آخر المواضيع

‏إظهار الرسائل ذات التسميات ثلاثون عاما. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات ثلاثون عاما. إظهار كافة الرسائل

24‏/09‏/2011

سبتمبر 24, 2011

ملف ثلاثون عاما من حكم مبارك

414

مركز الجزيرة للدراسات - قسم البحوث والدراسات

فاتحة

رفيق عبد السلام، رئيس قسم البحوث والدراسات

يقدم مركز الجزيرة للدراسات هذا الملف البحثي حول مصر، ليغطي حقولا بحثية متنوعة تتراوح بين الاجتماع والسياسة والثقافة والاقتصاد والعلاقات الخارجية، فيتيح للقارئ العربي عامة، والمصري خاصة، مادة متميزة تساعد على فهم ما يجري اليوم في عموم مصر من فوران ثوري في القاهرة وغيرها من المدن والقرى المصرية الأخرى.

إن عملية التغيير التي انطلقت شرارتها الأولى في الجناح الغربي للعالم العربي من تونس الصغيرة، تتحرك اليوم باتجاه المركز الأكبر في العالم العربي. ولا شك أن ما يجري في هذا القطر العربي الكبير لا بد أن يترك بصماته القادمة في عموم الرقعة العربية، وما هو أبعد من ذلك. فمصر تظل في قلب السياسة والإستراتيجيات الكبرى التي تتصارع على المنطقة، وكما أن جمود مصر وتراجع دورها قد أصاب عموم الجسم العربي بالشلل وفقدان الوزن، فكذلك سيكون لإطلاق عوامل التغيير في هذا البلد العربي الكبير ارتدادات واضحة في عموم الجسم العربي مشرقا ومغربا.

وقد أشرف على الملف الزميل الباحث محمد عبد العاطي، وشارك فيه نخبة من الباحثين والخبراء المصريين.

مقدمة

لماذا ثار ملايين المصريين في عموم المدن المصرية على نظام حكم الرئيس حسني مبارك؟ ولماذا تراكم كل هذا الغضب حتى انفجر يوم الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011؟

يحاول هذا الملف الإجابة عن هذا التساؤل من خلال القراءة المعمقة للسياسات التي اتبعها نظام حكم الرئيس مبارك (1981-2011) وانعكاس هذه السياسات على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي المصري وكذلك تداعياتها على قوة الدولة ودورها في المحيط الإقليمي والفضاء الدولي.

وكان مركز الجزيرة للدراسات قد توقع قبل أكثر من ستة أشهر أن "حدثا جللا ما" ينتظر مصر، وأن البلاد مقبلة على "تغيير"، فقرر آنذاك البدء في إعداد ملف بحثي خاص يقرأ الواقع المصري بعمق، ويتنبأ بمآلات الأمور، فاستكتب لهذا الغرض 20 باحثا من أبرز الخبراء المصريين في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبعد الانتهاء من هذه الدراسات وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2010 نشر المركز سبعا فقط منها، ووعد القراء بنشر البقية عقب صدور الملف في كتاب، لكن نظرا لتطورات الأحداث في مصر حاليا فإن المركز ينشر كل دراسات الملف تباعا حتى تعظم الفائدة.

وقبل نحو شهرين من اندلاع هذه الثورة الشعبية وفي معرض تقديم الخلاصة التي توصلت إليها دراسات الملف كُتب آنذاك أن الأمور في مصر وصلت إلى درجة باتت معها الحاجة ماسة إلى "تغيير جذري وشامل في بنية نظام الحكم"، وأنه لم يعد مجديا حل المشكلات الخطيرة التي تعصف بمصر، الدولة والمجتمع، بمنهج "الترقيع"، وأن نظام حكم الرئيس مبارك، سواء بقي هو في السلطة أو خلفه أحد من داخل النظام، سوف يشهد "عدم استقرار"، نظرا لعدم قدرة المجتمع على تحمل تداعيات العلاقة الشوهاء بين الثالوث الذي ميز نظام الرئيس حسني مبارك والمتمثل في (الأمن والسلطة والثروة)، مع الاستمرار بإقصاء كل القوى والتيارات السياسية الأخرى. وقد جاءت المظاهرات المليونية التي تشهدها مصر حاليا وتطالب بإسقاط النظام مؤيدة لهذه النتيجة.

image
image
image
image
image
image
image
image
image
 
سبتمبر 24, 2011

مستقبل نظام الحكم في مصر: عدم استقرار مرشح للتصعيد

413

مستقبل نظام الحكم في مصر بعد مبارك يمثل هاجسا للمصريين (رويترز-أرشيف)

معتز بالله عبد الفتاح

مستقبل السياسة والحكم في مصر يتوقف على تفاعل أكثر من عامل وقرارات أكثر من فاعل سياسي. وتسعى هذه الدراسة لإعادة رسم المشهد السياسي في مصر للبحث في مسارات وسيناريوهات متعددة: هل ستكون مصر نموذجا آخر لثورة شعبية على النمط الأوكراني أو الجورجي حيث مقومات الغضب وتفكك الدولة تجعل الكثيرين يشبهون مصر في 2010 بأحوال هذين المجتمعين في 2003 و2004 ؟ أم أن مصر تسير نحو نمط التسلطية التنافسية كما هو الحال في الانتقال الهادئ للسلطة في روسيا من يلتسين إلى الشخص الذي اختاره لكي يخلفه وهو بوتين ثم من بوتين إلى الشخص الذي اختاره وهو ميدفيدف؟ عناصر التشابه بين مصر وروسيا تبدو واضحة بنيويا وثقافيا؛ حيث المعارضة المتعارضة وشعورها بالأمان في ظل تسلط الحزب الحاكم كبديل عن تسلطية دينية في ظل الإخوان في مصر أو العودة إلى الشيوعية في روسيا، فضلا عن ثقافة سياسية مترهلة وسلبية، والحقيقة أن هناك نمطا ليس بعيدا عن النمط الروسي وإن كان يحمل نفس دلالاته وهو انتقال السلطة من الأب إلى الابن على نمط انتقال السلطة من الأب عمر بونجو إلى ابنه علي بونجو الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع في 2009 في أعقاب انتخابات قاطعتها المعارضة وشككت في نزاهتها.

وهناك بديلان ديمقراطيان يقومان على نموذجي الإصلاح الديمقراطي التركي القائم على استبعاد القوى الدينية من الحياة السياسية بالتأكيد على علمانية/مدنية العمل السياسي أو السيناريو الإسباني وهو القائم على عدم استبعاد أي طيف سياسي من الحياة السياسية من خلال صفقة أو عقد اجتماعي جديد يلتزم فيه بقواعد ديمقراطية وفقا لمعايير دولية. وكي يتحقق أي من هذين السيناريوهين فلابد أولا من أن ينجح الجناح الإصلاحي (الضعيف) داخل الحزب الحاكم في خلق مساحة ينفصل فيها الحزب عن بيروقراطية الدولة المدنية والأمنية وأن يتخلى عن التفكير بعقلية أنه وريث الاتحاد الاشتراكي؛ والشرط الثاني أن ترتفع تكلفة بقاء الوضع الراهن على نحو يجبر الحزب الوطني على إدخال إصلاحات بنيوية (وليست فقط شكلية) على قواعد الحكم والسلطة في مصر. وهو ما يبدو بعيدا عن مصر في ظل حكم الرئيس مبارك، حيث التغيير الحقيقي يبدو في زيادة القبضة الأمنية على قوى المجتمع المدني والسياسي، أكثر منها محاولة لاستيعاب مطالب هذه القوى نحو أفق أكثر ديمقراطية.

المنهاجية والقوى السياسية الفاعلة في مصر
السيناريو الأول: انتقال السلطة داخل الحزب الحاكم على النمطين الروسي أو الجابوني
السيناريو الثاني: العصيان المدني الديمقراطي على النمط الأوكراني
السيناريو الثالث: التحول الديمقراطي على النمط التركي
السيناريو الرابع: قيادة النخبة الحاكمة للتحول الديمقراطي على النمط الأسباني

المنهاجية والقوى السياسية الفاعلة في مصر

"
العلاقة الطردية بين زيادة المطالب السياسية وبين عدم الاستقرار السياسي إذا لم تنجح مؤسسات الدولة المختلفة، تعني أن فترة حكم الرئيس مبارك ومن سيأتي بعده لن تكون مستقرة تماما وإنما ستزداد احتمالات عدم الاستقرار ولكنه عدم استقرار لا يصل لدرجة الثورة
"

وللتعرف على ملامح مستقبل مصر السياسي، سيكون من المفيد الاستعانة بمقولات "نظرية المباريات" وهي نظرية مستخدمة على نطاق واسع في علوم الاقتصاد والسياسة وتحليل الصراعات الدولية. وتفترض هذه النظرية أن كل فاعل سياسي يتصرف على أساس من الرشاد، أي أن أحدا لا يقدم تنازلات مجانية أو تبرعات بلا مقابل لأي فاعل آخر، وإنما يسعى الكل إلى تحقيق مصالحه وفقا لتعريفه لها.

ولتبسيط البيئة السياسية المصرية فإننا سنفترض أن هناك مباراة سياسية بين ثلاثة فاعلين أساسيين: الحزب الوطني، وتحالف ضيق للمعارضة المدنية (الأحزاب الثلاثة الكبرى ومعهم عدد من الأحزاب الأصغر)، وثالثا الإخوان المسلمين، ويقف في الخلف منهم لاعبون أقل فاعلية مثل قوى الاحتجاج الشعبي والتي يبدو أن حضورها الإعلامي أكبر من حجم تأثيرها الحقيقي سواء من وجهة نظر السواد الأعظم من المواطنين أو من وجهة نظر القوى السياسية الأخرى. وهذا يرجع بالأساس لعدم قدرتها على خلق أجندة بديلة تتخطى حدود رفض الوضع الراهن  تحت شعارات من قبيل "لا للتمديد ولا للتوريث" دون توضيح: نعم لمن؟ ولماذا؟ مع رؤية متكاملة لأجندة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية. بل إن تعدد قوى الاحتجاج الشعبي وتكرار تواجد بعض الشخصيات العامة في العديد منها (مثل حالة كفاية وأخواتها، والجمعية الوطنية للتغيير ومنافسيها) تؤكد على ضبابية رؤيتها وعدم قدرتها على بلورة رؤية متكاملة وذات دعم شعبي حقيقي. كما سترصد هذا الورقة الدور المهم الذي يمكن أن تلعبه قوى خارجية إقليمية ودولية مختلفة في التأثير على الفاعلين المحليين. 

ولنفترض، وفقا لنظرية المباريات، أن أمام كل لاعب من هؤلاء اللاعبين إحدى إستراتيجيتين: إما البراجماتية (بمعنى تطوير استجابات تتسق مع فكرة التنسيق وربما التحالف مع القوى الأخرى من أجل تحقيق مكاسب متبادلة بمنطق المكسب المعقول لكل طرف)، أو التعنت (أي رفض التنسيق والتحالف وعدم الاكتراث بمطالب الأطراف الأخرى بمنطق المكسب الأقصى). وعلى هذا الأساس، فإننا أمام معادلات أربع تفضي إلى سيناريوهات أربعة. وقبل توضيح ماهية هذه السيناريوهات يكون من المهم الإشارة إلى أن نظرية المباريات تساعد في ترشيد عملية صنع القرار من خلال  تحديد ماهية الإستراتيجية المثلى (dominant strategy) والتي تعني أفضل قرار يمكن أن يتخذه كل فاعل بغض النظر عن قرارات الفاعلين الآخرين.

ومن المفيد كذلك توضيح أن القدرة على معرفة المستقبل تكون محدودة مع تعدد الفاعلين المحتملين فضلا عن عدم قدرتهم هم أنفسهم على تحديد أولوياتهم أو الإعلان عنها بوضوح؛ ومن هنا لا يستطيع الباحث أن يتنبأ بأن الحدث (أ) سيحدث، وإنما ما نعلمه هو أن لو (أ) حدث؛ فإن سلسلة من الأحداث ستأتي في أعقابه. وهو ما يجعل معظم تحليلات باحثي العلوم الاجتماعية احتمالية أكثر منها حتمية.

ويكون من المهم كذلك التذكير بما يملكه كل طرف من عناصر قوة ومساومة تحدد ثقله في الحياة السياسية المصرية؛ فالحزب الوطني هو حزب الحكومة ببيروقراطيتها المدنية والأمنية التي تتدخل بأساليبها الناعمة والصلبة من أجل حماية أمن الدولة وأمن النظام وقدرتهما على الاستمرار. والإخوان هم الأكثر تنظيما وقدرة على الحشد والتعبئة، ويكفي أن نشير إلى أنهم من بين 150 عضوا تقدموا بهم كمرشحين في انتخابات مجلس الشعب 2005 نجح منهم 88 بنسبة 59%، هذا مع استبعاد ما قاله السيد رئيس الوزراء من أنه لولا تدخل الأمن في المرحلة الثالثة لكانوا حصلوا على 40 مقعدا أخرى. أي أن الإخوان لو قرروا التعبئة الشاملة في انتخابات 2010 ونزلوا بـمرشحين في كل الدوائر فمن المرجح أنهم سيحصلون على الأغلبية، مع حياد عاملي الأمن والتزوير. وهذه الأغلبية ستأتي من مصدرين: أحدهما أنصار الإخوان والمتعاطفين معهم من ناحية والتصويت الاحتجاجي ضد سياسات الحزب الحاكم من ناحية أخرى. 

أما المعارضة المدنية، رغما عن تواضع تمثيلها في مجلس الشعب المنقضي (إجمالا 12 عضو فقط) فهي أشبه بالطرف الذي يجرى حوله الصراع بين القوتين السابقتين، فلو نجح الإخوان في التحالف مع هذه المعارضة، أو على الأقل مع الفصيل الأكبر منها، فإنهم بهذا يخلقون استقطابا من نوع جديد كبديل عن الاستقطاب الديني/العلماني الذي ساد في مرحلة ما بعد الثورة لنشهد استقطابا مختلفا على أساس جبهة ديمقراطية معارضة في مواجهة حزب حاكم مسيطر. ولو نجح الحزب الوطني في تجسير الفجوة مع أحزاب المعارضة المدنية، مع استبعاد الإخوان وغيرها من قوى الاحتجاج الشعبي، فإنه بهذا يخلط أوراق القوى المعارضة له بتقديم تنازلات مرحلية تخلق فجوة بين الأحزاب المعارضة المدنية وجماعة الإخوان المسلمين تحديدا من باب "فرِّق تسُد".

وسيكون الاختيار لهذه الأحزاب والقوى المدنية المعارضة إن كانت تريد أن تتعاون وتنسق مع الإخوان (بفرض رغبة هؤلاء في ذلك)، أو أن تتعاون وتنسق مع الحزب الوطني (بفرض رغبة الأخير في ذلك)، أو أن تتعنت تجاههما بما يفضي إلى استمرار الأوضاع وزيادة احتمال سيناريو التوريث على النمط الروسي.

وفيما يلي تفصيل ما سبق إجماله بتوضيح السيناريوهات الأربعة:
السيناريو الأول:

انتقال السلطة داخل الحزب الحاكم على النمطين الروسي أو الجابوني

هذا هو نمط انتقال السلطة على الطريقة الروسية أو الجابونية الموضحة في المقدمة. وتشير المؤشرات إلى أن هذا هو الاحتمال الأقرب؛ حيث تكون هذه نتيجة منطقية لاختيارات اللاعبين الحالية فضلا عن بقاء حالة السلبية السياسية عند القطاع الأوسع من المواطنين المصريين. فإذا استمرت تفضيلات الفاعلين السياسيين وفقا للمعادلة التالية: تعنت الحزب الوطني + تعنت الإخوان + تعنت الأحزاب المدنية؛ إذن فالرئيس القادم سيكون من داخل بنية المؤسسة الحاكمة. وهو ما سيؤدي إلى بقاء الأوضاع على ما هي عليه من سيطرة الحزب الحاكم على الحياة السياسية وتزايد احتمالات التوريث مع تعارض المعارضة. وهذا يجعل مصير مصر، سواء في ظل حكم الرئيس مبارك، و الأهم في مرحلة ما بعد الرئيس مبارك محكوما بمؤسسات لا تعير المعارضة اهتماما كبيرا. 

فهناك أولا المؤسسة العسكرية التي يشغل رئيس الجمهورية منصب قائدها الأعلى والتي بالقطع سيجتمع مجلسها الأعلى  بمن يتضمنهم من قادة المناطق والأفرع الرئيسية والذين سيقرون الخطط المعدة سلفا من أجل تأمين القاهرة، وتأمين الحدود، وتأمين مؤسسات الدولة الحيوية والتي يمكن أن تصل لحد حظر التجول لحين عودة الاستقرار، وضمان عدم عبث العابثين بمصالح الدولة، وهو ما قد يقتضي كذلك ألا تخرج أية مظاهرات سواء لكفاية أو المعارضة أو الإخوان من باب أن الاستقرار له أولوية مطلقة في مثل هذه الظروف. وقد يساعد على ذلك إعلان رئيس مجلس الشعب -والذي يصبح بحكم الدستور رئيس الجمهورية لمدة ستين يوما- حالة الطواريء إن كانت قد رُفِعت في مرحلة سابقة.

وبحكم أن شرعية يوليو وما بعدها تستند أساسا للدور الحيوي الذي تقوم به القوات المسلحة -ليس فقط في حفظ الأمن وسلامة التراب الوطني ولكن كذلك في تخريج رؤساء الجمهورية الأربعة- فإن الجدل سيثور حول ما إن كان دور القوات المسلحة سيقتصر على القبول بما ستفرزه المؤسسات المدنية من مجلس الشعب والحزب الوطني (بحكم كونه حزب الأغلبية الرسمية) أم أنها سيكون لها تفضيلاتها بشأن من يتولى حكم مصر؟ والأغلب أن بنية القيادات العليا للقوات المسلحة، لاسيما مع عدم بقاء قيادات كثيرة في موقعها لفترة طويلة من الزمن، سيقتصر على ممارسة حق الرفض أو الفيتو على بعض الأسماء المطروحة من الحزب الوطني والقبول ببعضها الآخر. وسيكون المعيار الأساسي في القبول أو الرفض هو الحفاظ على المكانة المتميزة للقوات المسلحة من حيث التدريب والتسليح والامتيازات حتى لو كان رئيس الدولة مدنيا شرط أن يكون ذا حس عسكري عالٍ. وهذا مفهوم في ضوء أن معظم قيادات القوات المسلحة لا تظل في مواقعها إلا لفترات محدودة لا تكفي لأن تنمو شعبية أي منهم بالقدر الذي يجعله مفضلا من قبل قطاع واسع من أبناء القوات المسلحة.

وهناك ثانيا الحزب الوطني والذي سيسعى لأن يطرح بديلا لمن يشغل المنصب الخالي، وبحكم تطورات ما بعد عام 2002 سيكون الاسم الأكثر ترددا هو اسم "جمال مبارك"، والذي سيجد نفسه "مضطرا" لقبول المنصب بحكم "المسئولية التاريخية" و"مقتضيات المرحلة" و"نداء الشعب"، ومقولات "التكليف لا التشريف" التي عادة ما يروَّج لها في مثل هذه الظروف.

وفي هذا المقام سيكون على الحزب أن يحصل على موافقة المؤسسة العسكرية والتي غالبا ما ستقبل بهذا البديل بحكم عدم وجود اسم عسكري بديل يحظى بالقبول المدني والعسكري في آن واحد. وحتى إن ظهر هذا الاسم، فإنه من الممكن أن يُدفَع به في منصب نائب لرئيس الجمهورية دون أن يكون الرئيس مباشرة بحكم الحاجة لوجود رئيس مدني "منتخب" يعطي إشارات خارجية واضحة بأن الإصلاح السياسي قد أفضى إلى تغير في نوعية القيادة السياسية.
وهناك ثالثا السفارة الأميركية بالقاهرة. وهي تمثل دور المتغير الخارجي في التفاعلات الداخلية؛ فما من شك في أن الولايات المتحدة ستكون أكثر اهتماما بمن يحتل موقع الرئاسة بحكم مصالحها المباشرة وكذلك بحكم مخاوف إسرائيل على أمن حدودها الجنوبية. وكما قيل مرارا فإن العلاقات العربية مع أي من دول العالم هي علاقات ثنائية إلا مع الولايات المتحدة فهي علاقات ثلاثية بحكم وجود الطرف الإسرائيلي فيها. ولا يبدو أن الكثير من القرارات الكبرى في مصر تتم بمعزل عن "التشاور" مع الولايات المتحدة. وتكفي الإشارة إلى ما قاله أمين السياسات بالحزب الوطني في أثناء انعقاد المؤتمر السنوي الرابع للحزب في 2006 بأن الحزب يطرح للنقاش فكرة الاستفادة من كافة بدائل الطاقة بما فيها الطاقة النووية. وقد عقَّب السفير الأميركي في مصر بعد هذا التصريح بساعتين تقريبا، فيما يشبه التزامن، بأن الولايات المتحدة تدعم حق مصر في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية. وما أظن أبدا أن يكون تصريح أمين السياسات ثم في أعقابه خطاب الرئيس مبارك قد تم دون التنسيق المسبق مع السفير الأميركي حتى لا تفاجَأ مصر بحرج من قبيل تصريح المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأميركية بأن الولايات المتحدة ترفض إقدام مصر على هذه الخطوة لاسيما مع الأزمة المتصاعدة مع إيران. وهكذا لم يكن رد فعل السفير الأميركي السريع إلا كشفا عن موقف مسبق اتفقت عليه حكومتا الدولتين. 

وأغلب الظن أن الولايات المتحدة ستقبل بالاسم الذي سيطرحه الحزب الوطني طالما أنه يسير على خط الحزب من قبول بالتسوية مع إسرائيل، وعدم السعي لإنشاء تحالف مضاد للمصالح الغربية في المنطقة، والالتزام اللفظي بالديمقراطية والليبرالية ومقولات اقتصاد السوق، وأخيرا أن يستوفي الحزب إجراءاته الدستورية في انتخابات "نزيهة" بالمعايير المصرية. وأغلب الظن أن يكون الاسم الأكثر قبولا هو جمال مبارك أيضا.

السيناريو الثاني:

العصيان المدني الديمقراطي على النمط الأوكراني

"
تلعب المعارضة المصرية إجمالا لمصلحة الحزب الحاكم طالما هي تحافظ على تشرذمها وعدم جديتها في تكوين تحالف سياسي قوي يهدد المراكز الآمنة للحزب الحاكم
"

قد يؤدي تحالف القوى السياسية المختلفة حول أجندة وطنية ديمقراطية مضادة لتحالف الوضع الراهن المتمثل في الحزب الحاكم إلى نقلة نوعية في توجهات كتلة حرجة من المواطنين بحيث تتصاعد مطالب تغيير الوضع الراهن ديمقراطيا على النمطين الجورجي والأوكراني. ولكن نقطة البداية في هذا السيناريو تقتضي أن تتشكل تفضيلات الفاعلين على النحو التالي: 
تعنت الحزب الوطني + براجماتية الإخوان + براجماتية الأحزاب المدنية بما يؤدي إلى تحالف واسع من المعارضة ينتهي بكسر احتكار الحزب الوطني للهيمنة السياسية. بيد أن مثل هذا التحالف الواسع له صعوبات تكمن في أسباب نجاحه، إن نجح.

ومن المفيد توضيح أن بناء تحالفات معارضة أصبح واحدًا من أهم إستراتيجيات مواجهة الحزب المسيطر في كثير من دول العالم بغض النظر عن نصيبها من الديمقراطية؛ فخلال الفترة من يناير 2000 وحتى سبتمبر 2006 أجريت 478 انتخابات محلية وتشريعية ورئاسية في 163 دولة من دول العالم وفقا لموقع http://psephos.adam-carr.net، دخلت فيها المعارضة كتحالف واسع في حوالي 35% منها، وفازت بالأغلبية في 76 % من هذه الانتخابات التي دخلها المعارضون متحالفين، ودخلت المعارضة كتحالف ضيق في حوالي 45% من الحالات بنصيب فوز في حدود 41% من الانتخابات التي دخلوها متحالفين. والنسبة الباقية (20%) من الحالات دخلت أحزاب المعارضة دون تحالفات مسبقة فكان نصيبها من الفوز بالأغلبية في حدود 17% فقط من الانتخابات. أي أن التحالف "الضيق" يرفع فرص أحزاب المعارضة في الفوز بنسبة الضعف على الأقل مقارنة بدخولها الانتخابات منفردة (من 17% إلى 41%)، وبنفس المنطق فإن التحالف "الواسع" يرفع فرص الفوز في الانتخابات إلى ضعف فرص التحالف "الضيق" (من 41% إلى 76%). إذن، وبفرض أن هذه المؤشرات الرقمية دليل لنا في قابل أيامنا، فإن الدرس المستفاد لقادة المعارضة المصرية يكون: ولكم في التحالف حياة يا أولي الألباب.

بيد أن هذه الأرقام تكشف أيضا أن بناء التحالف الواسع أصعب لكن فرص نجاحه أكبر. وكأن الصعوبة الحقيقية هي في بناء التحالف أكثر مما هي صعوبة في الفوز في الانتخابات؛ فالفوز في الانتخابات -وفقا لهذا المنطق- ليس هدفا بعيد المنال، بل هو نتيجة منطقية للتحالف الواسع متى تحقق.

وهنا يكون السؤال: ما شروط بناء تحالف واسع للمعارضة بناء على تجارب الدول الأخرى؟ وهل من الممكن أن تبني المعارضة المصرية تحالفا واسعا يؤدي إلى إجهاض سيناريو التوريث في ظل المعارضة المتعارضة؟ ففي ظل سيناريو التوريث وقفت المعارضة موقف التعارض المفضي إلى العدم السياسي. ومن هنا فقد كانت القوى السياسية المحددة للتوريث من عدمه هي: الحزب الوطني، والمؤسسة العسكرية، والسفارة الأميركية كممثلة للمصالح الغربية على أرض مصر مع ثبات دور المعارضة.

إن شروط بناء هذا التحالف الواسع هي خمسة على الأقل:
1- شرط البراجماتية المحسوبة: فاختفاء التناقضات البينية لصالح التناقض الأكبر مع الحزب الحاكم هو جوهر بناء تحالف قوي لأحزاب المعارضة المصرية بما يفوِّت الفرصة على الحزب الحاكم لإحداث انقسام رأسي يشرخ التحالف. وهو ما يقتضي ابتداء أن يتفق الجميع على أنهم انتقلوا من مرحلة المعارضة الودودة للنظام إلى مرحلة الحكم؛ فما حدث تداول للسلطة في مالي -وهي بالمناسبة من الأمثلة القليلة للدول ذات الأغلبية المسلمة والتي تحظى بديمقراطية مستقرة- إلا بتحالف المعارضة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وآخرها ما عرف بـ "تحالف الأمل" في الانتخابات التشريعية عام 2002. بل إن هذه البراجماتية أدت في بعض الدول إلى التحول من التحالف نحو اندماج الأحزاب كما حدث في كوريا الجنوبية عام 1990 حين وجد الحزب الحاكم استحالة البقاء في السلطة دون الاندماج التام مع حزبين معارضين آخرين على برنامج اقتصادي مشترك وكوَّن ثلاثتهم الحزب الديمقراطي الليبرالي؛ مما دفع أحزاب المعارضة الرئيسية الثلاثة إلى خطوة مماثلة مما أنتج الحزب الديمقراطي في عام 1991. وهذه البراجماتية تبدو أسهل في حالة التحالفات الضيقة وشديدة الصعوبة في حالة التحالفات الواسعة.

ومن هنا لا بد أن تكون هذه البراجماتية محسوبة حتى لا تأتي على حساب تأمين قواعد الأنصار والمؤيدين أو حدوث انقسامات تؤدي إلى فقدان أي من هذه القوى لجانب كبير من مؤيديها على نحو يجعل من التحالف انتقاصا من القدرات الأصلية لكل قوة سياسية.

2- شرط التكيف والاستمرار: فالتحالف الناجح يتوقف على استمراره ومن ثم تكيفه مع معطيات الحياة السياسية سواء من النجاحات أو الإخفاقات لفترة زمنية طويلة نسبيا. فلا يكون كافيا أن يظهر التحالف في مرحلة ما قبل الانتخابات مباشرة ثم تنقض عراه وكأن شيئا لم يحدث؛ ففشل التحالف المعارض لابن رئيس توجو السابق في انتخابات أبريل 2006 يرجع ابتداء إلى عنصر المفاجأة في موت الرئيس السابق بما لم يتح للمعارضة أن تبني تحالفا له وجود مشفوع بالبقاء على الساحة لفترة زمنية كافية.

وهذا الشرط يبدو منطقيا في ضوء أن التحالف المعارض ينبني في مواجهة قوة أو حزب له بقاء مستقر لفترة طويلة نسبيا في السلطة، لاسيما أن الناخب يجد نفسه في صراع الاختيار بين الحزب الحاكم الموحد والمستقر، وإن كانت سياساته لا تحظى بالتوافق العام، وبين الجديد المستحدث حتى وإن كان صوابا. وهذه الاستمرارية هي جوهر نجاح زعيم الحزب الديمقراطي السنغالي "عبد الله واد" الذي ظل زعيما لتحالف المعارضة لمدة 25 عاما، بما فيها من إخفاقات ونجاحات، ضد الحزب الاشتراكي السنغالي الذي احتكر الحياة السياسية في السنغال لمدة 40 سنة حتى فاز تحالف المعارضة ضد الحزب الحاكم برئاسة "عبده ضيوف" في مارس 2000. لكنه لم ينجح إلا عندما كون تحالفا ضخما ومستقرا لحد بعيد من الأحزاب السنغالية ومعها العديد من مؤسسات المجتمع المدني والصحافة الحرة التي اتفقت على حتمية تغيير قواعد اللعبة السياسية.

3- شرط النواة المركزية: فتوافر نواة مركزية صلبة للتحالف من بين أحزاب وقوى الوسط تحديدا شرط مهم لبناء أي تحالف موسع، لأن قوى الوسط تكون الأقدر على أن تدير الحوار الخلاق بين الشتيت المتنافر من أحزاب اليمين وأحزاب اليسار بحيث تستطيع أن تبتكر مساحة اتفاق تضمن بقاء التحالف حيا.

وأهم ما يمكن أن تقوم به قوى الوسط هو مهمة استبعاد بعض القوى من التحالف إن اضطرت لذلك؛ فهناك قوى ترى أن الإطار الأيديولوجي الحاكم لها يحظى بأولوية مطلقة بغضِّ النظر عن نتائج الانتخابات بحكم أن الفجوة بينها وبين بعض شركاءها في التحالف أوسع كثيرا من الفجوة بينها وبين الحزب الحاكم (علاقة التجمع بالإخوان مثالا). وعلى هذا تكون قوى الوسط بمثابة حاملة ميزان القوة التي عليها أن تخلق "أوسع" تحالف "ضيق" ممكن إن فشل التحالف الموسع، وهو ما فعله الرئيس الكيني "كيباكي" حين استبعد من تحالف "قوس قزح" بعض القوى التي أرادات أن تمارس حق الفيتو على كافة القوى الأخرى، ونجح التحالف بفضل قوة النواة الصلبة من أحزاب الوسط.
وبتأمل الواقع المصري، فإن الأكثر قدرة نظريا على قيادة هذا التحالف هو حزب الوفد، بميراثه الليبرالي وتنسيقه السابق مع الإخوان المسلمين في انتخابات 1984، أو أعلام قوى الاحتجاج الشعبي مثل الدكتور محمد البرادعي. ولكن الصعوبة الحقيقية في أن الطرفين غير متفقين وتزداد المسافة بينهما اتساعا مع اقتراب استحقاقات الانتخابات؛ فيدعو البرادعي وفريقه إلى المقاطعة وتتكالب الأحزاب والقوى السياسية الرئيسية على إعلان المشاركة في الانتخابات التشريعية مع غياب ضمانات النزاهة المتعارف عليها عالميا.

4- تحييد المؤسسة العسكرية والمتغير الخارجي: إن التحالفات الناجحة قامت دائما على البحث عن نقاط التقاء من أجل توسيع دائرة الـ"نحن" وتضييق دائرة الـ "هم"؛ وهو ما يقتضي من أي تحالف موسع أن يتجنب إدخال أطراف خارجية ذات قدرة استثنائية على توجيه مسار العملية السياسية في اتجاه الإبقاء على الأوضاع الراهنة؛ فليس من المنطق أن يقوم التحالف على فكرة استعداء قوى أجنبية أو على الانتقاص من الدور الوطني الذي طالما قامت به المؤسسة العسكرية؛ فحين وصل تحالف المعارضة إلى الحكم في اليابان عام 1994 لأول مرة منذ عام 1955 تجنب تماما إثارة حنق الولايات المتحدة أو محاولة تعديل العلاقات المدنية العسكرية في الدولة؛ لأن هذه القضايا -رغما عن استقرار الديمقراطية اليابانية- كانت ستحدث انقسامات هائلة في التحالف الجديد. ويغلب على قوى المعارضة المصرية أنها الأكثر انتقادا لسياسات الولايات المتحدة بما يجعلها أقرب إلى الركون إلى الوضع الراهن منها إلى مساعدة الساعين لتغييره.

5-  ترجمة التحالف إلى أشخاص: فللأفكار حضورها، ولكنها والعدم سواء إن لم ينطق بها الرجال؛ ففساد الرئيس "شفرنادزه" في جورجيا -فضلا عن استبداده- كانا موضع اتفاق الجميع لسنوات، بيد أن مقاومته كانت تتطلب أن يتقدم رجل يحظى بالمصداقية والقبول العام من قبل قوى المعارضة حتى يقود تحالفا معارضا لشفرنادزه. وكان هذا الشخص هو الرئيس الحالي "ساكاشفيلي" الذي أدى كونه رجل قانون ووزير عدل سابق أن يُنظَر إليه من قبل قطاع واسع من المواطنين على أنه نظيف اليد وديمقراطي التوجه.

ومن هنا تأتي أهمية أن يترجم التحالف الواسع نفسه إلى شخص أو مجموعة أشخاص تتقدم كفريق محدد المعالم ومتجانس المضمون كي يحمل على عاتقه مسئولية موازاة الحزب الحاكم. ومن الممكن، بسبب الاستقطاب الأيديولوجي الحاد، أن تنجح التحالفات أكثر حين يكون هذا الشخص أو مجموعة الأشخاص بلا انتماء سياسي جامد؛ وإنما يكون رأس مالهم السياسي أنهم يمثلون مباديء عليا ومستقرة في المجتمع.

وبإسقاط هذه الشروط على الواقع المصري، يتبين لنا أن شروط تحقق هذا المسار تبدو غير واقعية؛ فمثلا هناك الإخفاق الواضح في قدرة بعض الشخصيات العامة (مثل محمد البرادعي، وحمدين صباحي، وأيمن نور، وحسن نافعة وغيرهم) في تشكيل جبهة وطنية واسعة -تعتمد أساسا على المواطنين المتشوقين للتغيير فضلا عن الأحزاب والقوى السياسية النشطة- تهدف إلى إجبار الحزب الحاكم على تقديم تنازلات ديمقراطية، لكن لأخطاء تكتيكية واضحة (مثل السفر المتكرر للدكتور البرادعي، وغموض في برنامج عمل فريق الجمعية الوطنية للتغيير، وبعض الوعود بتعديل المادة الثانية من الدستور والتي تقضي بأن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، فضلا عن انتقادات للفترة الناصرية، والرفض التام للتعامل مع الأحزاب المصرح بها رسميا) كان من الواضح أن فكرة بناء تحالف واسع بعيدة عن واقع مصر الحالي. 

السيناريو الثالث:

التحول الديمقراطي على النمط التركي

أَمَا وأن الإخوان متهمون من القوى الأخرى باستغلال شعارات دينية للحصول على مكاسب غير مستحقة ديمقراطيا، يكون السؤال: ماذا لو تقرر التحالف بين القوى "المدنية/غير الدينية" من أجل إعادة ترتيب قواعد النظام مع استبعاد الإخوان؟ وكي يتحقق هذا المسار فلا بد أن يتصرف الفاعلون على النحو التالي: براجماتية الحزب الوطني + تعنت الإخوان + براجماتية الأحزاب المدنية، بما يؤدي إلى تنسيق وتوزيع أدوار بين الحزب الوطني الذي يضمن الأغلبية الرسمية والأحزاب المدنية على نحو يهمش من الإخوان ويضمن للأحزاب المدنية أن تحقق شيئا من مطالبها السياسية.

وهذا البديل يبدو واقعيا إذا ما افترضنا الرشاد في الطرفين المدنيين (الحزب الوطني وأحزاب المعارضة) على اعتبار أن أحزاب المعارضة ستحقق بعض المكاسب مثل تعديل بعض المواد الدستورية التي طالما طالبت بتعديلها مثل المادة 74 والتي تعطي لرئيس الجمهورية صلاحيات واسعة للغاية إذا ما " قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن، أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري". وكلها تعبيرات متروك أمر تفسيرها لرئيس الجمهورية ذاته، أو تعديل بعض المواد الأخرى التي طالما طالبت بها المعارضة مع استمرار الحظر على تكوين حزب سياسي مستندا إلى أسس دينية، وربما حتى وضع قيود قانونية على حق المستقلين في المشاركة السياسية بما يعني ضمنا ألا يشارك الإخوان إلا من خلال حزب رسمي. وهذا ليس أمرا مستحيلا إذا تم تعديل القانون بحيث تكون الانتخابات بنظام القائمة الحزبية فقط. وكل هذه بدائل ستقرب من وشائج العلاقة بين الأحزاب المدنية (الحاكم والمعارضة) على حساب الإخوان باعتبارهم خارجين على الإجماع الوطني بحتمية أن لا يكون هناك حزب على أساس ديني أو يثير النعرة الدينية بين أبناء الوطن الواحد. وكأننا نقترب خطوة غير مكتملة نحو نموذج الحياة السياسية التركية التي تستبعد القوى الإسلامية التي ترفع شعارات إسلامية صريحة أو الألمانية التي تستبعد النازيين والشيوعيين من الحياة السياسية مع السماح بالتنافس الديمقراطي بين القوى التي تلتزم بقواعد اللعبة الديمقراطية.

"
تظل معظم مطالب المجتمع المصري السياسية أقرب إلى مطالب "سياسة دنيا"؛ لأنها تهدف لتحقيق مطالب محدودة جغرافيا أو مهنيا ولا ترتقي إلى مطالب السياسة العليا والتي تستهدف تغيير القواعد السياسية الحاكمة للمجتمع أو تغيير مؤسسات الدولة وإسقاط الحكومة أو نظام الحكم
"

ولكن هذا البديل نفسه يفترض أن الحزب الحاكم غير مستفيد من وجود الإخوان ويريد التخلص منهم. وحقيقةً فإن هذا افتراض غير دقيق؛ فالنظام الحاكم في مصر يجيد استخدام "فزاعة" الإخوان ضد الغرب، إن ضغط عليه من أجل إصلاحات ديمقراطية أو تنازلات في قضايا إقليمية، وضد القوى السياسية التي ترى أنها أكثر حرية في ظل الحزب الوطني منها في حالة فوز الإخوان سواء كان هؤلاء من الأحزاب السياسية الأخرى أو من مسيحيي مصر. وهذا هو ما يفسر لماذا استمرت إستراتيجية الرئيس مبارك في تعامله مع الإخوان بمنطق التحجيم دون الاستئصال، حيث يرتفع وينخفض سقف حرية الحركة للإخوان على نحو يوحي بالرغبة في الاستيعاب الجزئي والاستبعاد الجزئي دون وضوح في طبيعة الخطوط الحمراء؛ فعملياً يُسمَح للإخوان بخوض الانتخابات العامة والنقابية والطلابية شرط ألا يفوزوا فيها بالأغلبية فيجري تزويرها أو استبعاد مرشحي الإخوان منها إدارياً أو القبض عليهم أمنياً. يضاف إلى ذلك أن الدولة تسن قوانين هي أشبه بالعقاب الجماعي الذي ينال من حرية الحركة المتاحة لجميع القوى السياسية بما فيها الأحزاب الشرعية. والحالة المصرية متميزة حقا عن حالة الاستيعاب القانوني والتحييد السياسي، كما يتضح في النموذجين الملكيين الأردني والمغربي، وحالة الاستبعاد مع الاستبداد كما في تونس وسوريا وليبيا.

وبالتالي تكون الإستراتيجية المثلى للحزب الوطني هو أن يدخل في حوار مباشر مع الأحزاب المدنية بل وفي صفقات تضمن لهم نسبة من مقاعد مجلسي الشعب والشورى بما يضيق الخناق على الإخوان المسلمين، وهو ما يبدو عليه الحال في مرحلة ما قبل انتخابات مجلس الشعب القادمة في نوفمبر 2010. وبفرض الرشاد أيضا، فإن الإستراتيجية المثلى لأحزاب المعارضة المدنية أن تتبنى البراجماتية (أي التعاون) تجاه من يقدم على التعاون معها سواء كان الحزب الوطني أو الإخوان المسلمين، وإن أقدم الطرفان ببراجماتية على التعاون معها فهي ستفضل المكسب المعقول مع الحزب الوطني عن المكسب الأقصى مع الإخوان المسلمين. وقد أفصحت أحزاب المعارضة المدنية عن نزعتها البراجماتية تجاه الحزب الحاكم في جولات الحوار حول تعديل المادة 76 بيد أن تعنت الحزب الوطني وقف حائلا دون استمراره. ولو خُيِّر الكثير من الأحزاب السياسية المصرية، لاسيما اليسار، بين استمرار الحزب الوطني في السلطة وبين وصول الإخوان للحكم فإنهم سيفضلون استمرار الحزب الوطني حتى لو كان الثمن هو القبول بالتوريث المشفوع بإصلاحات سياسية حقيقية على النحو الذي أشرنا إليه. وهي رؤية محققة لذاتها؛ فشيوعها يعطي إشارة واضحة للإخوان باستحالة التحالف مع اليسار فيزدادون هجوما عليه ورفضا للتعاون معه بما يخلق فجوة أكبر بين قوى المعارضة.

السيناريو الرابع:

قيادة النخبة الحاكمة للتحول الديمقراطي على النمط الأسباني

في هذا المسار، تنزع القوى المختلفة وعلى رأسها الحزب الحاكم (أو على الأقل جناح إصلاحي داخله) للسعي إلى صفقة تقوم على أساس القبول الطوعي من كافة القوى لقواعد جديدة للعملية السياسية تضمن ديمقراطية استيعابية لكافة القوى الموجودة على الساحة مع الالتزام بقواعد فوق دستورية (supra-constitutional) تلزم الجميع باحترام مدنية الدولة وديمقراطية صنع القرار على نحو ما فعل الملك خوان كارلوس بعد أن قاد عملية التحول الديمقراطي في أسبانيا بعد وفاة الجنرال فرانكو. وهذا يقتضي براجماتية الحزب الوطني (و جناح داخله) + براجماتية الإخوان + براجماتية الأحزاب المدنية.

وفي هذه الحالة، فإن النخبة الحاكمة ستسعى للبراجماتية والإصلاح مضطرة إذا ما وَجَدت -وغالبا هذا سيكون في مرحلة ما بعد الرئيس مبارك- أن الاسم المطروح حزبيا (مثل جمال مبارك) غير مقبول جماهيريا، وبالتالي ستسعى لأن تطرح إما اسما بديلا (مثل عمرو موسى) أو أن تضيف لجمال مبارك اسما آخر في منصب نائب الرئيس (مثل الوزير عمر سليمان) وبالتالي سيكون هناك رغبة في خلق شرعية جديدة تقوم على صفقة تتجنب أن يتحد أعداء الحزب ضده. ولكن هذا سيقتضي أولا أن يستعد الجميع للتعاون من أجل شرعية جديدة تحترم صندوق الانتخاب وحده.

ولكن هناك معضلة حقيقية وهي مدى استعداد الإخوان لأن يتنازلوا عن الجانب الدعوي/الديني في خطابهم. وكي يتحقق هذا المسار على أرض الواقع فإن الإخوان المسلمين مطالبون بألا يظنوا أنهم الأقوى على الساحة بحكم تآكل شرعية الحزب الوطني وهشاشة أحزاب المعارضة المدنية؛ فحاجة قيادات الحزب الحاكم للتنسيق مع المعارضة (المدنية والدينية) لا ينبغي أن تزيد الإخوان إحساسا بالنرجسية السياسية، وأن يسارعوا -والزمن حقيقة ليس في صالحهم- إلى أن يتقاربوا سياسيا مع القوى المدنية، وأن يهرولوا نحو تأكيد طابعهم المدني والتخلي عن الجانب الدعوي وإلا فإن الحزب الحاكم -وبفرض الرشاد أيضا- سيحكم الخناق عليهم بعزل قدرتهم على بناء تحالفات أوسع مع المعارضة أو الحصول على عدد أكبر من المقاعد في أية انتخابات قادمة. وهذا ليس صعبا فآليات التعديل الدستوري والتشريعي لتقليم أظافر الإخوان متوفرة بتوسيع فرص الأحزاب في الترشح للانتخابات كقوائم نسبية دون إتاحة فرصة مماثلة للمستقلين بما يضعف من قدرة الإخوان على تحقيق مراكز متقدمة في الانتخابات.

ومهمة الإخوان في تبديد مخاوف القوى المدنية ليست سهلة على الإطلاق؛ فالتحالف مع الإخوان ليس البديل الأمثل من وجهة نظر المعارضة إلا إذا تعنَّت الحزب الوطني ورفض الاستجابة لبعض مطالبهم على الأقل. فلا أحد يحب أن ينام بجوار الفيل (كناية عن الإخوان)، كما يقول المثل الإنجليزي، لأن أية حركة منه تعني الموت لمن يجاوره.
هذا المسار يعتمد على فكرة تبدو غير واقعية إلا في ظروف استثنائية تؤدي إلى هذا "الاستيعاب الديمقراطي" لجميع القوى السياسية في مصر، ولكن تاريخ هذه القوى في علاقاتها البينية يشير إلى أن هذا السيناريو غير قابل للتحقق في عهد الرئيس مبارك.

الخاتمة
هناك مؤشرات واضحة على أن الرئيس مبارك ينوي أن يظل في الحكم إلى آخر يوم في حياته؛ فأولا هو أعلن بوضوح أنه لم يجد الشخص المناسب الذي يمكن أن يصلح لمنصب نائب رئيس الجمهورية وبالتالي من باب أَوْلَى فهو لن يجد من يصلح لأن يتولى منصب رئيس الجمهورية ما دام هو قادرا على الاستمرار في منصبه. ثانيا: يرفض الرئيس مبارك تعديل المادة 77 بما يضع حدا لعدد مرات تولي رئيس الجمهورية، بالإضافة إلى أنه بانتهاء هذه المدة يكون قد ظل في الحكم خمس دورات متتالية، وبالتالي قد يكون آملا في فترات رئاسية لاحقة لاستكمال المسيرة التي بدأها عام 1981. وهذا لم يكن شيئا بعيدا عن أفكار دارت داخل البيروقراطية المصرية؛ فنحن نتذكر خطة "مصر 2017" التي روجت لها الحكومة المصرية في عهد الدكتور كمال الجنزوري. وكان السؤال المحير لماذا عام 2017 وليس 2020 مثلا؟ فكانت الإجابة أن عام 2017 هو عام انتهاء الفترة السادسة لحكم الرئيس مبارك. كما أن الرئيس وعد صراحة بأنه سيظل يخدم الوطن "طالما في الصدر نفس يتردد وقلب يخفق"، وما ترجمه الكثير من المقربين من أروقة صنع القرار السياسي في مصر من أنه هو مرشح الحزب الوطني لانتخابات الرئاسة في عام 2011. إذن النقاش الحقيقي بشأن مستقبل مصر هو نقاش حول ما بعد الرئيس مبارك.

وقبل ترجيح مسار على آخر، لا بد من توضيح أن خيال الإنسان قد يجنح به لتصور مسارات أخرى لا تعتمد على شرط الرشاد الذي تتبناه  نظرية المباريات، بما يجعلنا نتخيل نظريا حدوث ثورة شاملة على نمط الثورة الإيرانية أو العودة إلى لجوء طرف إلى استخدام العنف على نحو ما شهدت مصر في فترة الثمانينيات، أو فكرة قيام انقلاب عسكري ينال من استقرار/رتابة المشهد السياسي الحالي. كل هذه المسارات أقرب إلى التنظير المستبعد منه إلى الواقع المتصور.

"
المستقبل المنظور، ومع ثبات مواقف الفاعلين المختلفين، يبدو فيه الحزب الحاكم وكأنه الحزب الوحيد الذي يملك إستراتيجية مسيطرة واضحة المعالم بغض النظر عن تفضيلات وقرارات الفاعلين الآخرين
"

وبالعودة إلى المسارات الأربعة التي ناقشناها (الروسي/الجابوني، الأوكراني، التركي، الأسباني) فإن المستقبل المنظور، ومع ثبات مواقف الفاعلين المختلفين، يبدو فيه الحزب الحاكم وكأنه الحزب الوحيد الذي يملك إستراتيجية مسيطرة واضحة المعالم بغض النظر عن تفضيلات وقرارات الفاعلين الآخرين؛

فأولا: أية تنازلات من قبله لن تكون مبررة لأنه ببساطة ليس مدفوعا لها بتكلفة عالية ترتبط باستمرار الوضع الراهن على ما هو عليه. ثانيا: فإن استمرار الرئيس مبارك في السلطة ثم انتقال السلطة بعده داخل النخبة الحاكمة على النمط الروسي/ الجابوني بغضِّ النظر عن اسم الرئيس القادم يحافظ للنخبة الحاكمة وتحالف مراكز الثروة والسلطة والأمن على مكاسب الثلاثين عاما الماضية.

ثالثا: تلعب المعارضة المصرية إجمالا لمصلحة الحزب الحاكم طالما هي تحافظ على تشرذمها وعدم جديتها في تكوين تحالف سياسي قوي يهدد المراكز الآمنة للحزب الحاكم.

رابعا: يغيب عن الساحة المصرية كذلك المثقف العضوي القادر على قيادة الجماهير نحو ترجمة مطالبهم الفئوية إلى مطالب تغيير سياسي حقيقي بما يؤكد أن الفاعل الوحيد في الساحة السياسية المصرية هو النخبة الحاكمة والتي ستقرر مستقبل مصر.

خامسا: استمرار سيطرة الحزب الحاكم في مصر على الحياة السياسية المصرية لا تعني عدم وجود أسباب عدم الاستقرار السياسي لكنه سيظل عدم استقرار محكوم نسبيا؛ فعدم الاستقرار السياسي (وفي قمته الثورات السياسية) يساوي المطالب السياسية مقسومة على المؤسسات السياسية. وبالتالي فإن عدم الاستقرار السياسي يزيد كلما زادت المطالب السياسية وضعفت قدرة المؤسسات السياسية على الاستجابة الفاعلة لها.

لكن تظل معظم مطالب المجتمع المصري السياسية أقرب إلى مطالب "سياسة دنيا" (low politics)؛ لأنها تهدف لتحقيق مطالب محدودة جغرافيا أو مهنيا ولا ترتقي إلى مطالب السياسة العليا (high politics) والتي تستهدف تغيير القواعد السياسية الحاكمة للمجتمع أو تغيير مؤسسات الدولة وإسقاط الحكومة أو نظام الحكم.

بيد أن الملاحظ في مصر خلال آخر عشر سنوات أن المؤسسات السياسية نجحت إما في قمع أو استيعاب هذه المطالب. وتنقسم هذه المؤسسات إلى ثلاثة أنواع أساسية: فهناك المؤسسات الخدمية مثل المدارس والمستشفيات والمحاكم والجمعيات الاستهلاكية وغيرها والملاحظ أنها تزداد ترهلا في مصر في مواجهة موجات متزايدة من المطالب نتيجة زيادة عدد السكان وتنوع مطالبهم. وهناك ثانيا مؤسسات التمثيل السياسي التي تقوم بمهام التعبير عن مطالب المواطنين، والرقابة على أعمال الحكومة، وتداول السلطة على نحو يفضي إلى التغيير في القواعد الحاكمة لـ "من يحصل على ماذا؟ ومتى؟ وأين؟ وكيف؟" ويبدو أن الأحزاب ومجلس الشعب والمجالس المحلية غير قادرة على أن تقنع المواطن المصري بالمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية سلميا. وهناك ثالثا المؤسسات الأمنية وعلى رأسها الشرطة والمحاكم والمؤسسة العسكرية والتي يبدو أنها الأكثر نجاحا حتى الآن في القيام بمهام الضبط الاجتماعي والسياسي.

إذن فالعلاقة الطردية بين زيادة المطالب السياسية وبين عدم الاستقرار السياسي إذا لم تنجح مؤسسات الدولة المختلفة في استيعابها إما بتلبيتها (المؤسسات الخدمية)، أو التعبير عنها (المؤسسات التمثيلية) أو بقمعها (المؤسسات الأمنية)، تعني أن فترة حكم الرئيس مبارك ومن سيأتي بعده لن تكون مستقرة تماما وإنما ستزداد احتمالات عدم الاستقرار.  

______________
أستاذ مساعد العلوم السياسية بجامعتي القاهرة وميتشجان المركزية بالولايات المتحدة.

سبتمبر 24, 2011

العلاقات المصرية الإسرائيلية في عهد مبارك

412

الرئيس المصري حسني مبارك ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو (الأوروبية-أرشيف)

عبد العليم محمد

تستلهم العلاقات بين مصر وإسرائيل طبيعتها وآلياتها من نصوص وبنود المعاهدة المصرية الإسرائيلية للسلام في العام 1979، والتي أخذت مجراها في التطبيق المتدرج بعد عام من توقيع هذه المعاهدة أي في 26 مارس/آذار 1980، أي تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين وافتتاح كل منهما سفارة لدى الطرف الآخر.

الإطار الإستراتيجي العام
تحديات في وجه العلاقات المصرية الإسرائيلية
الآثار الإستراتيجية للعلاقات المصرية الإسرائيلية

ويمكن تكييف العلاقات المصرية الإسرائيلية قانونيا ودبلوماسيا على أنها علاقات ثنائية بين دولتين ذواتي سيادة، على غرار ما هو متبع في مجال تبادل العلاقات الدبلوماسية والاعتراف القانوني بين الدول، وتشمل هذه العلاقات جوانب دبلوماسية وقنصلية وتجارية وثقافية.

بيد أن الاكتفاء والاقتصار على تكييف هذه العلاقات بين مصر وإسرائيل قانونيا ووفق الأعراف الدولية المتبعة، ينطوي على كثير من التجريد والتمويه وربما التبسيط أيضا، ذلك أن هذه العلاقات المصرية الإسرائيلية رغم طابعها الثنائي ورغم استنادها إلى إرادة الدولتين وسيادتهما، تتميز هذه العلاقات عن غيرها بخصائص وملامح تنفرد بها دون غيرها من العلاقات بين الدول، وتجعلها رهينة أوضاع وتطورات تتجاوز على الأقل من وجهة النظر المصرية والعربية حدود أي علاقات ثنائية بين دولتين من دول العالم.

"
معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية فكت الارتباط إلى حين بين مصر وبوابتها الشرقية، حيث قبلت مصر بالخروج من الصراع العربي الإسرائيلي بثقلها الإستراتيجي والعسكري والتاريخي –حتى لو لم تكن في البداية تريد ذلك تماما– ولكن هذا ما انتهى إليه الأمر فعليا
"

فمصر الدولة والنظام والمجتمع لا تستطيع فك ارتباطها بالقضية الفلسطينية، أو تجاهل روابطها السياسية والثقافية والإستراتيجية مع العالم العربي والإسلامي، أو التخلي عن دورها في العالم العربي، وتوظيف ثقلها السياسي والدبلوماسي لصالح قضاياه.

كما أن العلاقات مع إسرائيل رغم الاعتراف بها وتبادل العلاقات معها، وفق نصوص المعاهدة، لا يجعل من إسرائيل دولة صديقة، أو يمحو عنها صفات العدوانية والاحتلال والاستيطان والعنصرية، ذلك أن ميراث العداء لإسرائيل في مصر والبلدان العربية ليس بمقدور أي معاهدة أن تتخلص منه مرة واحدة، خاصة أن توجهات إسرائيل العدوانية بقيت كما هي، بل تعمقت بعد عقد اتفاقية السلام مع مصر، واستنفرت القوة والنزوع نحو الهيمنة على المنطقة، ورفض الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني وحق البلدان العربية التي تحتل أراضيها في التطلع إلى تحريرها وبسط سيادتها عليها.

من ثم فإن هذه العلاقات بين مصر وإسرائيل رغم أنها ثنائية الطابع، وتستند إلى إرادة وسيادة الطرفين، فإنها -أي هذه العلاقات- تجد نفسها في الواقع أسيرة التشابكات والتداخلات والتناقضات، في مدركات ورؤى الأطراف المختلفة، ومن بينها بطبيعة الحال العالم العربي والإسلامي ومحصلة التطورات في الساحة الإقليمية عامة والصراع العربي الإسرائيلي خاصة.

وعلى ضوء هذه الملابسات والتداخلات في الحقل السياسي المصري والعربي والفلسطيني والإسلامي الرسمي منه والشعبي، الذي بدأت فيه العلاقات بين مصر وإسرائيل، فإن هذه العلاقات اصطدمت برفض شعبي مصري حازم ومتصاعد، منذ اليوم الأول لتبادل هذه العلاقات، وقد انخرطت في هذا الرفض قوى وتيارات سياسية وطنية وإسلامية وليبرالية ونقابات كبيرة واتحادات مهنية عمالية وطلابية، تمثل كل مستويات المجتمع المدني والأهلي في مصر، وقد ارتبطت حدة هذا الرفض وتنوع أشكاله من مظاهرات واحتجاجات وبيانات إدانة، بتطور الصراع العربي الإسرائيلي ومواقف إسرائيل العدوانية إزاء الشعب الفلسطيني واللبناني والمقاومة الفلسطينية واللبنانية، وانتفاضة الشعب الفلسطيني في العام 1987 وانتفاضته في العام 2000 بعد انهيار محادثات كامب ديفيد الثانية.

والحال أن هذه العلاقات باتت محصورة في المناخ الذي بدأت فيه، في الجانب الرسمي الحكومي المتمثل في تبادل السفراء وافتتاح السفارات لكلا الطرفين وبعض جوانب التبادل التجاري المختلفة، في حين أنها لم تتمكن من اختراق الحاجز الشعبي والمجال غير الرسمي والقيود التي فرضتها الضغوط الشعبية أو تلك التي أدار فيها النظام والدولة علاقات مصر بإسرائيل.

الإطار الإستراتيجي العام

من الممكن القول إن العلاقات المصرية الإسرائيلية قد خضعت منذ بدايتها وفق أحكام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في العام 1979 لإطار إستراتيجي عام، يحدد معاييرها ووتيرتها وإيقاعها وحدودها والآليات المختلفة لمعالجة مضاعفاتها ومشكلاتها وكذلك المبادئ والأسس التي تحكمها. والمؤكد أن هذه المعايير التي تحكم العلاقات بين مصر وإسرائيل لم توجد هكذا مرة واحدة مع بدء هذه العلاقات، بل تشكلت وصيغت عبر الممارسة والتفاعل والأزمات التي اعترضت طريق تطور هذه العلاقات وبناء على تداعيات وآثار هذه العلاقات على الصعيد المصري والعربي على حد سواء وردود الفعل إزاءها.

ويمكن تلخيص هذه المعايير والضوابط التي حكمت العلاقات المصرية الإسرائيلية، وتطورها وتحديد السقف الذي تدور فيه هذه العلاقات، على ضوء الواقع والممارسة فيما يلي:

1- مراعاة الحساسية الشعبية
يرتبط هذا المعيار بفهم عموم المصريين لعملية السلام والمعاهدة مع إسرائيل، ذلك الفهم الذي اقتصر على إنهاء الحروب بين مصر وإسرائيل، وليس فتح القلوب والمشاعر للإسرائيليين، أو تجاهل جرائمهم في حق المصريين والعرب والشعب الفلسطيني، والحال أن المصريين أدركوا أن العلاقات مع الإسرائيليين يجب أن تقتصر على العلاقات الرسمية، وفي الحدود الدنيا للمعاهدات والبروتوكولات، بينما العلاقات مع المصريين يتوقف مصيرها على موقف إسرائيل من عملية السلام مع بقية الشعوب العربية والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.

بين هذين الحدين أي فهم المصريين لحدود السلام بين مصر وإسرائيل، وحصر العلاقات معها في الحدود الدنيا الرسمية بعيدا عن العلاقات الشعبية، حاولت الدولة والنظام بجميع مستوياتهما إدارة العلاقات مع إسرائيل بطريقة لا تخرج بها عن منطق ومتطلبات هذين الحدين، وذلك مع بعض الاستثناءات، كاتفاقية الكويز الموقعة بين مصر والولايات المتحدة وإسرائيل عام 2004 (1)، واتفاقية تصدير جزء من الغاز المصري لإسرائيل الموقعة عام 2005.

"
ترتب على خروج مصر من الصراع نشوء فراغ إستراتيجي عربي، ليس بمقدور بلد آخر أن يملأه، وهذا الفراغ قد منح إسرائيل مزايا نوعية إضافية، تضاف إلى رصيدها الإستراتيجي العسكري
"

وقد بدت تجليات هذا المعيار في التوصيف الدارج للسلام مع مصر بأنه "بارد" ولا يتميز بالدفء والحرارة، التي كان الإسرائيليون يتوقعونها، وأصبح السلام بين مصر وإسرائيل بمثابة سلام الضرورة، أي اتقاء الحرب والعدوان وتجنب آثارهما، كما أن السفراء الإسرائيليين المتعاقبين في القاهرة كانت تصريحاتهم أثناء ممارسة مهامهم أو لدى انتهاء مهماتهم في القاهرة، تضج بالشكوى من العزلة والحصار المضروب حولهم شعبيا ومن جميع فئات المصريين.

2- ربط تطور العلاقات بموقف إسرائيل من الشعب الفلسطيني وعملية السلام مع الدول العربية

ربطت الدوائر الرسمية المصرية بين تطور العلاقات مع إسرائيل وانخراط هذه الأخيرة في عملية جدية للسلام مع الشعب الفلسطيني والدول العربية، فليس من المنطقي والمعقول أن تتطور هذه العلاقات في ظل العدوان الإسرائيلي المتكرر على لبنان في قانا 1996 وحزب الله 2006 وتنغيص حياة الشعب الفلسطيني والانقلاب على عملية أوسلو واستمرار الاستيطان ومصادرة أراضي الفلسطينيين.

فطوال عهد الرئيس مبارك الممتد لم يقم بزيارة إسرائيل إلا مرة واحدة لتشييع جنازة رئيس الوزراء السابق إسحاق رابين الذي أسهم في صنع عملية أوسلو للسلام مع الفلسطينيين، وهذه الزيارة الوحيدة التي لم تتكرر كانت تتضمن رسالة ألا وهي تقدير مصر لدور القادة الإسرائيليين الذين يمتلكون الجرأة لصنع السلام مع الشعب الفلسطيني، ورغم الانتقادات المستمرة لمبارك بسبب عدم زيارة إسرائيل وتكرار هذه الزيارة في الإعلام الإسرائيلي المكتوب والمرئي، فإن الرئاسة المصرية لم تر سببا لهذه الزيارات طالما بقي موقف إسرائيل على ما هو عليه من عملية السلام، وطالما استمرت السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين كما هي دون تغيير. وقد التزم جميع المسؤولين أو أغلبهم بهذا السقف الذي وضعه مبارك، فلم يبادر أي منهم لزيارة إسرائيل إلا لضرورة تحتمها الظروف وتتوفر لها المسوغات المقبولة.

3- مراعاة الخطوط الحمراء
وينطبق هذا المعيار على الحالة المصرية والحالة الإسرائيلية على حد سواء، فالطرفان حريصان على عدم تجاوز الخطوط الحمراء في إدارة علاقاتهما ومعالجة الأزمات التي تمر بها هذه العلاقات. والمقصود بالخطوط الحمراء هو عدم الوصول إلى المنطقة الأمنية والعسكرية من هذه العلاقات التي ترتبط باتجاهات التسليح واحتمالات وقوع حرب. وذلك لم يمنع أو يحل دون العديد من الاحتجاجات على نشاطات عسكرية أو إشارة إلى عمليات تسلحية أو انتقاد الحملات المصرية بشأن السلاح النووي الإسرائيلي، وانضمام إسرائيل لمعاهدة حظر انتشار السلاح النووي وإخضاع منشآتها النووية لرقابة وكالة الطاقة الذرية.

بيد أن جميع هذه الاحتجاجات قد أديرت بمنطق الأزمات العابرة، التي لا تقترب من الخطوط الحمراء والمنطقة العسكرية والأمنية وتستبعد المواجهة العسكرية.

4- احترام السلام التعاقدي
حرصت مصر ربما أكثر من إسرائيل على احترام السلام التعاقدي المعقود بين البلدين وفقا لمعاهدات كامب ديفيد 1978 والمعاهدة المصرية الإسرائيلية للسلام عام 1979، وقبلت بالالتزامات الواردة في هذه النصوص كما قبلت بها إسرائيل، وعند نشوء أزمة طابا في المرحلة النهائية للانسحاب الإسرائيلي من سيناء ورفض إسرائيل إخلاءها، لجأت مصر إلى التحكيم الدولي، وقبلت إسرائيل بمبدأ التحكيم الذي انتهى كما هو معروف (عام 1988) بإقرار حق مصر في طابا.

وبالمثل عندما توترت الأمور في غزة على حدود مصر، طلبت مصر من إسرائيل زيادة عدد قوات الأمن على الحدود بين مصر وغزة، ووقعت اتفاقية بين الطرفين حددت عدد هذه القوات وتسليحها للمساعدة في حفظ الأمن على الحدود (عام 2009).

وفي جميع الأزمات والظروف ظلت العلاقات الرسمية بين مصر وإسرائيل تخضع للتقاليد والأعراف الدبلوماسية المعروفة، رغم المطالبات الشعبية بقطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق السفارة الإسرائيلية.

5- مراعاة العلاقات مع الولايات المتحدة من قبل مصر وإسرائيل

رغم الطابع الثنائي للعلاقات بين مصر وإسرائيل باعتبارهما دولتين ذواتي سيادة تدير كل منهما علاقاتها الخارجية من منظور المصلحة الوطنية، فإن كلا من طرفي العلاقة، أي مصر من ناحية وإسرائيل من ناحية أخرى، يضعان في اعتبارهما الاحتفاظ بعلاقاتهما مع الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها -على الأقل- راعية السلام بين مصر وإسرائيل منذ عهد الرئيس الأسبق جيمي كارتر، وباعتبار أن واشنطن تقدم المساعدات العسكرية والاقتصادية والمالية لكلا البلدين، وإن بدرجات متفاوتة، حيث تحصل إسرائيل على نصيب الأسد من المساعدات المالية والعسكرية وتحصل مصر على نصيب متواضع منها، ويتوقف الأمر في المحصلة النهائية على طبيعة هذه العلاقات مع الولايات المتحدة والمكانة والحظوة التي تتمتع بها كل من مصر وإسرائيل.

فالأولى أي مصر تلعب دورا هاما في عملية السلام على الصعيد الإقليمي، فهي أول دولة عربية وقعت معاهدة سلام مع إسرائيل واعترفت بها وقدمت نموذجا من وجهة النظر الأميركية لبقية الدول العربية من المفترض أن يحتذى به، واحترمت حتى الآن التزاماتها بموجب نصوص وبنود هذه المعاهدة، أما الثانية أي إسرائيل فهي الحليف الإستراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة والأكثر أمانا واستقرارا في منظور الولايات المتحدة، وتحظى إسرائيل بأدوات ضاغطة في دوائر الكونغرس والبنتاغون وفي أوساط الرأي العام عبر منظمة "الإيباك" وغيرها من المنظمات الصهيونية في الولايات المتحدة الأميركية.

والحال أن كلا البلدين أي مصر وإسرائيل ورغم تفاوت علاقاتهما بالولايات المتحدة الأميركية يحرصان على أخذ مواقف وسياسات الولايات المتحدة في المنطقة محل الاعتبار، خاصة إزاء عملية السلام في الشرق الأوسط، التي تعدها الولايات المتحدة خاصة في عهد باراك أوباما مدخلا صحيحا وملائما لمعالجة الملفات المختلفة في المنطقة، خاصة في العراق وأفغانستان وإيران ولبنان، وعلاجا جذريا لتقليص التطرف الديني والإرهاب.

6- علاقة مصر بالعالم العربي والإسلامي

تدير مصر ملف العلاقات مع إسرائيل في دائرة أوسع من مجرد العلاقات الثنائية، فمصر ترى أن ملف العلاقات مع إسرائيل يتميز بحساسية خاصة تقتضي الحرص والحذر والتوازن، وإذا كان من الصحيح أن هذه العلاقة مع إسرائيل تدار وفق اعتبارات المصلحة الوطنية المصرية في المقام الأول، فإن هذه المصلحة الوطنية تنخرط في منظور شامل لمصالح مصر عامة وعلاقاتها الخارجية خاصة مع العالم العربي والعالم الإسلامي لما لمصر من مكانة وتأثير في هاتين الدائرتين.

على ضوء ذلك تتميز إدارة العلاقات مع إسرائيل بالحذر والحرص وعدم الاندفاع أو التلبية السريعة لمطالب الجانب الإسرائيلي، ومن ثم تحرص مصر على أن تكون العلاقات مع إسرائيل مجرد علاقات عادية محدودة بالسقف القانوني والدبلوماسي المتعارف عليه بين الدول، كما تحرص مصر على أن تربط بين المطالب الإسرائيلية لتطوير العلاقات مع مصر بشروط سياسية تخص الأداء الإسرائيلي والسياسات الإسرائيلية تجاه عملية السلام وحقوق الشعب الفلسطيني، وتوظف في الكثير من الأحيان العلاقات مع إسرائيل لتوصيل وجهة النظر العربية والفلسطينية عبر القنوات الرسمية.

من ناحية أخرى فإن مصر، بلد الأزهر الشريف، تربطها بالعالم الإسلامي روابط تنظيمية وسياسية بالغة الأهمية وتدرك أن القضية الفلسطينية تنطوي بالإضافة إلى بعدها العربي القومي والفلسطيني على بعد إسلامي واضح لا لبس فيه، خاصة يتعلق بالقدس والأقصى، وهو ما يستلزم منظورا شاملا لأخذ هذه القضايا في الاعتبار إزاء عملية السلام إن بين إسرائيل وفلسطين وإن بين الدول العربية وإسرائيل.

هذه الاعتبارات الدولية والإقليمية والعربية والإسلامية تنخرط في منظور إدارة العلاقات المصرية الإسرائيلية بدرجات متفاوتة، وفق الأولويات والظروف والأزمات التي تعترض مسار العلاقات الثنائية بين مصر وإسرائيل.

تحديات في وجه العلاقات المصرية الإسرائيلية

تواجه العلاقات المصرية الإسرائيلية تحديات كبيرة تفوق بكثير العلاقات المصرية بأي دولة أخرى، نظرا لحساسية هذا الملف وخطورته والميراث العدائي بين مصر والشعوب العربية وبين إسرائيل، ذلك الميراث الذي يصعب التخلص منه بتوقيع معاهدة وتطبيق بنودها، خاصة مع بقاء إسرائيل كما هي دون تعديل في هيكل توجهاتها إزاء شعوب المنطقة ومحيطها العربي، أي بقائها عدوانية استيطانية عنصرية وتستخدم تفوقها التكنولوجي والعسكري في قهر البلدان العربية ورفض الحقوق الفلسطينية.

يبرز من بين هذه التحديات -على سبيل المثال لا الحصر- تحدي الأمن الإقليمي والقيادة، والتحدي النووي أي امتلاك إسرائيل لأسلحة نووية ورفضها الانضمام والتوقيع على معاهدة حظر انتشار السلاح النووي، وقبول منطقة الشرق الأوسط خالية من السلاح النووي، وكذلك التحدي الإيراني وتحدي الانخراط في عملية سلام شاملة بين إسرائيل والدول العربية سوريا ولبنان وبين إسرائيل وفلسطين وكذلك التحدي الداخلي المتعلق بمستقبل مصر في حقبة ما بعد الرئيس مبارك والمحاذير والمخاطر التي ينطوي عليها وتأثيرها في العلاقات المصرية الإسرائيلية أو معاهدة السلام بين البلدين.

1- تحدي الأمن الإقليمي والقيادة
استندت مصر في توقيع معاهدات كامب ديفيد حول إطار السلام في الشرق الأوسط عام 1978 بعد مبادرة الرئيس أنور السادات في العام 1977 ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في العام 1979، إلى رؤية مفادها سعي مصر للسلام والاستقرار في المنطقة والاعتراف بإسرائيل أمرا واقعا، وضرورة تخصيص موارد المنطقة نحو التنمية الشاملة وتقليص نفقات الحروب وآثارها وتداعياتها التي عانت منها مصر عبر حروبها مع إسرائيل.

يضاف إلى ذلك صعوبة تحقيق نصر عسكري حاسم على إسرائيل يجبرها على الاعتراف بالحقوق العربية والفلسطينية والانسحاب من الأراضي التي احتلتها في العام 1967، وذلك بسبب التحالف الإستراتيجي الوثيق بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وحرص هذه الأخيرة على استمرار تفوق إسرائيل عسكريا على جميع الدول العربية المحيطة، واستحالة فك هذا الارتباط بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.

وبصرف النظر عن الاختلاف والاتفاق حول هذه الرؤية بين التيارات السياسية المختلفة، فإن هذه الرؤية وعناصرها المبينة آنفا هي التي حكمت هذا التوجه السياسي المصري منذ بدايته في أواخر السبعينيات وحتى الآن، رغم رحيل الرئيس أنور السادات وقدوم الرئيس حسني مبارك واستمراره في الحكم حتى الآن ورغم جهوده لإعادة مصر إلى العالم العربي أو إعادة العالم العربي إلى مصر فإن هذا التوجه ظل كما هو.

بيد أن الواقع والممارسة وتطبيق هذه الرؤية قد خلقت مضاعفات كثيرة تحول دون تطوير العلاقات مع إسرائيل وتجعلها في الحدود الدنيا حتى إشعار آخر.

أدركت مصر أن السلام مع أكبر دولة عربية وانتهاء الحروب بينها وبين إسرائيل لم يكن كافيا لإيقاف مسلسل العدوان والحرب في المنطقة، فما أتمت إسرائيل آخر مراحل انسحابها من سيناء في العام 1982، حتى بادرت بالعدوان على لبنان ومحاصرة بيروت وإخراج المقاومة الفلسطينية منها، وأحكمت قبضتها على الشريط الحدودي في جنوب لبنان، ورفضت كل مشاريع السلام التي طرحت آنذاك، وحتى بعد عقد اتفاق أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية، ماطلت في تنفيذ الكثير من بنود أوسلو، بل وقامت بالعدوان على لبنان عام 1996 وارتكبت مذبحة قانا وشنت حربا وعدوانا على المقاومة اللبنانية في صيف العام 2006.

والحال أن سعي مصر للاستقرار الإقليمي والسلام والأمن قد اصطدم بصخرة النوايا العدوانية الإسرائيلية، وتصاعد نزعة السيطرة الإسرائيلية ورفض الانصياع للضغوط الدولية والقرارات الدولية، واكتشفت مصر أن إسرائيل مصدر التهديد للأمن الإقليمي والاستقرار في المنطقة خاصة مع قدوم اليمين الإسرائيلي، ممثلا في الليكود وحلفائه من المتطرفين الدينيين في حقبة التسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة.

ومن ثم فإن مصر ترهن مستقبل وتطوير علاقاتها بإسرائيل بتحقيق الأمن الإقليمي والاستقرار، وتعديل هيكل التوجهات الإسرائيلية نحو المنطقة عبر إقرار السلام وإقرار حق الشعب الفلسطيني والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، وقد لا تفكر المؤسسة السياسية والأمنية في مصر في الإقدام على خطوات على طريق تطوير العلاقات مع إسرائيل قبل تحقق هذا الهدف.

"
السياسة المصرية الخارجية فقدت الكثير من قدرتها ومصداقيتها في مجال ضبط التفاعلات الواقعة والناجمة عن خروج مصر كفاعل إستراتيجي في مواجهة إسرائيل
"

أما قيادة المنطقة في هذه الآونة فتمثل مصدر قلق لكل من مصر وإسرائيل على حد سواء، ذلك أن إسرائيل تنزع بتفوقها العسكري والتكنولوجي والاقتصادي نحو قيادة المنطقة، وهو الدور الذي اضطلعت به مصر في الحقبة الناصرية وتتطلع إليه دائما في عهد مبارك، رغم أن اختلالات موازين القوى بين العرب أجمعين وإسرائيل يضع مفاتيح الحل والاستقرار والسلام بيد إسرائيل، بتفوقها النوعي وتحالفها وثيق العرى مع الولايات المتحدة الأميركية.

لم تكن مصر تنتظر تصريحات شمعون بيريز في مؤتمر الدار البيضاء إبان التفاؤل بعد اتفاق أوسلو عام 1996 الذي خاطب فيه الدول العربية الممثلة في المؤتمر قائلا "لقد جربتم قيادة مصر في السابق فلتجربوا قيادة إسرائيل الآن!" كانت مصر تدرك أن هاجس القيادة والسيطرة لا يزال يداعب أحلام الإسرائيليين، إذ تطرح إسرائيل نفسها منافسا لمصر وتنازعها الدور الإقليمي الذي كان حكرا عليها في وقت سابق، ولم يفارق المخيلة السياسية المصرية حتى الآن، رغم ما اعترى الكثير من الأشياء من تغير، ورغم المستجدات التي طرأت على المسرح الإقليمي.

وهكذا يمثل هاجس الأمن الإقليمي والاستقرار والقيادة تحديا كبيرا لتطور العلاقات المصرية الإسرائيلية، خاصة مع استمرار حصار غزة برا وبحرا وجوا وحشر ما يقرب من 1.5 مليون فلسطيني في هذه البقعة من الأرض بمحاذاة الحدود المصرية.

2-التحدي النووي الإسرائيلي

مصر ومعها الدول العربية صاحبة مبادرة إخلاء الشرق الأوسط من الأسلحة النووية، وتأكد ذلك عبر العديد من التوصيات والقرارات. تتمسك مصر بضرورة توقيع إسرائيل على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية وإخضاع المنشآت النووية الإسرائيلية التي يقع بعضها غير بعيد عن الحدود المصرية، لإشراف وكالة الطاقة الذرية ورقابة مفتشيها، وترفض إسرائيل التوقيع على هذه المعاهدة كما ترفض إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية على منشآتها.

تعتمد إسرائيل -وتؤيدها الولايات المتحدة الأميركية- ما يسمى "بسياسة الغموض النووي" وبمقتضى هذا المبدأ لا تعترف إسرائيل كما أنها لا تنفي امتلاكها أسلحة نووية، في حين أن العديد من الخبراء حول العالم ومن بينهم بعض اليهود يؤكدون امتلاك إسرائيل لما يفوق مائتي رأس نووي أو قنبلة نووية.

وترى مصر في امتلاك إسرائيل السلاح النووى تهديدا لأمنها وأمن شعوب المنطقة، قد يفتح الباب أمام سباق التسلح في الشرق الأوسط، ولا تألو مصر جهدا في الترويج لإخلاء الشرق الأوسط من السلاح النووي، في المحافل الدولية المختصة، وترى أن ذلك هو صمام الأمان لكل شعوب المنطقة ودرء الأخطار عنها، وتخصيص مواردها لرفاهية شعوبها.

ويعد السلاح النووي الإسرائيلي من أكبر التحديات التي تواجه تطور العلاقات مع إسرائيل، ذلك أن هذا السلاح يقف متناقضا مع أسس وعناصر الإدراك السياسي المصري لطبيعة السلام في المنطقة التي تحفل بالعديد من المشكلات والقضايا التي تعترض طريق تطور شعوبها.

لم تر مصر أي تناقض بين استمرار التزامها ببنود معاهدة السلام مع إسرائيل وتوجهها الدعائي والإعلامي والسياسي المتعلق بتملك إسرائيل للسلاح النووي ورفضها الانضمام لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، والحال أن ملف إسرائيل النووي يخلق مساحة للتوتر والمشاحنات والعقبات أمام تطوير العلاقات الثنائية بين البلدين.

3-التحدي الإيراني

يخلق تنامي الدور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط مضاعفات كثيرة للسياسة المصرية من وجهة نظر النظام السياسي المصري، وتنعكس هذه المضاعفات والتداعيات على العلاقات بين مصر وإسرائيل، حيث تطرح إيران نفسها قوة إقليمية ذات تطلعات نووية، ورغم تأكيد الطابع السلمي والمدني لبرنامجها النووي فإن العديد من الشكوك تساور الدوائر المصرية والعربية حول إمكان تحول هذا البرنامج المدني والسلمي إلى برنامج نووي عسكري ينتهي بتملك إيران للسلاح النووي.

وإذا ما حدث ذلك وتملكت إيران السلاح النووي، فقد تفكر مصر في الحصول على مثل هذا السلاح، رغم أنها أوقفت برنامجها النووي في السبعينيات، فمصر والدول العربية السنية قد تجد نفسها مدفوعة للحصول على سلاح نووي "سني" في حالة تملك إيران سلاحا نوويا سيعد "شيعيا" أخذا في الاعتبار الانقسام المذهبي بين إيران والدول العربية.

تجد مصر إيران منافسا قويا لها على الساحة الإقليمية في الشرق الأوسط، فهما بلدان إسلاميان كبيران في المنطقة رغم اختلافهما المذهبي، وتمتلك إيران مثلها في ذلك كمثل مصر حضارة طويلة ضاربة في أعماق التاريخ، وذلك فضلا عن ضخامة مواردها ومساحتها وموقعها، وتخشى مصر أن تقوم إيران في المنطقة بالدور الذي قامت به مصر إبان حقبة الخمسينيات والستينيات، حيث كانت مصر قوة رائدة ترفع راية التغيير والثورة وتدفع برياحها صوب الأنظمة التقليدية المحافظة خاصة في الخليج.

بيد أن تملك إيران للسلاح النووي واحتمال توجه مصر والدول العربية لتملك سلاح نووي سيخلق مضاعفات للعلاقات بين إسرائيل ومصر، فلن تستطيع حجة مصر في حالة سعيها للحصول على سلاح نووي في مواجهة إيران إقناع الجانب الإسرائيلي، إذ سيعتبر ذلك موجها بالدرجة الأولى لإسرائيل، ولن تمتنع إسرائيل في هذه الحالة عن تعطيل هذا التوجه المصري أو العربي كما فعلت في العراق، وسوف تتوتر العلاقات المصرية الإسرائيلية.

وفضلا عن ذلك فإن التوجه الإيراني لتملك السلاح النووي –بافتراض جديته- سيفتح سباق التسلح في المنطقة وستسعى الدول العربية الخليجية لمواجهة هذا الوضع، وقد يمنح هذا التوجه الإيراني مشروعية ومصداقية لتملك إسرائيل السلاح النووي، وهو ما يتعارض كلية مع سعي مصر والدول العربية ومجموعة عدم الانحياز والدول الإسلامية لإخلاء منطقة الشرق الأوسط من السلاح النووي، ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى أن إيران منضمة لمعاهدة الحد من انتشار السلاح النووي وتخضع منشآتها النووية لمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتؤكد الطبيعة السلمية لبرنامجها النووي.

4-التحدي الداخلي

يثار كثير من الجدل خاصة في إسرائيل حول مستقبل العلاقات المصرية الإسرائيلية في حقبة ما بعد "مبارك"، حيث تجاوز الرئيس مبارك الذي يحكم مصر منذ 1981 الثمانين عاما، ويدور الحديث حول من سيخلف مبارك في رئاسة مصر، وهذا السؤال من وجهة النظر الإسرائيلية يمثل مصدرا للقلق حول مستقبل العلاقات مع مصر، ففي حالة ترشيح مبارك الأب نفسه لولاية رئاسية أخرى * فيعد ذلك من وجهة النظر الإسرائيلية ضمانا لاستمرار العلاقات بوتيرتها الحالية، أما في حالة حدوث أزمة في انتقال السلطة يترتب عليها صعود الإخوان المسلمين إلى الحكم وبعض القوى الأخرى، فإن ذلك الاحتمال سيضع هذه العلاقات في مهب الريح بسبب نظرة الإخوان للصراع والثغرات الموجودة في معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي تنتقدها التيارات الوطنية في مصر.

أما في حالة ترشيح جمال مبارك للرئاسة فإنه يحتاج لدعم المؤسسة العسكرية التي يصعب تأييدها لجمال بسبب أنه يجيء من خارج هذه المؤسسة، من مجال الأعمال والبنوك، كما أن توجهات جمال مبارك سياسيا واقتصاديا قد تضر بمصالح المؤسسة العسكرية، ولكن جمال مبارك من وجهة النظر الإسرائيلية سيدعم سياسة سلفه وأبيه في دعم العلاقات مع إسرائيل وإبقائها في مستواها الراهن، وقد ينطوي الأمر على بعض المخاطر في حالة ما إذا حاول مبارك الابن، بسبب عدم شعبيته وللحصول على شعبية تبني تصعيد محسوب ضد إسرائيل لتدعيم مركزه الداخلي، ويرى المراقبون الإسرائيليون أنه ينبغي على إسرائيل أن تدعم مبارك الابن بطرق وأساليب غير علنية حتى يدعم مركزه في الحكم.(2)

وفي جميع الحالات فإن العلاقات المصرية الإسرائيلية ستتأثر بكل هذه الاحتمالات إذا ما قدر لأي منها أن يرى النور، وهكذا فإن حقبة ما بعد مبارك وطبيعتها وآلياتها ستكون من المحددات للعلاقات بين مصر وإسرائيل.

5-تحدي عملية السلام

تعد عملية السلام واستكمالها إن على المسار الفلسطيني أو المسار السوري اللبناني من أهم المحددات لمستقبل العلاقات المصرية الإسرائيلية والعلاقات العربية الإسرائيلية بشكل عام، حيث تربط مصر مبارك بين تطوير علاقاتها بإسرائيل وتوجه إسرائيلي جدي إزاء عملية السلام والدخول في مفاوضات بناءة، بالتخلي عن العنف الموجه ضد الشعب الفلسطيني والالتزام الإسرائيلي الجدي بقرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية.

وليس من المتوقع أن يتحول "السلام البارد" مع مصر إلى سلام حار ودافئ كما تتمنى إسرائيل إلا مع استكمال عملية السلام لاستقرار وأمن المنطقة ومعالجة قضايا الدولة الفلسطينية والحدود والقدس واللاجئين.

ولا شك أن معالجة القضية الفلسطينية من أهم التحديات التي تقف في وجه تطور العلاقات المصرية الإسرائيلية، فهي –أي القضية الفلسطينية– لا تتعلق فحسب بالأمن الإقليمي والقومي العربي بل تتعلق أيضا بالأمن القومي المصري وعلاقات مصر الطبيعية والجغرافية والتاريخية والسياسية والإستراتيجية بفلسطين والشعب الفلسطيني قبل قيام إسرائيل وبعد قيامها.

6-نشوب حرب في المنطقة

يلعب احتمال نشوب حرب في المنطقة بين إسرائيل وسوريا أو بين إسرائيل ولبنان دورا هاما في العلاقات المصرية الإسرائيلية وكذلك تصاعد العنف الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.

فمن شأن تحقق هذه الاحتمالات أي نشوب الحرب أن يخلق مضاعفات وتحديات لمصر، ويفتح الطريق للضغوط الشعبية من أحزاب المعارضة والحركات الشعبية للمطالبة بإغلاق السفارة الإسرائيلية أو سحب السفير المصري في تل أبيب، خاصة إذا ما كانت إسرائيل هي التي بادرت بشن حرب ضد سوريا أو ضد لبنان والمقاومة اللبنانية، ففي هذه الحالة لن تستطيع مصر الوقوف في صفوف المتفرجين ولا يعني ذلك إعلان الحرب ضد إسرائيل أو بدء مواجهة عسكرية معها وإنما يعني تجميدا جزئيا أو كليا لهذه العلاقات وإضافة مصادر جديدة للتوتر بين البلدين وخلق المزيد من العقبات أمام هذه العلاقات الثنائية، ولن يكون في مقدور مصر أيا كان من يحكم أن يتجاهل الغضب الشعبي والضغوط الشعبية خاصة إذا ما كانت قوية ومؤثرة.

ولكن الوضع سيختلف إذا ما كانت سوريا هي التي بدأت الحرب -وهو سيناريو مستبعد- حيث تستطيع مصر أن تقنع الدول العربية بأن سوريا تساهم في خلق عدم الاستقرار في المنطقة وتعرض أمن المنطقة للخطر، ولا يعني ذلك بالضرورة أن مصر ستبارك رد الفعل الإسرائيلي أو توافق على إطلاق اليد العدوانية الإسرائيلية ضد سوريا، بل يعني أن قدرة مصر على المناورة ستكون أكبر في حالة بدء سوريا الحرب.

وفي جميع الأحوال فإن نشوب حرب في المنطقة بين إسرائيل وسوريا أو بين إسرائيل ولبنان أو تصاعد العنف الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني بصرف النظر عمن بدأ الحرب والعنف سيضع قيدا على تطوير العلاقات الثنائية بين مصر وإسرائيل ويجعلها تراوح مكانها في الحد الأدنى أو يضع مستقبل هذه العلاقات في مهب الريح.

7- وضع سيناء المصرية

لقد فرضت اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل قيودا على انتشار القوات المسلحة المصرية في مناطق سيناء المختلفة وفق التقسيم إلى مناطق أ وب وج من الشرق وحتى معابر سيناء الحدودية، رغم الاعتراف بالسيادة المصرية الكاملة عليها، وينظر لهذا الأمر سواء من قبل دوائر المعارضة والتيارات السياسية المختلفة أو في دوائر الأمن القومي المصري على أنه مجحف بسيادة مصر، وفي حين تتمسك إسرائيل باحترام هذا البند من المعاهدة، فإن من شأن أي إجراء مصري لخرق وتجاوز هذه القيود سيترتب عليه ردود فعل إسرائيلية تؤثر في طبيعة العلاقات بين البلدين.

ففي حالة نشوب حرب ومواجهات عسكرية بين إسرائيل وسوريا أو إسرائيل ولبنان وتدهور الوضع السياسي في إسرائيل وضعف موقفها على الساحة الدولية قد تدفع مصر ببعض قواتها في سيناء واعتبار ذلك إجراء دفاعيا بسبب وجود استعدادات عسكرية إسرائيلية ضد سيناء، وفي هذه الحالة قد تشهد العلاقات المصرية الإسرائيلية توترات وأزمات يصعب تحديد ملامحها من الآن، والمؤكد أنها -أي هذه العلاقات- ستتأثر سلبا بالمستجدات على الساحة الإقليمية.

الآثار الإستراتيجية للعلاقات المصرية الإسرائيلية

تقف العلاقات المصرية الإسرائيلية ومعاهدة السلام التي استندت إليها، وراء العديد من التداعيات والآثار ذات الطابع الإستراتيجي العام، التي تخص مصر والعالم العربي والقضية الفلسطينية، ونركز في هذه الخلاصة على أهم وأبرز هذه التداعيات وآثارها في الأوضاع العربية والفلسطينية العامة.

فيما يخص مصر أولا فإن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وتطبيقاتها في الواقع، أي في سيناء، قد فرضت قيودا على انتشار القوات المسلحة المصرية بدرجات متفاوتة، وتمثل هذه القيود -رغم السيادة النظرية المصرية على سيناء– قضية مثيرة للجدل بين النظام والمعارضة وربما أيضا في بعض كواليس أجهزة الدولة، خاصة الأمنية منها، حيث تشكل هذه القضية مساسا بالكرامة الوطنية من وجهة نظر القوى المعارضة، ووضعا يجب السعي إلى تعديله إن بإعادة التفاوض أو الدبلوماسية من وجهة نظر بعض الدوائر الأمنية.

في التاريخ المصري ثمة بوابتان للأمن القومي المصري أولاهما منطقة الشام بما فيها فلسطين في الشرق، وبوابة الجنوب المتمثلة في دول حوض النيل ومنابعه، فعبر الشام وفلسطين جاءت الغزوات من قبل الحيثيين والهكسوس وغيرهم من الطامعين في العصور القديمة في استقرار مصر ورخائها وازدهار حضارتها وثقافتها، أما من الجنوب فثمة شريان الحياة في مصر، ألا وهو نهر النيل الذي قال عنه المؤرخ اليوناني هيرودوت "مصر هبة النيل".

والحال أن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية قد فكت الارتباط –إلى حين- بين مصر وبوابتها الشرقية، حيث قبلت مصر بالخروج من الصراع العربي الإسرائيلي بثقلها الإستراتيجي والعسكري والتاريخي -حتى لو لم تكن في البداية تريد ذلك تماما– ولكن هذا ما انتهى إليه الأمر فعليا.

وقد ترتب على خروج مصر من الصراع نشوء فراغ إستراتيجي عربي، ليس بمقدور بلد آخر أن يملأه، وهذا الفراغ قد منح إسرائيل مزايا نوعية إضافية، تضاف إلى رصيدها الإستراتيجي العسكري، وركزت معظم أو أغلب هذا الرصيد صوب البلدان العربية الأخرى (لبنان 1982) والشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة والعراق (تدمير مفاعل تموز 1981) وغير هذه الوقائع من حروب واعتداءات متكررة.

ومن منظور ميزان القوى بين العرب وإسرائيل فإن معظم المحللين والمراقبين العرب وغير العرب يرون الآن بعد العدوان الأميركي على العراق وتدميره واتساع نطاق الفتنة فيه، إضعافا للدول العربية في مواجهة إسرائيل، وتعزيزا لموقف هذه الأخيرة في مواجهة العرب أجمعين، فما بالنا بمصر بثقلها الديموغرافي والعسكري في مواجهة إسرائيل.

ومن ناحية أخرى فإن دور مصر الإقليمي وتأثير النموذج الذي تمكنت من صنعه وصياغته إبان حقبة الخمسينيات والستينيات، قد أصابه قدر كبير من التراجع على الصعيد العربي والأفريقي، وهذا الأخير أي الصعيد الأفريقي الذي تمثل في اتفاق دول منابع نهر النيل على إعادة توزيع حصص مياه النهر مرة أخرى، توزيعا يلائم احتياجات هذه البلدان ويقلل من نصيب مصر من المياه، وهو الأمر الذي تم الانتباه إليه مؤخرا في الدوائر والسياسات المصرية عبر ضخ المزيد من الاستثمارات المصرية في إثيوبيا ومساعدة بلدان منابع النهر في أعقاب الأزمة الأخيرة، خاصة بعد اتضاح الدور الإسرائيلي في ما آلت إليه الأمور.

ومع ذلك حاولت مصر إعادة بناء دورها على ضوء هذه المتغيرات الجديدة، التي لحقت بسياستها، حيث حاولت وعبر علاقاتها إن بإسرائيل أو الولايات المتحدة الأميركية أن تلعب دور الوسيط بين هؤلاء وبين ممثلي الشعب الفلسطيني، وحاولت أن تضبط الأداء الإسرائيلي المنفلت.

ومن ثم ألقت مصر بثقلها في قضية المصالحة الفلسطينية الفلسطينية بين فتح وحماس، وتمكنت من جمع الفرقاء الفلسطينيين في القاهرة لتوقيع اتفاقية القاهرة عام 2005، وبعد سيطرة حماس على غزة ورغم عدم اعترافها بذلك وعدم ارتياحها لصعود حماس، أبقت على كل القنوات مفتوحة للحوار بين شقي المشروع الوطني الفلسطيني ورأب الصدع بينهما وتحقيق التهدئة والمصالحة وتجنب حدوث كارثة إنسانية في قطاع غزة وعلى حدود مصر.

عاد العرب إلى مصر أو عادت مصر إلى العرب بعد القطيعة والعزلة التي عانتها مصر جراء المبادرة والمعاهدة والعلاقات الثنائية بين مصر وإسرائيل، ولكن هذا كله تم في إطار تغير كبير اعترى الموقف العربي، وأصبح فيه السلام مع إسرائيل خيارا إستراتيجيا، عبر المشاريع التي قدمت إبان وقبل هذه العودة لمصر وللعرب، وتراجع فيه مشروع التحرير بالقوة المسلحة، وقبلت الدول العربية جميعا بدولة فلسطينية على أراضي العام 1967، وتراجع فيه الخيار العسكري وبرز بوضوح مشروع المقاومة التي تتبنى تكتيك حرب العصابات على غرار حزب الله وحماس.

وأيا كانت محاولات مصر لرأب الصدع ومعالجة الاختلالات التي نجمت عن المعاهدة المصرية الإسرائيلية، فإن السياسة المصرية الخارجية فقدت الكثير من قدرتها ومصداقيتها في مجال ضبط التفاعلات الواقعة والناجمة عن خروج مصر كفاعل إستراتيجي في مواجهة إسرائيل -حتى ولو حاولت القيام بهذا الدور على الصعيد الدبلوماسي والسياسي– تجاه البوابة الشرقية للأمن المصري المتمثلة في الشام وفلسطين ككتلة إستراتيجية واحدة، رغم عدم وجود تهديد مباشر حتى الآن وأيضا تجاه البوابة الجنوبية لمصر المتمثلة في دول حوض ومنابع النيل خاصة السودان الذي يبدو أنه في الطريق للتفتت والانقسام.

وفي كلتا الجبهتين أصبحت إسرائيل قاسما مشتركا أعظم في هاتين المنطقتين، بما لها من أدوات اقتصادية وأمنية وعسكرية وتكنولوجية. لقد أفسح تراجع الدور الإقليمي لمصر المجال لظهور فاعلين إقليميين جدد أو قدامى، حيث يزداد الدور الإسرائيلي ودور تركيا ودور إيران في المنطقة وهي دول ليست عربية.

وقد أفضى ذلك إلى زعزعة وخلخلة دور المثلث الذي عرفه النظام العربي والذي كان يتمثل في السعودية ومصر وسوريا، وكان يمكن أن يلعب دور القاطرة في تماسك النظام العربي عامة في مواجهة القوى الدولية والإقليمية التي تتنازع السيطرة على مصير المنطقة.

ورغم ذلك أظهرت مصر قدرات تكتيكية ومهارات عملية لتوظيف معطيات إقليمية ودولية لامتصاص الضغوط الداخلية والخارجية.

وفي هذا الإطار وعلى ضوء الخلل المتزايد في علاقات القوى على الصعيد الإقليمي عامة والصعيد العربي الإسرائيلي خاصة يمكن لمصر والعالم العربي البدء في محاولة ترتيب البيت العربي على أسس جديدة وبناء توافق عربي يدعم التكامل ويحقق منافع مشتركة للبلدان العربية وفتح حوار مع إيران لتبديد المخاوف وتحقيق الأمن لكل الدول في المنطقة وكذلك اعتبار إسرائيل مصدر التهديد الرئيس على الأمن العربي عامة وممارسة كل الضغوط الممكنة والمقبولة لوحدة الحركة الوطنية الفلسطينية وترشيد المقاومة ودعمها.

وما أشرنا إليه آنفا يعد طريقا طويلا ولكنه ضروري لفتح نوافذ ومسالك جديدة واستشراف إستراتيجية مختلفة لتصحيح التوازن والخلل لصالح القضايا العربية.
__________________
كتبت هذه الورقة في 27 سبتمبر/أيلول 2010

عبد العليم محمد، مستشار مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام.
1- الكويز: يعرف ببروتوكول المناطق الصناعية المؤهلة (الكويز) Qualified  industrial zone، وقد وقعته مصر مع الحكومة الإسرائيلية والولايات المتحدة الأميركية عام 2004 ويتلخص مضمونه في السماح بدخول صادرات المنسوجات المصرية إلى الأسواق الأميركية دون رسوم بشرط وجود مكون إسرائيلي في هذه المنسوجات بنسبة 10.5%، وقد بلغ عدد الشركات المصرية المنضمة والمستفيدة من هذا الاتفاق حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2008، 689 شركة في الإسكندرية والعاشر من رمضان وشبرا الخيمة وغيرها من المناطق الصناعية في مصر. ولمزيد من المعلومات انظر: التقرير الإستراتيجي الفلسطيني 2005، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات بيروت 2005، ص 103 - 104. وانظر أيضا: منار الشوربجي، العلاقات المصرية الأميركية، ملف مصر على مفترق طرق، مركز الجزيرة للدراسات 2010. (المحرر)

2- قضت الثورة الشعبية التي اندلعت في مصر يوم 25 يناير/كانون الثاني 2011 على مساعي جمال مبارك لخلافة أبيه. (المحرر)

سبتمبر 24, 2011

العلاقات المصرية الأميركية: كيف يصحح الخلل ويتحقق التوازن؟

411

العلاقات المصرية الأميركية انطوت منذ البداية على خلل لا يمكن دون علاجه إحداث توازن  (الفرنسية-أرشيف)

منار الشوربجي

بعد سنوات ثمان من التدهور غير المسبوق أثناء فترة حكم بوش، شهدت العلاقات المصرية الأميركية تحسنا ملحوظا منذ تولي أوباما الرئاسة. لكن ذلك التحسن الذى يقاس بالمقارنة بسنوات سابقة لا يعني بالضرورة أن تلك العلاقات جيدة أو تحقق المصلحة المصرية؛ فالعلاقات المصرية الأميركية انطوت منذ البداية على خلل جوهري لا يمكن دون علاجه إحداث توازن في تلك العلاقة يحقق مصالح البلدين ويرعى المصالح الحيوية المصرية على وجه التحديد.

أولا: العلاقات الاقتصادية
ثانيا: العلاقات العسكرية
ثالثا: العلاقات السياسية

فالعلاقات المصرية الأميركية شهدت تحولا نوعيا بعد توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 1979. وقد صارت تلك المعاهدة هى نقطة البدء لفهم العلاقة الحالية بين مصر وأميركا، والتى صار يطلق عليها أوصاف من نوع العلاقات "الخاصة" و"الإستراتيجية".. إلخ.

ولعل السمة الأهم التى اتسمت بها العلاقات المصرية الأميركية منذ ذلك التاريخ وحتى الآن هي أنها لم تكن أبدا علاقة ثنائية وإنما ظلت منذ اللحظة الأولى وحتى الآن علاقة ثلاثية؛ فإسرائيل طرف رئيسي في تلك العلاقة، لا يغيب عنها أبدا.

معنى ذلك أن العلاقة المصرية الأميركية لم تكن في أي وقت علاقة ثنائية بين دولتين كل المطلوب من كل منهما هو فهم المصالح المشتركة والعمل على تنميتها وصيانتها بشكل ثنائي أحيانا وفردي أحيانا أخرى عبر مراعاة الطرف الآخر؛ فلأن هناك طرفا ثالثا، فقد كان يتعين رعاية مصالحه هو الآخر. ولأن أميركا هى التى لها في الحقيقة علاقة "خاصة" و"إستراتيجية" مع إسرائيل، فقد صار على مصر في علاقتها بأميركا أن تراعي ليس فقط المصالح الأميركية وإنما كان عليها كجزء محوري في بناء العلاقة مع أميركا أن ترعى أيضا مصالح إسرائيل، صاحبة المصلحة الأولى في تهميش دور مصر أو على الأقل تحييدها في المنطقة.

"
العلاقات المصرية الأميركية انطوت منذ البداية على خلل جوهري لا يمكن دون علاجه إحداث توازن في تلك العلاقة يحقق مصالح البلدين ويرعى المصالح الحيوية المصرية على وجه التحديد، هذا الخلل يكمن في دخول إسرائيل كطرف ثالث محدد لهذه العلاقة

"
ومن هنا، فإنه مهما قيل عن تحسن العلاقات المصرية الأميركية في لحظة من اللحظات، فإن تلك العلاقات انطوت على تناقض داخلي دائم. فبينما يُفترَض نظريا أن يكون من مصلحة أميركا ألا تكون مصر ضعيفة حتى تستفيد أميركا من دورها ونفوذها الإقليمى، فإن وجود طرف ثالث –هو إسرائيل- كان معناه في أحيان كثيرة أن تكون المصلحة هي تحجيم دور مصر وليس العكس. وهو ما يؤدي بالضرورة إلى الإضرار بمصالح مصر بل وأحيانا بمصالح أميركا نفسها كما بدأت الأخيرة تدرك مؤخرا.

وكما سوف يتضح من هذه الدراسة فإن كل مسارات العلاقات المصرية الأميركية لم تكن أبدا ملك الطرفين الأميركي والمصري فقط، وإنما ظلت دوما رهنا لرغبات إسرائيل ومصالحها، بل صارت إسرائيل قادرة على توتير علاقة أميركا بمصر أو تقويتها حسب مصلحتها في كل فترة زمنية. بعبارة أخرى، فإن تحسن العلاقة مع أميركا ليس في الحقيقة في يد مصر وأميركا وإنما في يد مصر من جانب وأميركا وإسرائيل معا من الجانب الآخر.

وسوف تنقسم هذه الدراسة إلى أجزاء ثلاثة تتناول الأبعاد الاقتصادية والعسكرية والسياسية للعلاقات المصرية الأميركية، وتنتهى بخاتمة تشرح نتائج الدراسة.

أولا: العلاقات الاقتصادية

دشنت معاهدة كامب ديفيد ما صار يُعرَف "بالدعم الأميركي المالي للسلام"، وهو ما تمثل في معونات اقتصادية وعسكرية للطرفين الموقعين على الاتفاق. وقتها صدر في 1979 قانون الاعتمادات المالية الأميركي الذى وضع الأسس التى يتم بناء عليها تقديم تلك المساعدات لمصر وإسرائيل. ومنذ اللحظة الأولى ومن خلال هذا القانون -وكما ظل الحال لعقود طويلة لاحقة- كان حجم المعونات الأميركية المقدمة لإسرائيل أعلى من تلك المقدمة لمصر بنسبة 2:3 .

وبموجب ذلك، فقد ظل حجم المعونة الاقتصادية السنوية المقدمة لمصر حوالى 850 مليون دولار، وذلك منذ توقيع اتفاق كامب ديفيد وحتى عام 1998؛ ففي ذلك العام، وقعت إسرائيل مع الولايات المتحدة اتفاقا يقضي بالعمل بشكل تدريجي على تخفيض المعونة الاقتصادية لإسرائيل في غضون عشر سنوات حتى تنتهي تماما، وذلك بالتزامن مع زيادة المعونة العسكرية بشكل تدريجي أيضا خلال المدة نفسها.

ولأن المعونات المقدمة لمصر كان قد تم ربطها منذ اللحظة الأولى بالمعونات لإسرائيل، بل كان هناك حرص شديد على الاحتفاظ بنسبة 2:3 آنفة الذكر؛ فقد تم البدء منذ عام 1998 أيضا في تخفيض المعونة الاقتصادية لمصر على نحو تدريجي هى الأخرى، بينما لم تحصل مصر على زيادة في معونتها العسكرية كما حدث مع إسرائيل. بعبارة أخرى، اتفقت أميركا مع إسرائيل بناء على مطلب إسرائيلى على تخفيض المعونة الاقتصادية وزيادة المعونة العسكرية تدريجيا خلال مدة عشر سنوات فتم بالتبعية تخفيض المعونة الاقتصادية لمصر لتظل النسبة 2:3، بينما لم تتم زيادة المعونة العسكرية لمصر للاحتفاظ بالنسبة نفسها!

وقد ظلت المعونة الاقتصادية لمصر تنخفض بواقع 40 مليون دولار كل عام إلى أن وصلت إلى 411 مليون دولار في العام المالى 2008. لكن إدارة بوش قامت بتخفيض المعونة 200 مليون إضافية دون إبداء الأسباب؛ فهي حين تقدمت كأي إدارة بطلب الاعتمادات المالية للكونجرس للعام المالى 2009، طلبت فيه لمصر معونة اقتصادية مقدارها 250 مليون دولار وهو ما وافق عليه الكونجرس. وقد طلبت إدارة أوباما للعام المالى 2010 حجم المعونات الاقتصادية نفسه أي 250 مليون دولار.

ونظرا للتخفيض التدريجي للمعونة الاقتصادية فضلا عن أن 50 مليون دولارا كان يتم استقطاعها من تلك المعونة في عهد بوش لتوجه مباشرة لمنظمات المجتمع المدنى المصرى ، فقد سعت الحكومة المصرية لإحداث تحول في العلاقة الاقتصادية مع أميركا على محورين: الأول: هو تحويل المعونة إلى صندوق وقفي، والثانى: هو تحويل العلاقة الاقتصادية من علاقة معونة إلى التركيز الأكبر على التجارة والاستثمار.

أما فيما يتعلق بالمعونة، فقد طالبت مصر بإنشاء صندوق تشارك فيه الولايات المتحدة بمبلغ ما، على أن تضع الحكومة المصرية في ذلك الصندوق مبلغا مماثلا ويتم استخدام أموال الصندوق في تمويل مشروعات تنموية مشتركة. وتحويل المعونة إلى صندوق وقفي في صالح الجانب المصرى بلا شك لأنه من ناحية يعطي للعلاقة الاقتصادية شكلا مختلفا، ومن ناحية أخرى يخلص مصر من مشروطية المعونات، ويعفيها من خوض عملية الاعتمادات السنوية والتي يتم خلالها إعادة فحص العلاقة مع مصر في الكونجرس قبل الموافقة على تخصيص المبالغ المقترحة. إلا أن المطلب المصرى قوبل بالرفض من جانب الكونجرس وإدارة بوش. لكن تحولا محدودا حدث مؤخرا حين ضم مشروع قانون اعتمادات العام المالى 2010 في مجلس الشيوخ فقرة تقضي بإنشاء مثل ذلك الصندوق، وإن لم يتم الموافقة على ذلك في نهاية الأمر.

أما على مستوى التجارة والاستثمار، فقد سعت مصر لعقد اتفاقية للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة. وقد تم فعلا في عام 1999 توقيع اتفاق إطاري للتجارة والاستثمارTrade and Investment Framework Agreement (TIFA) كخطوة أولى. إلا أن التوتر في العلاقات المصرية الأميركية في عهد بوش حال دون توقيع ذلك الاتفاق الذى وقَّعت أميركا على مثله مع الأردن والبحرين والمغرب (وهى كانت قد وقعته مع إسرائيل فيما سبق بطبيعة الحال). ورغم تحسن العلاقات في عهد أوباما إلا أن سيطرة الحزب الديمقراطي على الرئاسة والكونجرس تجعل من الصعوبة بمكان التوصل لمثل ذلك الاتفاق. فمن ناحية يظل الديمقراطيون هم الأكثر تحفظا إزاء اتفاقات التجارة الحرة عموما، ومن ناحية أخرى، فإن الأوضاع الاقتصادية الراهنة في الولايات المتحدة من شأنها أن تدفع نحو المزيد من تشدد الديمقراطيين إزاء مثل تلك الاتفاقات. أما فيما يتعلق بالاستثمارات الأميركية في مصر فقد بلغت وفق آخر التقديرات حوالى 7,5 مليار دولار أغلبها في مجال البترول والغاز.

والحقيقة أن أميركا هي الشريك التجاري الأول- كدولة- لمصر بينما تأتي مصر في المرتبة الثانية والخمسين بين شركاء أميركا التجاريين. لكن لأن أميركا هي الشريك التجاري الأول لمصر، بما يعني حاجة المصدِّرين المصريين للسوق الأميركية فقد نجحت الولايات المتحدة في أن تفتح الباب لإسرائيل للتطبيع مع الصناعة المصرية عبر ما صار يُعرَف باتفاقية الكويز.

ففي عام 1996، كان الكونجرس قد أنشأ ما يُسمَّى بالمناطق الصناعية المؤهلة Qualified Industrial Zones (QIZ) ، وجوهر الفكرة هو تشجيع التعاون بين الدول العربية وإسرائيل عبر منح البضائع التي تُنْتَج في تلك المناطق الصناعية المنشأة في دول عربية إعفاء جمركيا لدى دخولها السوق الأميركية، بشرط أن يدخل في صناعاتها مكونات إسرائيلية. وبناء على ذلك عقدت مصر مع إسرائيل في 2004 اتفاقا لإنشاء تلك المناطق في مصر، ليتم التعامل مع منتجاتها وفق قرار الكونجرس وفي إطار اتفاقية التجارة الحرة الأميركية الإسرائيلية. بعبارة أخرى، فإن مصر التى لم توقع اتفاقا للتجارة الحرة مع أميركا صارت بضائعها تدخل السوق الأميركية وفق اتفاق التجارة الحرة بين إسرائيل وأميركا وبشرط وجود مكونات إسرائيل في المنتج المصدَّر. وقد تم التوسع في إنشاء تلك المناطق في عام 2007، ثم مرة أخرى عام 2009 بموجب اتفاق عقدته مصر مع الولايات المتحدة الأميركية عُرِف باسم "الخطة المصرية الأميركية للشراكة الإستراتيجية". أما البضائع التى تنتج في تلك المناطق الصناعية في مصر فهي في غالبيتها العظمى من المنسوجات وهي تصدر لأميركا معفاة من الجمارك بشرط أن يضم إنتاجها مدخلات إسرائيلية بنسبة 10.5%، بينما ينص اتفاق الكويز الأردني على مدخل إسرائيلى بنسبة 8% فقط.

والحقيقة أن قطاع المنسوجات المصري قد وجد نفسه محاصرا قبل إبرام تلك الاتفاقية حتى إن المصدرين المصريين بعد أن عارضوا الاتفاق بشدة أول الأمر صاروا من أكثر المؤيدين له؛ فقد جاء الاتفاق في وقت كانت فيه تلك الصناعة تعاني من أزمة حقيقية في التصدير؛ فحتى عام 2005، كان المصدرون المصريون يستفيدون من نظام الحصص الدولى الذى كان قد استثنى صناعة النسيج والملابس العالمية من تحرير التجارة وفق الجات. وذلك لأن تلك الحصص المفروضة على عمالقة الصناعة كالهند والصين كانت تحمي بدرجة معقولة نصيب مصر وغيرها من الدول في الأسواق. لكن إنشاء منظمة التجارة العالمية في 1995 ثم توقيع اتفاق المنسوجات والملابس في العام نفسه والذي كان يقضي بالتخلص التدريجي من نظام الحصص في غضون عشر سنوات (حتى انتهى العمل به فعلا في 2005) قد فتح الباب واسعا للمنافسة الشرسة. وفضلا عن ذلك، فإن الولايات المتحدة كانت قد أصدرت في عام 2000 قانون النمو والفرص لأفريقيا، المعروف اختصارا باسم أجوا AGOA، وهو القانون الذى أعطت بمقتضاه معاملة تفضيلية في الدخول للسوق الأميركية للكثير من الدول الأفريقية المنتجة للمنسوجات. ولأن مصر لم تنجح في توقيع اتفاق للتجارة الحرة مع أميركا من ناحية فضلا عن أن السوق الأميركية ظلت هي سوق التصدير رقم واحد بالنسبة للمنسوجات والملابس المصرية من ناحية أخرى، فإن المصدرين المصريين الذين كانت صناعتهم في وضع مأزوم أصلا وجدوا في الكويز-بعد أن عارضوها في البداية- الوسيلة المتاحة للبقاء في المنافسة فقبلوها بل دافعوا عنها بمنطق براجماتي . ومن الواضح أن العلاقة الثلاثية استُخدِمت هنا بذكاء. فما تحصل عليه إسرائيل تجاريا واقتصاديا من وراء ذلك التعاون لا يمثل عائدا كبيرا؛ فالمصلحة الحقيقة لم تكن العائد الاقتصادى وانما كانت التطبيع الإسرائيلى مع قطاع من أهم قطاعات الصناعة المصرية.

ثانيا: العلاقات العسكرية

بعد كامب ديفيد مباشرة وقَّعت الولايات المتحدة الأميركية مذكرتي تفاهم منفصلتين مع كل من مصر وإسرائيل. وفي المذكرة الإسرائيلية تعهدت الولايات المتحدة بأن "تأخذ في اعتبارها وتستجيب لمتطلبات المساعدات العسكرية والاقتصادية لإسرائيل" أما في المذكرة التى وقعتها مع مصر فقد كانت مختلفة من حيث نوع التعهدات ومداها؛ فهى نصت على أن الولايات المتحدة "مستعدة للدخول في علاقة أمنية موسعة مع مصر فيما يتعلق ببيع المعدات والخدمات العسكرية، وتمويل جزء من تلك المبيعات على الأقل" .  ثم بدأت مصر بموجب قانون اعتمادات 1979 الذي سبقت الإشارة إليه في تلقي معونة عسكرية سنوية مقدارها 1,3 مليار دولار تنقسم إلى أنواع ثلاثة، هي: بيع الأسلحة، وتطوير أسلحة موجودة، وعقود صيانة وخدمات.

"
ظلت الولايات المتحدة تنظر للمعونة العسكرية لمصر باعتبارها ذات أهمية خاصة للمصالح الأميركية؛ فتلك المعونة هي المرتكز الذى يقوم عليه التعاون العسكري المباشر بين البلدين

"
وقد ظلت الولايات المتحدة تنظر للمعونة العسكرية لمصر باعتبارها ذات أهمية خاصة للمصالح الأميركية؛ فتلك المعونة هي المرتكز الذى يقوم عليه التعاون العسكري المباشر بين البلدين. وتحصل الولايات المتحدة على عوائد مباشرة من ذلك التعاون؛ فالبحرية الأميركية تتلقى معاملة استثنائية عند مرور سفنها الحربية في قناة السويس حيث تُعطَى الأولوية في المرور الذى قد يستغرق دون ذلك أسابيع طويلة كما هو الحال مع السفن الحربية لدول أخرى. كما تمنح مصر للولايات المتحدة حقوق المرور الجوي أيضا. هذا كله إلى جانب العائد المادى الضخم من وراء المعونة؛ إذ يتحتم على مصر أن تحصل على المعدات العسكرية والخدمات والتدريب والصيانة من الولايات المتحدة نفسها.

ورغم كل ذلك، فإن تلك المعونة العسكرية التي تجد فيها الولايات المتحدة مصلحة مباشرة لها قد تأثرت بدرجة كبيرة في السنوات الأخيرة بموجب توتر العلاقات المصرية الأميركية وهو التوتر الذي لعبت فيه إسرائيل الدور المحوري في صنعه. بل كان توترا ناجما عن عدم رضا إسرائيل عن الأداء المصري كما سوف يتضح حالا.

فرغم كل ما يقال عن دور مسألة الديمقراطية كمصدر للتوتر في العلاقات المصرية في عهد بوش إلا أن السبب الرئيسي لذلك التوتر كان الدور الذى تلعبه إسرائيل في واشنطن بخصوص موضوع الأنفاق منذ أن رحلت إسرائيل عن غزة في 2005.

والأنفاق التي تربط بين مصر وقطاع غزة ليست ظاهرة جديدة؛ فهي موجودة منذ عقود طويلة. بل كانت إسرائيل على علم بوجودها منذ البداية. إلا أنها لم تبدأ في اعتبارها خطرا عليها إلا منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987. ولم تبدأ فعليا في تركيز جهودها على القضاء عليها إلا منذ الانتفاضة الثانية (2000-2005) معتبرة أنها أسهمت في المعركة ضد إسرائيل. غير أن تعامل إسرائيل مع تلك الأنفاق كان عسكريا بالدرجة الأولى؛ فعلى سبيل المثال، كان أحد أهم أهداف عملية قوس قزح الإسرائيلية في 2004 هو القضاء على أكبر كم ممكن من تلك الأنفاق. ولطالما استخدمت إسرائيل البلدوزرات لهدم المبانى والبيوت التى كانت تشك في أن الأنفاق تمر تحتها.

ثم انسحبت إسرائيل أحاديا من غزة، وهو الانسحاب الذى كان هدفه كما قال الإسرائيليون أنفسهم الحيلولة دون قيام الدولة الفلسطينية . وقتها وقعت إسرائيل مذكرتي تفاهم إحداهما مع مصر والأخرى مع السلطة الوطنية والاتحاد الأوربى. أما المذكرة الأولى التي وقعتها مع مصر، فقد تمت بوساطة أميركية عام 2005 وحددت بشكل تفصيلى عدد الجنود المصريين على الحدود مع غزة وطبيعتهم بل ونوع الأسلحة والمعدات التى يستخدمونها. فقد نص الاتفاق على أن يتواجد على طول الحدود مع غزة 750 جنديا فقط من حرس الحدود المصرى، ويستخدمون أسلحة خفيفة وسيارات الجيب بينما تم حظر المدرعات.

أما الاتفاق الثانى فهو ما سُمي باتفاق العبور والحركة، وبمقتضاه ظل لإسرائيل رغم عدم وجودها ماديا على الحدود الحق في مراقبة ما يجرى فيها عبر دوائر تليفزيونية مغلقة. بل واحتفظت إسرائيل بحقها في فتح  وإغلاق معبر رفح وفق منظورها الأمني.

غير أن فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية عام 2006 وما تلاه من قطع المعونات الدولية عن القطاع أدى إلى تصاعد أهمية الأنفاق كشريان حياة لغزة مما زاد من إصرار إسرائيل على الدفع بمصر لاتخاذ خطوات ناجزة بشأن تلك الأنفاق. وقد ازدادت الضغوط الإسرائيلية بعد انفراد حماس بغزة والسلطة الفلسطينية بالضفة وما تلاه من حصار كامل لغزة.

وقد قامت إسرائيل بشن حملة شرسة على مصر داخل الولايات المتحدة الأميركية وخصوصا في الكونجرس وصلت لذروتها في عامي 2006 و2007. والجدير بالذكر أن تلك الحملة تختلف عن الكثير من الحملات المماثلة التى تجري في واشنطن؛ ففي هذه الحملة لم يكن الأمر متروكا للوبي إسرائيل وحده ليتولى المهمة؛ فقد دخلت إسرائيل بنفسها طرفا مباشرا وبشكل صريح للغاية. فعلى سبيل المثال صرح مدير الشين بيت (جهاز الأمن العام) في 2006 بأن مصر تعرف جيدا المهربين ولا تقوم بالقبض عليهم، وأن إسرائيل قدمت لها معلومات استخباراتية تفصيلية لكن مصر لم تستخدمها. وقد كتب عضو الكنيست الإسرائيلى السابق يوفال ستانيز بنفسه لأعضاء الكونجرس يطالبهم بتجميد المعونة العسكرية لمصر.

ثم حدث تحول في الاتهامات التى كانت توجَّه لمصر؛ فبعد أن كانت اتهامات بالعجز عن السيطرة على حدودها مع غزة صار الاتهام أن مصر تغض الطرف عما يحدث عمدا، وأن استمرار ما يجري في الأنفاق هو سياسة مصرية عمدية. وهو ما قاله صراحة وزير الأمن العام الإسرائيلى وقتها.

وفي التوقيت نفسه نشرت صحيفة النيويورك تايمز الأميركية تحقيقا قالت فيه: إن مسئولين إسرائيليين قدموا لنظرائهم الأميركيين شرائط فيديو "تثبت تواطؤ حرس الحدود المصرى مع الفلسطينيين". وقد تلا ذلك تصريحات فجة لوزيرة الخارجية الإسرائيلية وقتها تسيبي ليفنى قالتها ضمن شهادة لها في الكنيست الإسرائيلى قالت فيها: إن "فشل مصر في تأمين حدودها مع غزة بالغ السوء ويمثل إشكالية، ويضر بالقدرة على التقدم في عملية السلام". وهو التصريح الذي وصفه الرئيس مبارك بأنه تخطٍ "للخطوط الحمراء".

وقد كان لكل تلك الحملة الإسرائيلية أثرها الواضح في واشنطن خصوصا في الكونجرس الذي ظل يشهد منذ 2004 دعوات مستمرة ومتصاعدة لتخفيض المعونة العسكرية لمصر؛ ففي عام 2004 بدأ الأمر على استحياء قليلا فقد كان هناك مقترح بتخفيض يصل إلى 570 مليون دولار من المعونة العسكرية مع زيادة في المعونة الاقتصادية. وفي 2005 كان المقترح يصل بالتخفيض في المعونة العسكرية إلى 750 مليون دون اقتراح زيادة للمعونة الاقتصادية. أما في 2006 كان التصعيد واضحا فقد استهدفت المقترحات تخفيض المعونتين الاقتصادية والعسكرية معا، بينما كان الاقتراح في 2007 يقضى بتخفيض المعونة العسكرية على مدى ثلاثة أعوام متتالية، وإلغاء جزء ضخم من المعونة الاقتصادية تماما.

"
المشكلة ليست في العلاقة مع أميركا في ذاتها ولا هي في الضغوط الأميركية التي تستجيب لها مصر، وإنما مكمن الخلل هو في رؤية مصر الحالية لذاتها ودورها، وتعريف النخبة الحاكمة القاصر لمصالح مصر وأمنها القومي ودورها الإقليمي
"
غير أن الكونجرس اتخذ قراره في عام 2007 بصدور قانون الاعتمادات المالية للعام المالي 2008 والذي تم فيه النص على تعليق 100 مليون دولار من المعونة العسكرية حتى تتقدم وزيرة الخارجية للكونجرس بتقرير تشهد فيه أن مصر قد اتخذت خطوات جادة لوقف تهريب السلاح وتدمير الأنفاق. وهو القانون الذى دخل حيز التنفيذ حين وقَّع عليه بوش في ديسمبر 2007.

وقد ثارت ثائرة الحكومة المصرية وقتها واتهمت إسرائيل علنا بأنها تقوض العلاقات الأميركية المصرية وتضر بالمصالح المصرية وهددت بالانتقام. لكن الواضح أن الاستجابة المصرية للمطالب الأميركية الإسرائيلية والبدء فعليا في اتخاذ الخطوات المطلوبة أدى في النهاية إلى كتابة كوندوليزا رايس في مارس 2008 لتقرير للكونجرس شهدت فيه بالتعاون المصرى الجدي، وتم إلغاء مسألة تعليق المائة مليون دولار.

فقد وصل لمصر في نهاية عام 2007 مساعد وزير الخارجية الأميركي ومعه نائب مساعد وزير الدفاع لدراسة الموقف على الأرض. وبعد أن زارا المنطقة قدما مجموعة من الاقتراحات للتعامل مع الموقف كان أولها: ضرورة توفير معدات وأجهزة عالية التقنية لمصر حتى تتمكن من مراقبة الحدود والكشف عن الأنفاق والتخلص منها. وثانيها: حفر قناة على طول الحدود بين مصر وغزة فضلا عن جدار عازل يمتد بعمق كبير تحت الأرض حتى يتم خنق الأنفاق نهائيا. وقد تلا تلك الزيارة زيارة لوفد من سلاح المهندسين الأميركي عاد لبلاده هو الآخر بتوصيات.

وبالفعل كانت الخطوة التالية هي الاتفاق بين مصر والولايات المتحدة على استقطاع 23 مليون دولار من المعونة العسكرية الأميركية لمصر لتشتري بها الأخيرة المعدات والأجهزة عالية التقنية المطلوبة للتعامل مع مسألة الأنفاق.

وقد تلا ذلك الإعلان في منتصف 2008 عن بدء تدريب الجيش الأميركي للقوات المصرية على استخدام المعدات والأدوات الجديدة التي اشترتها مصر، كما شرع سلاح المهندسين الأميركي في تركيب أجهزة عالية التقنية للبحث عن الأنفاق ومراقبتها على طول الحدود . وقد نُشِر فيما بعد أن مصر حصلت على 50 مليون دولار إضافية من الولايات المتحدة من أجل تعزيز عمليات تأمين الحدود مع قطاع غزة.

ويبدو أن مصر بدأت أيضا في ذلك التوقيت نفسه في بناء الجدار الفولاذى بمساعدة سلاح المهندسين الأميركي، وهو الجدار الذى كان فكرة أميركية أصلا جاءت ضمن حزمة المقترحات الأميركية كما سبقت الإشارة.

ثالثا: العلاقات السياسية

تحسنت علاقة مصر الرسمية مع أميركا في عهد أوباما تحسنا ملحوظا بعد أن شهدت توترا شديدا في عهد سلفه. والتوتر بين مصر وأميركا لم يكن خافيا على أحد بل إنه عبَّر عن نفسه وسط كاميرات الإعلام بشكل صارخ في شرم الشيخ حين انسحب بوش من القاعة لحظة إلقاء مبارك خطبته فما كان من مبارك إلا أن امتنع عن حضور كلمة بوش.

لكن بعد أن تولَّى أوباما الرئاسة زار مبارك أميركا لأول مرة بعد أن كان قد انقطع عن زيارتها خمس سنوات كاملة. كما تم استئناف الحوار الإسترتيجى بين البلدين وهو الذى كان قد بدأ في عهد كلينتون في 1998 بهدف توسيع التعاون وحل الخلافات التي تنشأ في لقاءات على أعلى مستوى سياسى ودبلوماسى. ولأن العلاقات المصرية الأميركية بُنِيت منذ البداية على أساس أن يكون جوهرها التعاون الأمني والعسكري والاستخباراتي-وهي الجوانب التي تهم أميركا بالدرجة الأولى في علاقتها مع مصر- فقد اقتصر الجانب السياسى على التخديم على ذلك البُعد إذا جاز التعبير، عبر استثمار الموقف المصرى الذى تجلَّى في زيارة السادات للقدس ثم اتفاقات كامب ديفيد لإعادة تشكيل المنطقة ودفع الأطراف العربية المختلفة نحو القبول الواسع بتسوية سياسية للصراع العربى الإسرائيلى. وهو دور كان يقوم بالضرورة على استخدام مصر لقوتها الناعمة ورصيدها الذى بُنِي عبر عقود طويلة في المنطقة.

وقد لعبت مصر فعلا دورا محوريا في إحداث تحول عميق في المنطقة أدى لقبول عربي تدريجي لمسألة التسوية، تجلى في مدريد ثم أوسلو ثم المعاهدة الأردنية الإسرائيلية ووصل إلى ذروته في شكل المبادرة العربية عام 2002.

كما لعبت مصر دور الوسيط بين الفلسطينيين والإسرائيليين من ناحية وبين الفلسطينيين وبعضهم البعض من ناحية أخرى. وقد كان لهذا الدور أهميته لدى أميركا وإسرائيل خصوصا مع صعود حماس التى لا علاقة بينها وبينهما باعتبارها منظمة "إرهابية" وفق القانون الأميركي والرؤية الإسرائيلية. غير أن انهيار مشروع التسوية السياسية أدى في الواقع إلى دفع مصر ثمنًا فادحًا. فقد أدى لانحسار النفوذ المصرى الذي كان مخططا له أن تكون التسوية هى مصدره الوحيد تقريبا، فضلا عن انهيار مصداقية مصر والتشكك في حيادها خصوصا مع التوتر المتزايد في العلاقة بينها وبين حماس، الأمر الذي أدى في الحقيقة إلى استنفاد مصر أغلب رصيدها من القوة الناعمة في الإقليم بأكمله.

بعبارة أخرى، ظلت العلاقات المصرية الأميركية على المستوى السياسى تدور في إطار منظومة كامب ديفيد وحدها منذ توقيع الاتفاق وحتى عهد أوباما، وهو الإطار الذى يمثل الفائدة الكبرى لأميركا التى تحتاج للدور المصرى لإخماد الحرائق كلما تدهورت الأوضاع في المنطقة بعد كل عدوان إسرائيلى جديد. وتلك العلاقة لم تكن إذن بعيدة عن إسرائيل. بل لعل البعد السياسي في العلاقات المصرية الأميركية هو الأكثر وضوحا في تجسيده للعلاقة الثلاثية.

غير أن البعض رأى خصوصا في عهد بوش، أن تلك العلاقة تتناقض مع ارتفاع صوت دعم الديمقراطية في واشنطن خصوصا في عهد بوش الابن. وهو أمر ليس دقيقا إذا كنا نتحدث عن إدارة أيديولوجية كان يهيمن فكر المحافظين الجدد تحديدا على رؤاها؛ فتلك ليست المرة الأولى التى يستخدم فيها المحافظون الجدد قضية الديمقراطية ضد خصومهم في الخارج؛ فمنذ ظهور هذا التيار في نهاية الستينيات برزت تلك القضية إزاء الكتلة الشيوعية، وقد استخدم المحافظون الجدد موضوع الديمقراطية في الخارج وقتها بالطريقة نفسها التي استخدموه بها في عهد بوش أي كأداة لإحراج الخصوم سواء في الداخل أو الخارج ولتحقيق مصلحة أميركية.

فالمحافظون الجدد الذين عادَوا الشيوعية بكل قوتهم واعتبروا الصراع معها صراع وجود يتحتم معه القضاء عليها قبل أن تقضي على الوجود الأميركي ذاته، قد استخدموا في إطار ذلك العداء مسألة غياب الديمقراطية وحقوق الإنسان في الكتلة الشيوعية. وعارضوا بشدة مواقف نيكسون وفورد الجمهوريين بشأن أي وفاق مع الاتحاد السوفيتي.

لكن لعل موقف المحافظين الجدد من إدارة كارتر تحديدا كان بمثابة اللحظة الكاشفة التي عبَّرت بجلاء عن زيف ما يدَّعون بشأن نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم؛ فكارتر الجنوبي الديمقراطي لم يكن ليبراليا بل شهدت بداية عهده الزيادة المطردة في الميزانية العسكرية التي عادة ما يروج المحافظون الجدد إلى أن الفضل فيها يعود إلى ريجان. كما أن فريق كارتر للسياسة الخارجية لم يكن أيضا ينتمي للتيار الليبرالي الأميركي. لكن مشكلة المحافظين الجدد مع كارتر الذين أيدوه في أول الأمر ثم انقلبوا عليه لاحقا كانت أنه تبنَّى بشكل جاد الديمقراطية وحقوق الإنسان كأحد محددات السياسة الخارجية الأميركية وجعلها ذات أهمية في سياسته الخارجية، الأمر الذى كان يعني التخلي عن حكومات ديكتاتورية طالما دعمتها الولايات المتحدة. وبسبب ذلك، واجه كارتر انتقادات حادة من جانب المحافظين الجدد؛ ففي الوقت الذي استخدموا فيه الديمقراطية وحقوق الإنسان في عهدي نيكسون وفورد للهجوم على سياسات الوفاق التى اعتبروها "غير أخلاقية" لأنها تقبل التعامل مع نظم دكتاتورية تنتهك حقوق شعوبها،  فقد وجدوا في سياسة كارتر إضعافا لأميركا في العالم؛ فقد أدت سياساته إلى إضعاف ديكتاتوريات يمينية حليفة لأميركا وهو ما لم يكن يريده المحافظون الجدد. ووقتها قدمت جين كيركباتريك أحد أهم رموز المحافظين الجدد تعريفا فريدا فرَّقت فيه بين النظم الشمولية والسلطوية، وقالت: إن على الولايات المتحدة أن تدعم النظم السلطوية المناهضة للشيوعية لأن تلك النظم أقدر من النظم الشيوعية على التحول نحو الديمقراطية!!.

وقد كتب تشارلز كروذامر الذي ينتمي للجيل الأصغر من المحافظين الجدد ليؤكد على أن أميركا لم تفعل ما يستدعي الاعتذار حين أيدت نظام بينوشيه في شيلي وماركوس في الفلبين بل قال صراحة: إن على أميركا أن تفرق بين ما أسماه "بأنواع الشر"، فتؤجل الوقوف ضد نظم دكتاتورية بعينها إذا ما كان في بقائها مصلحة أميركية ، وهي فكرة مماثلة إلى حد كبير للفكرة التي قدمتها جين كيركباتريك في السبعينيات وإن كانت أكثر صراحة في صياغتها.

وكما يتضح من تلك المواقف، فإن قضية نشر الديمقراطية في العالم لاتدخل في خانة المطلق عند المحافظين الجدد؛ إذ يتم التعامل معها بنسبية واضحة تتعلق بالمصلحة الأميركية كما يرونها هم؛ ففي زمن الشيوعية، اقتضت المصلحة رفع شعار الديمقراطية ضد نظم كانت مناهضة، والقبول في الوقت ذاته بنظم لاتقل سلطوية لأنها تخدم المصلحة الأميركية في القضاء على الشيوعية. وبالمنطق نفسه في عهد بوش، الذي تبنى فيه المحافظون الجدد رؤية للعالم فيها عدو عربي إسلامي لا يجوز في اعتقادهم مهادنته اتسم الأمر بالانتقائية من جديد.

وقد كان واضحا في أداء إدارة بوش أن الديمقراطية لم تكن تُستَخدم ضد كل النظم العربية ولا تُستخدم ضد كل منها بالدرجة نفسها. فهى انتقت نظمًا بعينها في لحظة تاريخية بعينها مستخدمة أهم نقاط ضعفها أي غياب الديمقراطية بهدفين: أولهما: ابتزازها والضغط عليها لاتخاذ مواقف إقليمية لا علاقة لها بقضية الديمقراطية أصلا كما اتضح بجلاء أثناء معركة أنفاق غزة ضد مصر. أما الهدف الثاني فقد جاء في إطار فكرة الفوضى الخلاقة التى اخترعها المحافظون الجدد والتي كانت قائمة على هدف المحافظين الجدد الأساسي في المنطقة وهو إعادة رسم خريطتها بالكامل على نحو يجعلها خالية تماما من أي تحد للهيمنة الأميركية. وإعادة التشكيل هذه كان معناها أن أميركا تبني "واقعا" جديدا تماما؛ فالواقع القائم بكل تعقيداته لم يكن حتى يهمهم فهمه لأنهم بصدد تغييره. ومن هنا فإن الدمار الشامل لم يكن يثير قلقهم. فهو ليس إلا "مخاض ولادة" لا ينبغي التركيز عليه، فآلامه أمر طبيعي في أية ولادة، وإنما ينبغي التركيز على "المولود الجديد" الذي تقوم أميركا بتشكيله بنفسها، وأهم مواصفاته أنه مولود مطيع تخلو جيناته تماما من أي روح للمقاومة –بمعناها الواسع– للهيمنة الأميركية بكافة صورها. وفي هذا السياق فإن الفوضى ليست بالضرورة مناهضة للمصالح الأميركية، لأنها تسمح للولايات المتحدة بإعادة تشكيل المنطقة من جديد. لذلك كان تغيير النظم واردا بشرط أساسي هو أن تنتقي أميركا بنفسها لشعوب المنطقة حكامهم الجدد عبر آليات تبدو "ديمقراطية". وقد انفضح أمر ذلك المعنى عندما وصل عبر انتخابات ديمقراطية في فلسطين طرف-حماس- لم تنتقه أميركا ولم تُردْه. والشئ نفسه عندما حصل الإخوان المسلمون على 88 مقعدا في انتخابات مجلس الشعب المصرى. بعدها بلعت إدارة بوش بل وأعضاء الكونجرس ألسنتهم بعد أن كانوا قد ملأوا الدنيا ضجيجا بخصوص الديمقراطية.

"
لم يكن غياب الديمقراطية هو الذي أدى لتوتر العلاقات المصرية الأميركية، وإنما  غيابها كان أحد الأسباب التي أضعفت مصر في علاقتها الثلاثية مع أميركا وإسرائيل. فغياب الديمقراطية جعل مصر أكثر انكشافا وضعفا في مواجهتها للضغوط التى تعرضت لها

"
لكن المهم في كل ذلك هو أن القضية -في الحقيقة- لم تكن أن غياب الديمقراطية أدى لتوتر العلاقات المصرية الأميركية، وإنما القضية المحورية هي أن غياب الديمقراطية كان أحد الأسباب التي أضعفت مصر في علاقتها الثلاثية مع أميركا وإسرائيل. فغيابها جعل مصر أكثر انكشافا وضعفا في مواجهتها للضغوط الشرسة التى تعرضت لها. فأية حكومة لا يمكنها أن تقيم علاقة مع دولة عظمى إلا إذا كان ظهرها محميا في الداخل بإجماع وطني حول المواقف التي تتخذها وهو ما يتطلب وجود وفاق وطني جامع لا يتأتى إلا في حالة انفتاح سياسي حقيقي. أما إذا كانت العلاقة بتلك القوة العظمى علاقة ثلاثية -كما هو الحال في العلاقة المصرية مع الولايات المتحدة- فإن الديمقراطية تصبح ليس مجرد مصدر قوة وإنما تتحول إلى مسألة تتعلق بالأمن القومي المصرى ذاته.

الخاتمة
بعد اتفاق كامب ديفيد لعبت مصر دورا مهما أدى إلى إحداث تحول عميق في المنطقة أدى لقبول عربي تدريجي لمسألة التسوية، تجلَّى في مدريد ثم اتفاقات أوسلو ثم المعاهدة الأردنية الإسرائيلية ووصل إلى ذروته في المبادرة العربية عام 2002.

لكن مصر لم تنتبه في الوقت المناسب إلى أن هذا الدور المصرى المرسوم في إطار منظومة كامب ديفيد سوف يستنفد أغراضه ويمثل خطورة حقيقية على مصالح مصر، لأسباب سيتم شرحها حالا. ومن ثَمَّ كان يتحتم عليها أن تعيد تعريف مصالحها في العلاقة مع أميركا، وتحدد أهدافا جديدة في إطار رؤية شاملة لسياسة مصر الإقليمية والدولية يتم تسكين العلاقة مع أميركا وإسرائيل فيها بدلا من أن يتم تعريف علاقات مصر الإقليمية بناء على تلك العلاقة.

فمصر لم تنتبه في الوقت المناسب إلى أن استمرار التعنت الإسرائيلى، والشيك على بياض الممنوح لها من أميركا معناه أن استمرار مصر في لعب دور وسيط التسوية سوف يخصم بشكل منتظم من رصيدها وقوتها الناعمة. ولم تنتبه أيضا إلى أن القبول العربى الواسع بمبدأ التسوية رغم أنه يمثل نجاحا للدور المصرى فإنه سيعني -في الوقت ذاته- أن ذلك الدور قد استنفد أغراضه، الأمر الذى يتحتم معه صياغة رؤية شاملة جديدة تقوم على إعادة النظر في طبيعة المصالح المصرية، ويتم بناء عليها رسم الدور المصري الإقليمي والدولي.

ولأن هذا لم يحدث فقد انكفأت مصر على نفسها، وصارت العلاقة مع أميركا -التي هي علاقة ثلاثية أصلا لا تغيب عنها إسرائيل أبدا- هى المحدد للعلاقات المصرية الإقليمية وليس العكس، بناء على رؤية قاصرة للغاية مبنية على أحد تنويعات فكرة مصر أولا.

ومع انهيار عملية التسوية السياسية والصعود المتنامى لليمين الإسرائيلى المتطرف ازداد صعود محور الراديكالية في المنطقة. عندئذ أخطأت مصر خطأ فادحا حتى لو كان اختيارها أن تظل تمثل محور "الاعتدال" في المنطقة وفي مسار التسوية السياسية؛ فبدلا من أن تعتبر صعود محور الراديكالية ورقة مهمة تستخدمها وتمارس من خلالها ضغوطا قوية على محور أميركا-إسرائيل لاتخاذ مواقف أكثر جدية من عملية التسوية السياسية، دخلت بنفسها طرفا في الصراع ضد محور الراديكالية وتمترست وراء الموقف الأميركي الإسرائيلي عبر تعريف ضيق الأفق لمصالحها يجعل من أطراف هذا المحور تهديدا لمصر ذاتها الأمر الذى كان يعني أيضا علاقات محدودة للغاية أو غائبة بأطرافه. ومن شأن تلك الرؤية القاصرة التقليل من أهمية مصر لدى أميركا وليس العكس؛ فمصر ظلت مهمة لأميركا لأنها كانت فاعلا إقليميا مهما ذا علاقات معقدة ومتشعبة بمحيطه الإقليمى؛ ومن ثَمَّ تستفيد أميركا بالضرورة من تلك العلاقات إذا ما كانت مصر حليفتها. أما إذا كانت مصر تعادي من تعاديه أميركا فإن هذا يستدعي لجوء الأخيرة لقوى أخرى تستفيد من علاقاتها مثل تركيا.

ولأن أميركا وإسرائيل صارت مواقفهما متطابقة في عهد بوش تماما صارت مصر في تلك العلاقة الثلاثية في وضع يزداد سوءا مع الوقت؛ حيث ازدادت الضغوط على مصر والسعي لابتزازها عبر المعونة العسكرية من ناحية وانهيار القوة الناعمة المصرية من ناحية أخرى نظرا للمواقف التى اتخذتها مصر بناء على تلك الضغوط. وهى مواقف لم يكن من الممكن أن تقبلها مصر لو أنها لم تُعرِّف مصالحها على ذلك النحو الذى عرَّفتها به. ومن هنا، صارت المسألة كالحلقة المفرغة التي تغذي كل حلقاتها بعضها البعض والمحصلة النهائية هى تراجع مصر إقليميا وصعود قوى أخرى لتقوم بدور الوسيط مثل تركيا!

ولأن تعريف مصر نفسها لمصالحها على هذا النحو البائس يضعها في خصومة مع الأطراف نفسها التى تعاديها أميركا وإسرائيل، فإن أيتهما لم تكن في العامين الأخيرين (أي بعد معركة الأنفاق وما نتج عنها من مواقف مصرية) في حاجة حتى إلى دفع أي ثمن مقابل اتخاذ مصر تلك المواقف! فهى تستجيب للضغوط الأميركية والإسرائيلية المستحدثة لأنها في التحليل الأخير لا تتعارض مع رؤيتها الحالية لمصالحها.

ومن هنا، فإن المشكلة ليست في العلاقة مع أميركا في ذاتها ولا هي في الضغوط الأميركية التي تستجيب لها مصر، وإنما مكمن الخلل هو في رؤية مصر الحالية لذاتها ودورها، وتعريف النخبة الحاكمة القاصر لمصالح مصر وأمنها القومي ودورها الإقليمي.

____________

منار الشوربجي، أستاذ مساعد العلوم السياسية بالجامعة الأميركية بالقاهرة، متخصصة فى النظام السياسي الأميركي.

ADDS'(9)

ADDS'(3)

 


-

اخر الموضوعات

من نحن

author ‏مدونة اخبارية تهتم بالتوثيق لثورة 25 يناير.الحقيقة.مازلت اسعى لنقلها كاملة بلا نقصان .اخطئ لكنى منحاز لها .لايعنينى سلفى ولا مسلم ولا اخوان يعنينى الانسان،
المزيد عني →

أنقر لمتابعتنا

تسوق من كمبيوتر شاك المعادى