية وعلى إيرادات المهن الحرة التى منحها 3 سنوات من الإعفاء عند بدء النشاط لمن يبدأون مزاولة المهنة بعد تخرجهم مباشرة لغاية 14 عاما من تاريخ التخرج، وتخفض مدة الإعفاء إلى سنة واحدة فقط لمن يبدأون مزاولة المهنة بعد 15 عاما من التخرج.

ويمكن القول: إن رفع الحد الأدنى للإعفاء الضريبى، كان أحد التوجهات الإيجابية في القانون، نظرا لأن ارتفاع تكاليف المعيشة جعل الدخول الضرورية لمواجهة الحد الأدنى من متطلبات المعيشة أعلى كثيرا من الـ 9 آلاف جنيه في العام التى تم إقرارها. لكن تثبيت هذا الحد الأدنى وعدم إيجاد آلية لتحريكه سنويا بنسب مساوية لمعدل التضخم، جعل قيمته الحقيقية تتراجع سنويا، وكذلك الأمر بالنسبة لحدود الشرائح الضريبية الثلاث. كما أن إعفاء المدخرات من الضرائب، هو أمر مهم للغاية في بلد يحقق واحدا من أدنى معدلات الادخار في العالم؛ حيث بلغ معدل الادخار (قيمة المدخرات كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي) في مصر نحو 15.7%، 17.1%، 16.2%، 16.7%، 12.4% في الأعوام 2004/2005، 2005/2006، 2006/2007، 2007/2008، 2008/2009 بالترتيب[3]، مقارنة بنحو 21% في المتوسط العالمى، ونحو 31% في مجموع الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل، ونحو 48% في دول شرق آسيا والمحيط الهاديء التى تضم الدول السريعة النمو في تلك المنطقة، ونحو 54% في الصين[4]. ولن يكون بمقدور مصر تمويل استثمارات تحقق لها نهوضا اقتصاديا بمثل هذا المعدل المتدني للادخار والذي لا يمكن أن تحقق بالاستناد إليه سوى نمو بطيئ يقترب من حافة الركود، فضلا عن أنه يجبرها على القبول بمعدلات استثمار متدنية والاستدانة من الخارج لتمويل الاستثمارات، بكل ما يعنيه ذلك من الدخول في دائرة الديون الخارجية وتبعاتها الاقتصادية والسياسية السلبية. كما أن الادخار يعني إتاحة الأموال لتمويل التجارة والاستثمارات العامة والخاصة التي يتم تحصيل الضرائب عليها.

أما إلغاء الإعفاءات على الاستثمار، فإنه يشكل بدوره أمرا إيجابيا، لأن تلك الإعفاءات لم تكن تشكل أي حافز للاستثمارات الأجنبية التي كانت تضطر لدفع الضرائب في بلدانها طالما أنها معفاة من الضرائب في مصر، فضلا عن أن تلك الإعفاءات كانت تكرس حالة ضعف الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية لدى الطبقة الرأسمالية التقليدية المصرية. كما أن المهم في حفز الاستثمارات الأجنبية والمحلية، هو تطوير شفافية وحوافز السوق المتمثلة في مكافحة الفساد المستشرى في مصر، والقضاء على التعقيدات البيروقراطية المعطلة للأعمال والتي تفتح بابا ملكيا للفساد، وضبط المواصفات وحماية حقوق الملكية الفكرية، ووجود طلب فعال ونشيط، ووجود بنية أساسية متطورة داخليا ومرتبطة بالأسواق الخارجية، ووجود قوة عمل مدربة ومتنوعة المهارات، ووجود دورة من النمو والازدهار الاقتصادى المحلي، وتمتع الدولة بعلاقات اقتصادية خارجية حرة وواسعة النطاق. أما الحوافز المالية فإنها آخر ما يفكر فيه المستثمر الحقيقى.

وفيما يتعلق بإعفاء أرباح الأسهم والسندات من الضرائب، فإنه غير منطقى لأنه يشجع على سرعة وسخونة حركة الأموال في البورصة، أو بمعنى آخر يشجع على تصعيد المضاربة فيها، كما أنه يعتبر تحيزا لهذا النوع من الاستثمار غير المباشر الذي يقوده المغامرون وينتشر فيه الطفيليون المحليون والأجانب ممن يكونون على استعداد لتدمير استقرار الاقتصاد لتحقيق أرباح استثنائية. كما أنه جعل من البورصة المصرية أحد المسارح التي تلهو فيها رؤوس الأموال الأجنبية الساخنة لتنزح الموارد من الداخل للخارج؛ حيث لا توجد أية ضرائب على تحويل الأجانب لأرباحهم من البورصة المصرية إلى الخارج. ويبدو الأمر غريبا حقا، أن من يخاطر بأمواله وينشيء مشروعا صناعيا أو زراعيا أو تجاريا يدفع 20% ضرائب على أرباحه، بينما من يضارب في البورصة وهو نشاط طفيلي في غالبيته الساحقة، يتم إعفاؤه من الضرائب!!

أما الإعفاءات المقدمة للرأسمالية العاملة في مجال الزراعة والصيد لمدة 10 سنوات، فإنها منطقية في بعض الجوانب وخالية من المنطق في جوانب أخرى، فإعفاء مشروعات تسمين الماشية والدواجن على سبيل المثال، غير منطقي على الإطلاق ويجسد قوة أصحاب المصالح في هذا القطاع والتي مكنتهم من الحصول على امتياز لا يستحقونه، سواء لأنهم يبيعون اللحوم بأضعاف سعرها في الأسواق الدولية بشكل ينطوى على درجة عالية من الاستغلال للمستهلكين لتحقيق أرباح بالغة الارتفاع، أو لأنهم أقرب لعمليات التجميع لأنهم يعتمدون في عمليات التسمين على عليقة لا ينتجونها ومستوردة في الغالب.

أما فرض الضرائب على المهن الحرة وقصر فترة الإعفاء على 3 سنوات من بدء مزاولة المهنة، تختصر إلى سنة واحدة إذا بدأت مزاولة المهنة بعد 15 عاما من التخرج، فإنه ينطوى على قهر حقيقى لقلب الطبقة الوسطى وهم المهنيون، وبالذات الأطباء والمحامين والمهندسين والتجاريين، والذين كانوا بحاجة إلى مضاعفة فترة الإعفاء حتى تستطيع مكاتبهم أو عياداتهم بناء أسس قوية للاستمرار والتوسع.

أما توسيع نطاق الشرائح الضريبية وتقليل عددها في القانون، فإنه جاء على حساب اعتبارات العدالة بصورة شديدة الفظاظة، ولعل أسوأ ما في هذا القانون هو توحيده لمعدل الضريبة لمن يبلغ دخلهم السنوي 40 ألف جنيه، مع كل من تزيد دخولهم أو أرباحهم عن هذا المبلغ إلى أي مستوى حتى ولو كان عشرات المليارات من الجنيهات.

كذلك فإن القانون لم يعط أى ميزة ضريبية للمشروعات حسب تشغيلها للعمالة، وبالذات للمشروعات الصغيرة التي تعمل في مجالات، أو تستخدم تقنيات كثيفة العمالة عادة وتسهم بالتالى في تخفيض معدل البطالة، وكان من الضروري إعطاء ميزات ضريبية لتشجيع الشركات الصغيرة والكبيرة على تشغيل العمالة كإحدى آليات استيعاب قوة العمل وتقليل البطالة في مصر.

401

402

403

ونتيجة لهذا القانون غير العادل فإن الغالبية الساحقة من حصيلة الضرائب تأتي من الطبقة الوسطى أو من الحقوق العامة للفقراء، وهو ما يظهر واضحا في الميزانيات العامة للدولة؛ حيث تأتي الغالبية الساحقة من الإيرادات العامة للدولة، بصورة أساسية من الطبقة الوسطى بشكل مباشر أو من الحقوق والموارد والممتلكات العامة التي تعود الغالبية الساحقة منها للفقراء والطبقة الوسطى باعتبار أن تلك الموارد والملكيات العامة، مملوكة بالرأس لكل المواطنين على قدم المساواة. أي أن الفقراء والطبقة الوسطى هم الذين يمولون الإنفاق العام في غالبيته الساحقة ليزدادوا بؤسًا بينما يزداد كبار الرأسماليين ثراءً!!

وحتى يمكن تغيير هذا الوضع غير العادل والذي يزيد سوء توزيع الدخل بدلا من تحسينه، فإنه من الضروري تغيير نظام الضرائب الحالي والأخذ بنظام متعدد الشرائح وتصاعدي على غرار النظم المعمول بها في الدول الرأسمالية المتقدمة والنامية التي أشرنا إليها، مع ضرورة رفع الحد الأدنى للإعفاء من الضرائب إلى 20 ألف جنيه على الأقل اتساقًا مع ارتفاع تكاليف المعيشة، خاصة وأن معدل الإعالة مرتفع في مصر ويبلغ 3.5 فرد لكل شخص يعمل، مع تحريك هذا الحد الأدنى والحدود الدنيا للشرائح المختلفة سنويا بنفس نسبة معدل التضخم الحقيقي.

قانون حماية المنافسة ومنع الاحتكار..لا يمنع الاحتكار ولا يحمي المستهلكين

"
  قانون حماية المنافسة ومنع الاحتكار أفضى إلى استمرار الاحتكارات الإنتاجية والتجارية التي ترفع أسعار السلع والخدمات وفقا لآليات احتكارية تعتصر المستهلكين في غياب أي رقابة أو ردع حكوميين، وبلا منطق اقتصادي يربط الأسعار بتكلفة الإنتاج. وهذه الأسعار الاحتكارية تحولت لآلية مهمة للإفقار في مصر، ولسحق الفقراء وقطاع كبير من الطبقة الوسطى ممن يعملون بأجر
"

يعد قانون منع الاحتكار واحدا من أكثر القوانين التي استغرقت وقتا طويلا قبل إصدارها؛ حيث عملت قوى الاحتكار على عرقلة صدور القانون لسنوات طويلة تقارب العقد من الزمن، وعملت على أن يصدر بالصورة التي صدر عليها والتي لا تلبي احتياجات منع الاحتكار وحماية صغار المنتجين وجموع المستهلكين من كبار المحتكرين.

وقد حدد القانون الوضع الاحتكارى بسيطرة منتج واحد على 35% من إنتاج أى سلعة أو خدمة، وهو ما يضع عددًا كبيرًا من الشركات الكبيرة في العديد من المجالات الصناعية والخدمية ضمن الشركات التى تتمتع بوضع احتكاري. لكنه وضع  يستوجب وضع هذا المنتِج تحت الملاحظة والتحري، فتتم ملاحظته حتى لا يسيء استخدام وضعه الاحتكاري، بمعنى أنه لا تُتخذ أية إجراءات ضده، إلا عندما ترى الحكومة أنه يقوم بممارسات ذات طابع احتكاري تسبب ضررا للمنتجين الآخرين والمستهلكين، أو على حد تعبير وزير المالية فإن العبرة بالسلوك أما الممارسات الاحتكارية غير الضارة فلا غبار عليها. وقد أشار وزير المالية إلى استثناء قطاعي النقل والاتصالات من النصوص المتعلقة بالاحتكار، بدعوى أن هناك رقابة على هذين القطاعين!

أما عندما يتأكد تمتع أى منتج بوضع احتكارى، وتتأكد ممارسته لسلوكيات احتكارية ضارة، فإنه لا يجوز رفع الدعوى الجنائية أو اتخاذ أى إجراءات لمواجهة ذلك، إلا بطلب كتابي من الوزير المختص أو من  يفوضه، واللذين يجوز لهما التصالح في أي من تلك المخالفات قبل صدور حكم بشأنها. وكان القانون الأصلي الذي تم إقراره عام 2005 ينص على أن العقوبة التي تُوقَّع على المحتكرين في حالة الإحالة للقضاء بمعرفة الوزير المختص أو من يفوضه وثبوت التهمة بحقهم، تتمثل في الغرامة التى تتراوح بين 30 ألف جنيه كحد أدنى، وبين 10 ملايين جنيه كحد أقصى، كما يجوز الحكم بمصادرة السلع محل النشاط الاحتكاري المخالف، أو الغرامة بنفس قيمة هذه السلع. وفي حالة التصالح من قبل الوزير المختص أو من يفوضه قبل صدور الحكم، فإن ذلك يكون مقابل أداء مبلغ للجهاز لا يقل عن مثلي الحد الأدنى للغرامة ولا يجاوز مثلى حدها الأقصى.

والحقيقة أن هذا القانون الذى تأخر صدوره طويلا، قد جاء أقل كثيرا وأضعف من أن يحمى المنافسة أو يمنع الاحتكار، فقد اختص السلطة التنفيذية ممثلة في الوزير المختص أو من يفوضه في طلب رفع الدعوى الجنائية ضد المحتكرين الذين يقومون بممارسات ضارة، وبالتالى يصبح جهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار مجرد جهة تقصى وتحقيق تابعة للسلطة التنفيذية، وكان المفروض أن يكون هذا الجهاز أحد الهياكل المستقلة عن الحكومة والسلطة التنفيذية، حتى لا تقيده الاعتبارات السياسية عندما يتعلق الأمر بوجود قيادات من الحزب الحاكم ضمن من يتمتعون بوضع احتكاري ويقومون بممارسات احتكارية ضارة. وكان المفروض أن تكون تبعية هذا الجهاز للسلطة القضائية والسلطة التشريعية، ويكون لهم بالإضافة إلى المتضررين المباشرين من الاحتكار، الحق في تحريك دعاوى منع الاحتكار وحماية المنافسة قضائيا. أما قصر هذا الحق على الوزير المختص أو من يفوضه فهو يضيف المزيد من عوامل هيمنة السلطة التنفيذية، وتهميش السلطتين القضائية والتشريعية. كذلك فإن العقوبات مقتصرة على الغرامة أو مايعادلها أي مصادرة السلع، وكان لابد لها أن تأخذ نظم منع الاحتكار في الدول الرأسمالية الصناعية المتقدمة في اعتبارها، بما يتضمنه البعض منها، من إجبار للمحتكر على إنهاء وضعه الاحتكاري سواء من خلال تقسيم الشركة المحتكرة أو التخلي عن قسم من أسهمها، وليس مجرد دفع غرامة مالية والاحتفاظ بالوضع الاحتكارى.

والغريب أنه عندما تم تعديل هذا القانون في عام 2008، فإن التعديل زاد من ضعف القانون. صحيح أنه رفع الحد الأدنى للعقوبة إلى 100 ألف جنيه، ووصل الحد الأقصى إلى 300 مليون، لكنه ألغى أهم عقوبة في القانون الأصلي وهي مصادرة المادة محل المخالفة الاحتكارية، أو دفع غرامة بنفس قيمتها. كما نص على عدم إعفاء أي شخص شارك في اتفاق احتكاري من العقوبة عند إبلاغه عن هذا الاتفاق الاحتكاري، وهو نص فاسد كلية ويستهدف ردع أي محتكر ومنعه من الإبلاغ عن أي اتفاق احتكاري شارك فيه؛ وذلك لحماية التكتلات الاحتكارية، والحفاظ على تماسكها ووحدة المصير بين أعضائها لمنع عودة الوعي الضميري لأي منهم. والواقع أن الأرباح الاستثنائية الاستغلالية للمحتكرين تبلغ أضعاف قيمة الغرامة في صناعتي الأسمنت والحديد على الأقل، وفي العديد من السلع المستوردة التي يحتكر استيرادها شخص واحد أو مجموعة من المستوردين الذين ينسقون فيما بينهم بصورة احتكارية ضارة بالمستهلكين. وفي صناعة الأسمنت على سبيل المثال تتراوح تكلفة الطن بعد زيادة رسوم استغلال المحاجر، بين 180، 210 جنيهات؛ مما يعني أن بيع الطن بسعر 550 جنيها يحقق ربحا للمنتجين يزيد عن 160%، منها نسبة 20% يمكن اعتبارها أرباحا مقبولة، والباقي أرباحا احتكارية.

والنتيجة التي أفضى إليها هذا القانون الهزيل، هي استمرار الاحتكارات الإنتاجية والتجارية التي ترفع أسعار السلع والخدمات وفقا لآليات احتكارية تعتصر المستهلكين في غياب أي رقابة أو ردع حكوميين، وبلا منطق اقتصادي يربط الأسعار بتكلفة الإنتاج. وهذه الأسعار الاحتكارية تحولت لآلية مهمة للإفقار في مصر، ولسحق الفقراء وقطاع كبير من الطبقة الوسطى ممن يعملون بأجر، لأنه كلما ارتفعت مرتبات العاملين تقوم الاحتكارات الإنتاجية والتجارية برفع الأسعار حتى بالنسبة للسلع المستوردة التي لم ترتفع أسعارها في الأسواق الدولية والتي يمكن استيراد أي كميات منها لسد أية زيادة في الاستهلاك دون رفع الأسعار.

سياسات التشغيل والأجور والخصخصة وانتشار البطالة والفقر

أدت التحولات في سياسة التشغيل في مصر لدى تحولها لاتباع نظام الاقتصاد الحر في عصر مبارك إلى ارتفاع معدل البطالة بصورة هائلة وبالذات بين خريجي النظام التعليمي العالي الذين يشكلون قلب الطبقة الوسطى تقليديا، بما يعنيه ذلك من إفقاد جانب كبير من هذه الطبقة للقدرة على كسب العيش بكرامة؛ حيث تخلت مصر عن الالتزام بتعيين خريجي النظام التعليمي عام 1984، ولم تخلق البيئة الاقتصادية المناسبة لخلق الوظائف الكافية للراغبين في العمل في القطاع الخاص الصغير والمتوسط والتعاوني والكبير، واعتمدت على وجود أسواق عمل عربية وأجنبية تستوعب أعداد ضخمة من قوة العمل المصرية وتحل مشكلة البطالة وعلى رأسها السوق العراقية أثناء الحرب العراقية-الإيرانية وأسواق دول الخليج العربي.

"
الدولة تخلت عن ضمان التشغيل، وفشلت في تنشيط الاقتصاد وإيجاد الوظائف، إلا أنها لم تتجه إلى إقرار نظام لإعانة العاطلين؛ حيث تدعي الحكومة دائما أنه ليست لديها موارد لتقديم إعانات للعاطلين، وهو ادعاء مصدره التحيز الأيديولوجي؛ لأن هذه الحكومة نفسها تقدم 67.7 مليار جنيه كدعم للمواد البترولية تذهب غالبيته للرأسمالية الكبيرة، وأربعة مليارات جنيه كدعم للصادرات تذهب لها أيضا
"

لكن تلك السياسة واجهت صدمات عدة أدت إلى انفجار أزمة البطالة في مصر؛ ففي شتاء عام 1986 انهارت أسعار النفط إلى ما دون العشرة دولارات للبرميل، وترتب على ذلك تراجع هائل في الناتج والإنفاق العام في بلدان الخليج، وانخفاض في الطلب على خدمات العمالة الأجنبية والعربية وضمنها العمالة المصرية؛ مما رفع معدل البطالة في ذلك العام إلى 14.6%. ومع توقف الحرب العراقية-الإيرانية وعودة عدد كبير من الجنود العراقيين من الجبهة، حدث انخفاض في أعداد المصريين العاملين بالعراق، وجاءت حرب الخليج الثانية 1990/1991 وما تلاها من وضع اقتصادي مأساوي في العراق لتخفض أعداد المصريين العاملين في العراق لمستويات متدنية؛ فتفاقمت مشكلة البطالة في مصر، خاصة وأن الحكومة المصرية كانت قد بدأت تطبق برنامج "الإصلاح" الاقتصادي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وكان في الفترة الأولى منه برنامجا انكماشيا يستهدف السيطرة على معدل التضخم المرتفع وعلى العجز في الموازين الداخلية والخارجية، مع القبول بمعدل نمو منخفض ومعدل بطالة مرتفع نسبيا.

ومع استمرار هذا البرنامج والبدء في برنامج الخصخصة أي بيع القطاع العام للقطاع الخاص المحلي والأجنبي، وإحالة جانب كبير من العاملين فيه إلى المعاش المبكر وهم في سن العمل مما حوَّلهم إلى عاطلين، تزايدت معدلات البطالة، وبدأت الحكومة في تقديم بيانات مضطربة ومتناقضة أحيانا بشأن البطالة، لتغطية التزايد المُنذر بالأخطار الاجتماعية-السياسية لظاهرة البطالة، خاصة وأن الفساد المروع الذي انطوت عليه عمليات الخصخصة والذي قلَّل من الحصيلة التي تحصل عليها الدولة مقابل بيع أصولها العامة، فضلا عن استخدام تلك الحصيلة في تمويل إنفاق جارٍ بدلا من بناء أصول إنتاجية جديدة، قد أسهم في إضعاف فعالية الاقتصاد المصري في خلق فرص العمل، وأدى إلى زيادة معدل البطالة.

وتعد البطالة سببا رئيسيا لانتشار الفقر في أي مجتمع؛ حيث تُعتبر البطالة وما تعنيه من حرمان القادرين على العمل والراغبين فيه -عند مستويات الأجر السائدة، أيا كانت مستوياتهم التعليمية- من كسب عيشهم بكرامة... تعد من أهم آليات التهميش الاقتصادي والإفِقار؛ لأنها تؤدي إلى دفع هؤلاء العاطلين إلى هوة الفقر واستنزاف المدخرات أو الميراث في حالة وجودهما والتحول في النهاية في كل الأحوال إلى فقراء. كما تحولهم إلى عالة على أسرهم مما يخفض متوسط نصيب الفرد في تلك الأسر من الدخل وينزلق بها إلى منحدر الفقر.

وهناك اضطراب حقيقي في بيانات البطالة. وعلى سبيل المثال فإن النشرة الإحصائية الشهرية للبنك المركزي (أبريل 2010، صـ 117)، تشير إلى أن إجمالي عدد المشتغلين فعليًّا عام 2008، بلغ 22.5 مليون شخص، وتوضح توزيعهم التفصيلي بين قطاع الأعمال العام (1 مليون)، والحكومي (5.3 مليون)، والخاص (16 مليون)، ليصبح المجموع 22.3 مليون شخص فقط، أي أقل بنحو 200 ألف عن الرقم المعلن أولاً كعدد للمشتغلين في نفس الصفحة من نشرة البنك المركزي. ولو خصمنا عدد المشتغلين فعليا (22.3 مليون شخص) من تعداد قوة العمل وفقا للبيانات الرسمية في نفس المصدر (24.7 مليون شخص)، فإن عدد العاطلين يصبح 2.4 مليون عاطل، وليس 2.14 مليون عاطل كما هو منشور في المصدر نفسه، ربما بسبب خطأ حسابي ساذج بافتراض حسن النية، ويصبح معدل البطالة 9.7% من قوة العمل عام 2008، وليس 8.7% كما هو منشور في نفس المصدر، علما بأن بيانات المشتغلين تتضمن أكثر من 4.5 مليون عمال المياومة (من يتقاضون أجرهم يوما بيوم) والعمالة الموسمية الذين لا يمكن احتسابهم كعمالة دائمة!

ويمكن الاستدلال على تضارب البيانات من واقع البيانات المنشورة عن تعداد قوة العمل المصرية في تقرير مؤشرات التنمية في العالم 2010 (World Development Indicators 2010) الصادر عن البنك الدولي؛ حيث يشير التقرير (صـ 66)، إلى أن تعداد قوة العمل المصرية 26.3 مليون شخص عام 2008، وهو بيان مأخوذ من الحكومة المصرية مباشرة أو بعد مراجعة البيان المقدم منها بالاتفاق معها. ولو خصمنا من هذا الرقم، عدد المشتغلين فعليا، أي 22.3 مليون، فإن عدد العاطلين يصبح 4 ملايين شخص، ويصبح معدل البطالة 15.2% من قوة العمل وفقا لتعدادها المنشور في تقرير البنك الدولي المشار إليه. وللعلم فإن البيان المنشور عن قوة العمل المصرية في عدد سابق من تقرير البنك الدولي المذكور آنفا (عام 2004)، كان قد أشار (صـ42)، إلى أن تعداد قوة العمل المصرية قد بلغ 25.9 مليون شخص عام 2002. ولو أخذنا بصافي الداخلين الجدد لسوق العمل والبالغ نحو 800 ألف سنويا خلال الفترة من عام 2002، حتى عام 2010، فإن تعداد قوة العمل المصرية في الواقع يصبح نحو 30.7 مليون عام 2008. وهذا يعني أن عدد العاطلين في عام 2008، بلغ نحو 8.4 مليون عاطل، وأن معدل البطالة قد بلغ نحو 27.4% من قوة العمل في العام المذكور.

ويعد ارتفاع معدل البطالة في مصر، تجسيدا لضعف معدل الاستثمار في مصر، بالنظر إلى أن الاستثمارات الجديدة والتوسعات في الاستثمارات القائمة، هي العامل الرئيسي في تحديد حركة التشغيل ومستوى البطالة في أي اقتصاد. وقد بلغ معدل الاستثمار في مصر نحو 18.7%، 20.9%، 22.4%، 19.3% في الأعوام المالية 2005/2006، 2006/2007، 2007/2008، 2008/2009 بالترتيب، ونحو 16.9% في النصف الأول من العام المالي 2009/ 2010[5]، علما بأن المعدل المناظر يبلغ نحو 30% في مجموع الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، ويبلغ نحو 40% في دول شرق آسيا والمحيط الهاديء، ويبلغ 44% في الصين[6]، وهي البلدان التي لديها إرادة تحقيق نمو قوي حقيقي.

وعلى أية حال فإن أي بلد يرغب في حل أية أزمة أو مشكلة كبيرة مثل البطالة التي تعاني منها مصر، لابد أن يبدأ بتقديم بيانات حقيقية وصحيحة حتى يمكن حشد المجتمع والدولة لحل الأزمة، لأن تقديم بيانات غير دقيقة لا يفيد في شيء، بل على العكس يؤدي إلى نوع من الاسترخاء والترهل في مواجهتها.

ويعد التهميش الاقتصادي من خلال البطالة، آلية رئيسية للإفقار، ليس للفقراء بالمعنى الكلاسيكي مثل العمال الصناعيين والزراعيين الأجراء وصغار المزارعين فقط وإنما لشرائح مهمة من الطبقة الوسطى أيضا من خريجي النظام التعليمي ومن المثقفين؛ لأنها تعني ببساطة حرمانهم من كسب العيش بكرامة من خلال عملهم؛ بما يترتب على ذلك من دفع هؤلاء العاطلين إلى هوة الفقر والاعتماد على الغير واستنزاف المدخرات أو الميراث في حالة وجودهما.

وربما تكون إعادة هيكلة الإنفاق العام وتوظيفه بصورة تساعد على خلق فرص عمل جديدة ودائمة في الصناعة والزراعة والخدمات الحقيقية، هي عملية ضرورية لإيقاف التزايد المنذر بالخطر في معدل البطالة. كما أن تكوين حضانة قومية حقيقية للمشروعات الصغيرة، يمكن أن تساعد في هذا الاتجاه أيضا، لأن أبسط ما يحتاج إليه المواطن من حكومته هو أن يتمكن من كسب عيشه بكرامة من عمله وكده واجتهاده وهذه مسئولية الحكومة سواء من خلال خلق وظائف عامة حقيقية في الصناعة والزراعة والخدمات، أو تهيئة البيئة الاقتصادية للأعمال وتقييد البيروقراطية المعوقة لها والتي تضيف بفسادها تكاليف إضافية غير مرئية مُعطلة لتلك الأعمال.  

ورغم أن الدولة تخلت عن ضمان التشغيل، وفشلت في تنشيط الاقتصاد وإيجاد الوظائف، إلا أنها لم تتجه إلى إقرار نظام لإعانة العاطلين؛ حيث تدعي الحكومة دائما أنه ليست لديها موارد لتقديم إعانات للعاطلين، وهو ادعاء مصدره التحيز الأيديولوجي؛ لأن هذه الحكومة نفسها تقدم 67.7 مليار جنيه كدعم للمواد البترولية تذهب غالبيته للرأسمالية الكبيرة، وأربعة مليارات جنيه كدعم للصادرات تذهب لها أيضا. وللعلم فإن الهند وهي دولة يبلغ متوسط نصيب الفرد فيها من الدخل أقل من نصف نظيره في مصر، أصبحت تقدم إعانات للعاطلين منذ عام 2006 بواقع أجر 100 يوم عمل لكل عاطل، والأمر لا يتعلق في مصر بغياب الموارد وإنما بترتيب الأولويات بصورة متحيزة أيديولوجيا تهتم بتدليل الرأسماليين الكبار من أصحاب النفوذ السياسي بالتحديد، قبل الوفاء بالاحتياجات الأساسية للمواطنين.

        توزيع الدخل، وسحق الفقراء والطبقة الوسطى

"
إهدار الموارد الطبيعية المملوكة للمواطنين بالتساوي (بالرأس) والتي يملك الفقراء والطبقة الوسطى الغالبية الساحقة من الحقوق فيها بحكم أنهم يشكلون أكثر من 95% من السكان، من خلال بيع الغاز الطبيعي لأسبانيا وللكيان الصهيوني بأقل كثيرا من الأسعار السائدة في الأسواق الدولية، يحرم الفقراء والطبقة الوسطى من إيرادات مستحقة عن هذه الموارد الطبيعية كان من الطبيعي أن تذهب لتحسين أحوالهم ومستويات الخدمات العامة التي تُقدم لهم
"

يتحدد توزيع الدخل الأولي في أي بلد بنظام الأجور، بينما تتم إعادة توزيع الدخل وتحسينه من خلال نظم الضرائب والدعم والتحويلات والخدمات العامة المجانية أو شبه المجانية. وقد ساء توزيع الدخل في مصر لدرجة جعلت غالبية المواطنين لا يشعرون بأية ثمار للنمو الاقتصادي الذي تشير بيانات الحكومة إلى تحقيقه، بغض النظر عن دقة هذه البيانات من عدمه، وذلك بسبب سوء نظام الأجور الذي يطلق يد أرباب العمل سواء كانوا رأسماليين من القطاع الخاص المحلي أو الأجنبي أو رأسمالية الدولة في تحديد أجور العاملين لديهم، في ظل حد أدنى هزلي للأجر الشهري يبلغ 118 جنيها فقط، وفي ظل عدم وجود سقف للأجور وما في حكمها في القطاع العام والهيئات الاقتصادية العامة والجهاز الحكومي، بما يجعل البعض من العاملين في الدولة يحصلون على دخول شاملة تبلغ مئات الآلاف من الجنيهات شهريا، وتوازي آلاف الأضعاف من الحد الأدنى للأجر.

وتشير أحدث البيانات الرسمية إلى أن متوسط الأجر الأسبوعي في القطاع الخاص بلغ نحو 214 جنيه أي نحو 11.13 ألف جنيه سنويا عام 2007[7]. ونظرا لأن عدد العاملين في القطاع الخاص في العام المذكور بلغ نحو 15.1 مليون شخص[8]؛ فإن إجمالي ما حصلوا عليه بلغ 168 مليار جنيه. وفي القطاع العام والحكومة بلغ متوسط الأجر الأسبوعي 308 جنيه[9]، بواقع 16.02 ألف جنيه سنويا. ونظرا لأن عدد العاملين في الحكومة والقطاع العام بلغ 6.4 مليون شخص وفقا لبيانات النشرة الإحصائية للبنك المركزي (أبريل 2010، صـ 118)، فإن إجمالي ما حصلوا عليه بلغ 102.5 مليار جنيه. وبهذا يكون إجمالي ما حصل عليه أصحاب حقوق العمل (أي من يكسبون رزقهم من عملهم وأجورهم)، قد بلغ نحو 270.5 مليار جنيه. ونظرا لأن الناتج المحلي الإجمالي بلغ نحو 895.5 مليار جنيه عام 2007/2008،[10] فإن حصة أصحاب حقوق العمل منه تبلغ نحو 30.2% فقط، مقابل نحو 69.8% لأصحاب حقوق الملكية، علما بأن حصة أصحاب حقوق العمل من الناتج المحلي الإجمالي كانت تبلغ 48.5% في عام 1989، وكانت حصة أصحاب حقوق الملكية تبلغ 51.5% في ذلك العام. وهذا التدهور في حصة أصحاب حقوق العمل الذين يصنعون الحياة بعملهم وكدهم، يعكس تزايد سوء توزيع الدخل الذي يؤدي لزيادة الفقراء فقرًا والأثرياء ثراءً. والتغيير يتأتى من وضع نظام عادل للأجور ورفع الحد الأدنى للأجر حتى يشعر الناس بحدوث أي نمو اقتصادي، مع ضبط صارم للأسعار حتى من خلال آليات السوق، بدلا من الارتفاع المنفلت والذي لا مبرر له والذي جعل مصر تحقق واحدا من أسوأ معدلات التضخم (12%) في المنطقة والعالم  في وقت يعتبر فيه معدل التضخم في الدول النامية (6.2%) والغنية (1.5%)، شديد التدني حاليا.

الدعم والتحويلات مخصصات محدودة وموجهة للطبقة العليا بالأساس

عندما يتم تقديم مشروع الموازنة العامة للدولة في كل عام، تبدأ الحكومة في الحديث عن ضخامة مخصصات الدعم والتحويلات الاجتماعية، وكأنها تمن على الفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، رغم أن تلك المخصصات لا تشكل سوى جزء صغير من حقوقهم في إيرادات الموارد الطبيعية والمشروعات العامة القديمة في بلادهم، بافتراض أن الدعم والتحويلات تذهب إليهم وهو أمر غير صحيح في الواقع. كما أن مصر من أقل بلدان العالم تقديما للدعم والتحويلات أصلاً؛ حيث بلغ إجمالي مخصصات الدعم والتحويلات في الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2010/2011، نحو 115.92 مليار جنيه، توازي نحو 8.4% من الناتج المحلي الإجمالي المقدر للعام المالي المذكور والبالغ نحو 1378 مليار جنيه. وإذا نظرنا لجدول 2، سنجد أن مصر من أقل بلدان العالم في الإنفاق على الدعم والتحويلات كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. 

404

405

لكن الأهم من تدني الإنفاق على الدعم والتحويلات، هو هيكل هذا الإنفاق الذي يوضح أن الغالبية الساحقة منه تُخصص عمدا للطبقة الرأسمالية الكبيرة وليس للفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى كما هو مفترض.

ويشير البيان المالي الصادر عن وزارة المالية، عن مشروع الموازنة العامة للدولة للسنة المالية 2010/2011، إلى أن دعم المنتجات البترولية سيرتفع إلى 67.7 مليار جنيه، مقارنة بنحو 57.1 مليار جنيه عام 2009/2010، وإذا أضفنا دعم الكهرباء وقدره 6.3 مليار جنيه إلى هذه المخصصات، فإن إجمالي مخصصات دعم الطاقة يصل إلى نحو 74 مليار جنيه في موازنة 2010/2011. وهذا الدعم الكبير لمواد الطاقة يذهب في معظمه إلى الرأسمالية الكبيرة من مالكي شركات الحديد والأسمنت والأسمدة والألومنيوم وكل الشركات المستهلكة للطاقة بكثافة، إضافة إلى المعدات والآلات ووسائل النقل والمخابز. وكان من الممكن قبول مثل هذا الدعم، لو كانت تلك الشركات تبيع إنتاجها بأسعار منخفضة تتناسب مع ما تتلقاه من دعم ومع مستويات الأجور والدخول في مصر، لكنها تبيع إنتاجها بالأسعار العالمية وتزيد عليها كثيرا كما يحدث بالنسبة للأسمنت الذي يمتلك الأجانب الغالبية الساحقة من شركاته التي اشتروها من القطاع العام في إطار برنامج الخصخصة في صفقات لم تكن فوق مستوى الشبهات، وكما يحدث أيضا بالنسبة للحديد والأسمدة. وبما أن تلك الشركات تحقق أرباحًا استثنائية من دم هذا الشعب تشهد عليها ميزانيات غالبيتها (كنماذج على ذلك، بلغ صافي ربح شركة سيدي كرير للبتروكيماويات "سيديك"، عن الفترة من يناير إلى يونيه 2009 نحو 592.5 مليون جنيه، توازي 56.4% من رأس المال المصدر والمدفوع، ونحو 37.6% من إجمالي حقوق المساهمين[11]. وبلغ صافي الربح لشركة السويس للأسمنت عام 2008، نحو 1040.9 مليون جنيه، توازي نحو 114.5% من رأس المال المصدر والمدفوع للشركة[12]). وليس من المنطقي أن يقدم الشعب المصري لتلك الشركات، طاقة مدعومة من موارده الطبيعية (النفط والغاز) ومن مشروعاته العملاقة المنتجة للطاقة التي أقامها في عهود وفترات سابقة مثل المحطة الكهرومائية لسد مصر العالي، أو محطات الكهرباء التي تعمل بالنفط والغاز، ثم تقوم هي باستغلاله ببيع منتجاتها بأسعار بالغة الارتفاع لا علاقة لها بتكلفة الإنتاج، لتحقيق أرباح احتكارية استغلالية.

وفي الوقت الذي ارتفعت فيه مخصصات دعم المواد البترولية الموجهة في غالبيتها للرأسمالية الكبيرة والشرائح العليا من الطبقة الوسطى، تراجعت مخصصات دعم السلع التموينية الموجهة للفقراء وغالبية الطبقة الوسطى من 21.1 مليار جنيه في ميزانية عام 2008/2009، إلى 14.1 مليار جنيه عام 2009/2010، إلى 13.6 مليار جنيه في مشروع موازنة عام 2010/2011.

وبالمقابل استمر دعم الصادرات الذي يُقدم لكبار المصدرين عند مستوى 4 مليارات جنيه في موازنة 2010/2011، رغم كل الانتقادات التي وُجهت إليه من عدم وجود قواعد واضحة له ومن أن حفنة من المصدرين أصحاب النفوذ السياسي وبعض الرأسماليين المتعاونين مع نظرائهم الإسرائيليين في مناطق الكويز، هم من يحصلون عليه. وبالمقابل بلغت قيمة دعم تنمية الصعيد نحو 200 مليون جنيه، ودعم إسكان محدودي الدخل مليار جنيه، ودعم الأدوية والتأمين الصحي نحو 421 مليون جنيه، ودعم المزارعين والحاصلات الزراعية نحو 2.2 مليار جنيه، وتحصل الرأسمالية الزراعية على قسم كبير منه. أي أن الدعم الذي تحصل عليه حفنة من المصدرين النافذين سياسيا تزيد عن دعم الفلاحين والأدوية والتأمين الصحي وإسكان محدودى الدخل وتنمية الصعيد، وهو نوع من التعدي الفظ على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفقراء والطبقة الوسطى لصالح الطبقة الرأسمالية الكبيرة، وهو ما يجعل الحكومة تُسخِّر الإنفاق العام لزيادة الأثرياء ثراءً، وزيادة الفقراء فقرًا.

كذلك فإن حرمان البشر من الخدمات الصحية المجانية حيث يبلغ الإنفاق العام على الصحة 1.4% من الناتج المحلي الإجمالي المصري مقارنة بنحو 5.8% في المتوسط العالمي، وحرمانهم أيضا من الخدمات التعليمية المجانية في ظل إنفاق عام متدنٍّ يبلغ 3.4% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنحو 4.65% في المتوسط العالمي ونحو 5.2% في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، هو في النهاية نوع من الحرمان من التأهيل التعليمي والصحي للفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، يحرمهم من الكثير من الفرص في العمل والمشاركة في النشاط الاقتصادي، وكسب العيش بصورة كريمة، ويدفع بهم إلى هوة الحرمان والتهميش الاقتصادي والفقر.

"
انتشار الفساد في الخصخصة وفي ترسية عقود المشتريات وتنفيذ الأعمال العامة والذي يؤدي إلى تحويل أموال عامة إلى أموال وشركات خاصة بصورة غير مشروعة، يسهم بصورة كبيرة في توليد الفقر
"

كذلك فإن انتشار الفساد الكبير في الخصخصة وفي ترسية عقود المشتريات وتنفيذ الأعمال العامة والذي يؤدي إلى تحويل أموال عامة إلى أموال وشركات خاصة بصورة غير مشروعة، يسهم بصورة كبيرة في توليد الفقر؛ لأن هذه الأموال العامة كان من المفترض أن تذهب للفقراء والطبقة الوسطى باعتبارهم الغالبية الساحقة من أبناء الأمة، وبالتالي فإن حصول حفنة من الفاسدين عليها يحرم هؤلاء الفقراء والطبقة الوسطى من الحصول على هذه الأموال في صورة أرباح موزعة في الشركات والهيئات العامة أو في صورة خدمات وتحويلات لو ذهبت هذه الأموال إلى إيرادات الموازنة العامة للدولة وتم إنفاقها على تلك الخدمات والتحويلات.

كما أن إهدار الموارد الطبيعية المملوكة للمواطنين بالتساوي (بالرأس) والتي يملك الفقراء والطبقة الوسطى الغالبية الساحقة من الحقوق فيها بحكم أنهم يشكلون أكثر من 95% من السكان، من خلال بيع الغاز الطبيعي لأسبانيا وللكيان الصهيوني بأقل كثيرا من الأسعار السائدة في الأسواق الدولية، يحرم الفقراء والطبقة الوسطى من إيرادات مستحقة عن هذه الموارد الطبيعية كان من الطبيعي أن تذهب لتحسين أحوالهم ومستويات الخدمات العامة التي تُقدم لهم، فضلا عن أن تصدير الغاز الطبيعي للكيان الصهيوني الذي نشأ بالاغتصاب ويستمر بالعدوان هو أمر مُشين في كل الأحوال.  

وإذا كان منع توليد الفقر، يتوقف بصورة كاملة على إحداث تغيير جوهري وكامل أحيانا في طبيعة النظام الاقتصادي–الاجتماعي-السياسي الذي ينتجه لتأسيس نظام قائم على أولويات التنمية المستقلة المستندة إلى معدلات ادخار واستثمار محلية مرتفعة، والتنمية البشرية من خلال خدمات تعليمية وصحية مجانية متاحة لجميع أبناء الأمة، ويضع في مقدمة أهدافه تحقيق التشغيل الكامل وتقليص الفوارق بين الطبقات من خلال توزيع الدخل بصورة عادلة... إذا كان منع توليد الفقر مرتبطا ببناء مثل هذا النظام، فإن مكافحة الفقر وتخفيف وطأته هي أمور ممكنة تماما حتى في إطار النظم الاقتصادية-الاجتماعية التي يكون الفقر منتَجا رئيسيا لها، وذلك إذا اتبعت تلك النظم سياسات فعالة لتحقيق نمو اقتصادي قوي من خلال حفز الادخار والاستثمار ومكافحة الفساد وحشد طاقات الدولة والمجتمع جنبا إلى جنب في هذا الصدد، وتطوير السياسات المصرفية لتتلاءم مع تحقيق هذه الأهداف. وأيضا إذا اتبعت تلك النظم سياسات عالية الفعالية لضمان توزيع معتدل للدخل من خلال ضمان حد أدنى للأجور يكفل حياة كريمة للمشتغلين وأسرهم، ووضع نظام لكفالة العاطلين وكبار السن والمعاقين، وتوفير الخدمات العامة الصحية والتعليمية بالذات بصورة مجانية أو شبه مجانية، وذلك من خلال سياسات فعالة لإعادة توزيع الدخل عبر الموازنة العامة للدولة، وتوفير فرص العمل في القطاعين العام والخاص لكل المؤهلين والقادرين والراغبين في العمل لتمكين البشر من كسب عيشهم بكرامة، وتفادي الانزلاق إلى هوة الفقر.

__________________

رئيس الوحدة الاقتصادية بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، ورئيس تحرير التقرير السنوي للمركز: "الاتجاهات الاقتصادية الإستراتيجية".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى

موضوعات عشوائية

-

 


ADDS'(9)

ADDS'(3)

-

اخر الموضوعات

مدونة افتكاسات سينمائية .. قفشات افيهات لاشهر الافلام

مدونة افتكاسات للصور ... مجموعة هائلة من اجمل الصور فى جميع المجالات

مدونة افتكاسات خواطر مرسومة.. اقتباسات لاهم الشعراء فى الوطن العربى والعالم

مدونة لوحات زيتية ..لاشهر اللوحات الزيتية لاشهر رسامى العالم مجموعة هائلة من اللوحات

من نحن

author ‏مدونة اخبارية تهتم بالتوثيق لثورة 25 يناير.الحقيقة.مازلت اسعى لنقلها كاملة بلا نقصان .اخطئ لكنى منحاز لها .لايعنينى سلفى ولا مسلم ولا اخوان يعنينى الانسان،
المزيد عني →

أنقر لمتابعتنا

تسوق من كمبيوتر شاك المعادى