تسأل هذا وذاك ممن يحلو لهم وصف الثورة المصرية بأنها ثورة ناقصة: طيب يا سيدى، أى الثورات الكاملة كنت تحب أن نقتدى بها؟ فلا تجد عقادا نافعا، بل كلاما أشبه بالغمغمات يتحدث عن تجارب دول لا يعرف عنها الكثير، ولو عرف حقا لأدرك أن لدينا فرصة قائمة فى إنجاح ثورتنا إذا ترفعنا عن المزايدات والمهاترات، وأدركنا أن لدينا رصيدا ثوريا عبقريا قوامه عشرة ملايين ثائر فى أقل التقديرات، فقدنا الاتصال بهم وتركنا كلا منهم يعود إلى حياته دون أن يحمل الثورة إلى محيطه ويساعد على تحرير مَن حوله مِن عبودية حكم الفرد.
لن أقول كلاما سبق أن قلته من قبل فتمل منى، سأنتقل بك إلى ما يتجاوز أيامنا هذه بكثير، سأفترض أن الثورة مشت فى المسار الذى تريده أنت، لن أسألك ما هو، ضع أنت المسار الذى تحبه بتفاصيله التى تحبها، وتناسَ كل المعوقات التى كان يمكن أن تقوم فى وجه ذلك المسار، تخيل أنه ليس هناك تفاصيل ولا ملابسات أحاطت بهذه الثورة وأنها سارت كما تحب وترضى، حتى لو حدثت تلك المعجزة، فلن تتحول مصر إلى مجتمع جديد تماما بهذه السهولة، بل دعنى أقل لك إن بعض الآراء العلمية تقول إنه لا توجد ثورة كاملة يمكن أن تصنع مجتمعا جديدا تماما، وجل ما تفعله أنها تقوم بتحويل المجتمع الذى يشهد الثورة إلى مجتمع قوى إلى حد ما، وتتوقف درجة نجاح الثورة فى صنع مجتمع قوى على طبيعة وتطور الصراع الحتمى الذى ينشأ عقب كل ثورة بين المعتدلين الثوريين والمتطرفين الثوريين، وهل سيستطيع المنتصرون السيطرة على صراعاتهم والاتفاق على ما يجب عمله لإعادة بناء البلاد، هناك بلاد تنجح فى ذلك فيُكتب لثوراتها النجاح، وهناك بلاد تفشل فى ذلك فتستبدل بطاغيةٍ مَن هو ألعن منه.
فى كتابه البديع «دراسة تحليلية للثورات» يدرس المؤرخ كرين برنتون الثورات الأربع الكبرى فى تاريخ العالم: الفرنسية والإنجليزية والأمريكية والروسية، فيلاحظ أن «شهر العسل فى الثورات الأربع كان قصيرا، فلم يكد يمضى وقت قصير على سقوط النظام القديم حتى بدأت علامات واضحة على أن المنتصرين لم يكونوا متفقين على ما يجب عمله لإعادة بناء البلاد، مع أن عكس ذلك كان يبدو فى خطب الانتصار واحتفالاته الأولى، إذ كان الذين تسلموا إدارة شؤون الحكومة فى كل من المجتمعات الأربعة رجالا من النوع الذى نطلق عليه عادة لفظ المعتدلين، وكانوا يمثلون الفئة الأغنى والأكثر شهرة والأعلى مكانة فى المعارضة القديمة للحكومة، وكان من الطبيعى توقع تسلمهم زمام الأمور من تلك الحكومة. وسرعان ما يجدون ضدهم جماعة متزايدة قوية وعنيدة من المتطرفين الذين يصرون على أن المعتدلين يحاولون وقف زحف الثورة وأنهم خانوها وأنهم من السوء كحكام العهد البائد تماما، بل إنهم فى الواقع أشد سوءا لأنهم ليسوا أغبياء وأوغادا بل خونة أيضا».
هذا هو نص العبارات التى ترددت فى سجالات وصراعات الثورات الأربع كما يؤكد برنتون الذى يقول إن إمساك المعتدلين بمقاليد الجهاز الحكومى فى المراحل الأولى من الثورة أصبح مصدرا من مصادر ضعفهم، لأنهم وجدوا أنفسهم وقد فقدوا شيئا فشيئا الثقة التى كانوا قد كسبوها، وأصبح الناس يرتابون فيهم، ولذلك اضطروا إلى الدفاع عن أنفسهم بدلا من انشغالهم بالعمل، ومع أن ذلك خطأ كبير فإنه كان حتميا لأنهم لم يعتادوا حالة الدفاع عن أنفسهم، ليعيشوا وضعا لا يمكن أن يخرجهم منه إلا حكمة فوق مستوى البشر، فى حين أن المعتدلين يعدون بين الثوريين أشدهم إنسانية، وأفضل وأكثر استواء من خصومهم المتطرفين، لأنهم لا يؤمنون بالكلمات الضخمة ولا يصدقون أن نوعا من الكمال السماوى سوف يهبط فجأة على الناس فى هذه الأرض، بل يؤمنون بالتوفيق والإدراك والتسامح، ولو كان المجتمع فى ظروف عادية لجعلهم ذلك ينجحون، لكن المشكلة التى نجت منها الثورة الأمريكية ووقعت فيها الثورات الفرنسية والروسية والإنجليزية أن أعدادا كبيرة من الناس كانت قد وصلت إلى نقطة تبغض فيها كل شىء حتى الراحة والتسامح، ولذلك لم يستطع المعتدلون السيطرة على الأمور وأصبح بين المعتدلين والمتطرفين هوة لم يكن فى استطاعة الفلسفة أو الإدراك ملؤها، ولذلك اندلعت سلسلة من الصراعات فشل على أثرها المعتدلون، وانتصر المتطرفون رغم قلة عددهم، صحيح أنهم انتصروا ووصلوا إلى الحكم، لكن الثورة نفسها لم تنتصر بعد ذلك ولم تحقق ما كانت تهدف إليه، لأن طيشهم فى ممارسة الحكم كان يخلق حالة من الفوضى أعقبتها عادة ما يُعرف بحكم الإرهاب.
لكى تعرف أننا ربما كنا محظوظين فى أن سيناريو مثل هذا لن يحدث لدينا بإذن الله فنقع فى فخاخ الثورات السابقة، اقرأ معى تفسير برنتون لسيطرة المتطرفين على الحكم بأنه «بعد قيام الثورات عادة يختفى عدد كبير جدا من الناس من الميدان السياسى ولا يبذلون أى محاولة لإبداء آرائهم، ولذلك عندما تقوم انتخابات حرة، يتضح أن المتطرفين لا تربطهم أى رابطة من روابط الإيمان بالحرية التى كانوا يتشدقون بها من قبل، وسرعان ما يلجؤون إلى إثارة القلاقل فى أماكن الاقتراع ويبدؤون المعارك فى الشوارع لإرهاب الناخبين، وينجح هذا الإرهاب بفضل الخمول الذى يمتاز به رجل الشارع العادى الذى ينسحب ويترك المجال خاليا للمتطرفين، وهنا تصبح الضآلة العددية للمتطرفين مصدرا لقوتهم، ولذلك فإن انتصارات البلاشفة والنازيين والفاشيست فى الانتخابات لم تجئ بفضل المشاركة الواسعة للجماهير وإنما جاءت جميعا على أيدى حفنة قليلة من الأفراد المنظمين المتعصبين الذين لا يخشون أى مخاطرة مثلما يخشون الانتخابات الحرة، ولذلك يسعون دائما لممارسة حكم الإرهاب على الناس ويسعون لإنشاء ديكتاتوريات للسيطرة على الأغلبية مستخدمين أرفع المبادئ الثورية لتبرير طغيانهم، حدث ذلك مع لينين وبروسبير وكرومويل وغيرهم من الثوار الذين تحولوا إلى ممارسة حكم الإرهاب على الناس».
لذلك يا عزيزى لدى ثورتنا ضمانة كبيرة لا تزال قائمة فى أيدينا اسمها الناس، لا أتحدث عن المغيبين أو المتعبين أو الراغبين فى أى خلاص وخلاص، بل أتحدث عن الأحرار الذين خرجوا مضحين بأرواحهم من أجل أن يحصلوا على الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، هؤلاء الذين لو تواصلت كل القوى الثورية الوسطية معهم وجمعتهم حولها، ستفسد الفرصة على كل مشاريع الطواغيت التى لو حكمت ستنقلنا من سيئ إلى أسوأ.
ولنا فى الغد حديث عن تشريح الثورات بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى