ملف : ثلاثون عاما من حكم مبارك لمصر
حسنين توفيق إبراهيم
على الرغم من مضى أكثر من ثلاثة عقود على الانتقال من صيغة التنظيم السياسي الواحد إلى صيغة التعددية الحزبية المقيدة في مصر، إلا أنها لم تشهد تحولاً ديمقراطيًا حقيقيًا؛ حيث أفضت عملية الانتقال إلى مجرد هامش ديمقراطي يتسع أحيانًا ويضيق أحيانًا أخرى طبقًا لإرادة السلطة الحاكمة. وبالتالي فهو لا يستند إلى أسس دستورية وقانونية تجسد ما يُعرف بـ " الدستور الديمقراطي"، ولا إلى تعددية سياسية حقيقية تشكل ركيزة لتحويل مبدأ التداول السلمي للسلطة إلى واقع ملموس، ولا إلى مقومات اقتصادية واجتماعية وثقافية تعزز عملية التحول الديمقراطي وتسهم في ترسيخ ثقافة الديمقراطية؛ ولذلك تصنِّف أدبيات متخصصة في التحول الديمقراطي النظامَ السياسي المصري ضمن فئة النظم المسماة بـ: "شبه التسلطية" أو"التسلطية التنافسية" أو"الديمقراطية الشكلية"1؛ ولذلك فقد أصبح النظام السياسي المصري يمثل حالة نموذجية لنجاح النخبة الحاكمة في تفريغ عملية التحول الديمقراطي من محتواها الحقيقي؛ حيث هندست هذه العملية على النحو الذي يعزز من قدرة النظام على الاستمرار في السلطة، وذلك اعتمادًا على آليات دستورية وقانونية وسياسية وأمنية ليس هنا مجال التفصيل فيها.
ونتيجة لتعثر عملية التحول الديمقراطي فقد بدأت تتراكم مع مرور الوقت ملامح ومؤشرات أزمة بنائية في النظام السياسي المصري. والهدف من هذه الورقة هو رصد وتحليل أبرز مظاهر هذه الأزمة، مع مناقشة أهم تداعياتها القائمة والمحتملة، لاسيما أن أزمة النظام السياسي تفرز العديد من الأزمات في المجالات الأخرى الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، وذلك بحكم المكانة المركزية التي يمثلها النظام السياسي في أية دولة باعتبار أن السياسات العامة التي ينتهجها هي الفيصل في تحديد الأولويات والاختيارات، وتعبئة الموارد والطاقات، ومعالجة المشكلات والتحديات التي تواجه المجتمع، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وحفظ الأمن والاستقرار على الصعيد الداخلي، وحماية الدولة من التهديدات الخارجية.
ولما كان غياب التوازن بين السلطات الثلاث يمثل عاملاً جوهريًا في أزمة النظام السياسي المصري، فإن الورقة سوف تركز على هذا الموضوع، خاصة وأن هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، وضعف استقلال السلطة القضائية قد أسهما إلى جانب عوامل أخرى في انتشار الفساد السياسي والإداري على نطاق واسع، وتراجع هيبة الدولة، وتآكل سيادة القانون.
أولا: الأزمة البنائية في النظام السياسي المظاهر والتداعيات
ثانيا: النظام السياسي ومعضلة الشرعية السياسية
أولا: الأزمة البنائية في النظام السياسي
المظاهر والتداعيات
"
بعد ثلاثة عقود على الانتقال من صيغة التنظيم السياسي الواحد إلى صيغة التعددية الحزبية المقيدة في مصر، إلا أنها لم تشهد تحولاً ديمقراطيًا حقيقيًا؛ حيث أفضت عملية الانتقال إلى مجرد هامش ديمقراطي يتسع أحيانًا ويضيق أحيانًا أخرى طبقًا لإرادة السلطة الحاكمة
"
تتمثل أهم مظاهر الأزمة البنائية التي يعاني منها النظام السياسي المصري فيما يلي:
1. شخصانية السلطة وغياب مبدأ التوازن بين السلطات؛ حيث يمثل التفرد والاستبداد بالسلطة أحد الملامح الرئيسة للنظام السياسي، وذلك بسبب السلطات الدستورية الضخمة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية سواء في ظل الظروف العادية أو الاستثنائية. وبحكم رئاسته للحزب الوطني الديمقراطي الذي يحتكر الحياة السياسية في مصر منذ تأسيسه في أواخر سبعينيات القرن العشرين، فإن رئيس الجمهورية يسيطر من الناحية العملية على السلطتين التنفيذية والتشريعية، ناهيك عن صلاحياته القضائية التي يخولها إياه الدستور والقانون. ويشكل هذا الوضع استمرارية لتقاليد "الفرعونية السياسية" التي أصَّل لها المفكر الراحل الدكتور جمال حمدان.
2. غياب مبدأ التداول السلمي للسلطة أو تقاسمها، وهذه نتيجة منطقية لشخصانية السلطة واحتكارها، لاسيما أنه بمقتضى الدستور يستطيع رئيس الجمهورية التأبيد في السلطة، أي الاستمرار في الحكم مدى الحياة.
3. جمود النخبة الحاكمة وتكلسها، فهذه النخبة شاخت في مواقعها على حد تعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل. وقد اقترن هذا الوضع بسيادة نزعة تكنوقراطية في تعيين الوزراء؛ ولذلك أصبحت ظاهرة "الوزير غير السياسي المعمر في المنصب" من أبرز ملامح النخبة الوزارية في عهد مبارك. كما ترتب على هذا الوضع غياب أو ضعف قيادات الصف الثاني.2
4. وجود خلل كبير في النظام الحزبي التعددي؛ فالحزب الوطني الديمقراطي يحتكر الأغلبية البرلمانية منذ تأسيسه في أواخر سبعينيات القرن العشرين على نحو ما سبق ذكره. وإلى جواره يوجد حاليًا 23 حزبًا سياسيًا، معظمها غير معروف للمصريين. كما أن أحزاب المعارضة المعروفة مثل التجمع والناصري والوفد الجديد والجبهة الديمقراطية تعاني من الضعف والهشاشة وعدم القدرة على التنسيق الفعال فيما بينها، وذلك لأسباب عديدة لا يتسع المجال للخوض فيها ، الأمر الذي يجعلها غير قادرة على القيام بدور سياسي فاعل ومؤثر. ومن المؤكد أن الحزب الوطني يستمد قوته من عاملين لا علاقة لهما بطبيعته وأدائه كحزب: أولهما: أن رئيس الدولة هو رئيس الحزب، وبالتالي فإذا تخلى الرئيس مبارك عن رئاسة الحزب الوطني فإن دوره سوف يتقلص إلى حد كبير. وثانيهما: التداخل بين أجهزة الحزب وأجهزة الدولة، وتوظيف الأخيرة لحساب الحزب وبخاصة خلال الاستحقاقات الانتخابية؛ ولذلك فإن النظام الحزبي التعددى في مصر هو أقرب إلى نظام الحزب المسيطر أو المهيمن منه إلى نظام التعددية الحزبية بالمعنى المتعارف عليه.
5. استمرار العمل بقانون الطوارئ منذ عام 1981 دون انقطاع. وقد تم تمديده لمدة عامين اعتبارًا من 1/6/ 2010. ورغم تأكيد القرار الجمهوري الخاص بتمديد حالة الطوارئ على أن تطبيق الأحكام المترتبة على ذلك سوف يقتصر على حالات مواجهة أخطار الإرهاب والمخدرات، إلا أن الخبرة تؤكد أن قانون الطوارئ بما يتضمنه من قيود متنوعة على حقوق المواطنين وحرياتهم كثيرًا ما استُخدِم في مواجهة قوى المعارضة السياسية والحركات الاحتجاجية السلمية.3 وقد شكل -ويشكِّل- قانون الطوارئ مرجعية لتزايد اعتماد النظام على القبضة الأمنية؛ حيث أصبح جانب مهم من عمل وزارة الداخلية وأجهزتها المتعددة ينصرف إلى تحقيق الأمن السياسي، الذي هو في نهاية المطاف أمن النظام الحاكم.
6. ضعف المشاركة السياسية؛ حيث بات المصريون في حالة عزوف -أو بالأحرى استقالة- عن السياسة، فالأحزاب السياسية هي في معظمها أحزاب بلا جماهير أو قواعد شعبية حقيقية. كما أن استمرار نهج تزوير الانتخابات والتلاعب في نتائجها، جعل قطاعًا كبيرًا من الناخبين على قناعة بأن أصواتهم لاقيمة لها، وأن نتائج الانتخابات محسومة سلفًا سواء شاركوا فيها أم لم يشاركوا، الأمر الذي أدى إلى ضعف المشاركة في الانتخابات. وقد ترسخت هذه القناعة بعد إلغاء دور القضاء في الإشراف على الانتخابات بموجب التعديلات التي أُدخلت على الدستور في عام 2007. وجاءت انتخابات التجديد النصف لمجلس الشورى في يونيو عام 2010 لتؤكد هذه الحقيقة بشكل جلي وواضح. كما أن الحركات السياسية الجديدة، وعلى الرغم من أهمية الدور الذي تقوم به في عملية الحراك السياسي التي تشهدها مصر، إلا أنها تظل حركات نخبوية.
7. غياب أو ضعف مصداقية الخطاب السياسي الرسمي، وذلك لوجود فجوة كبيرة بين القول والفعل؛ فعلى سبيل المثال، عندما يؤكد كبار المسئولين والكتاب الذين يدورون في فلك السلطة على أن مصر تعيش في عهد مبارك أزهى عصور الحرية والديمقراطية والازدهار، فإنهم يبدون وكأنهم يتحدثون عن مصر أخرى غير تلك التي يعرفها المصريون ويعيشون فيها. وعندما يؤكد الخطاب السياسي الرسمي على أن رعاية الفقراء ومحدودي الدخل في مقدمة أولويات الحكومة والحزب الوطني، فإن التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تشهدها مصر تجعل مثل هذا القول فاقدًا لأية مصداقية.
8. غموض مستقبل النظام السياسي، وبخاصة في ظل الحالة الصحية للرئيس مبارك (82 عامًا)، واستمرار الجدل السياسي حول ملف التوريث؛ وبذلك فإن أسئلة من قبيل: من هو الرئيس القادم لمصر؟، وماذا بعد مبارك؟ أصبحت مطروحة على نطاق واسع سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي4 . ولاشك في أن مجرد اختزال واقع ومستقبل التطور السياسي في مصر في شخص رئيس الجمهورية، مع ما يمثله موقع الرئيس من أهمية كبيرة، إنما يُعد أحد المؤشرات المهمة على الأزمة البنائية التي يعاني منها النظام السياسي.
وبإيجاز يمكن القول: إن الأزمة البنائية في النظام السياسي المصري إنما تعكس عدة فجوات كبرى تؤثر بالسلب على التطور السياسي في البلاد. فهناك فجوة بين الأطر الدستورية/القانونية والممارسات العملية، وفجوة ثانية بين التحولات المتسارعة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي وحالة الجمود أو شبه الجمود السائدة على المستوى السياسي والمؤسسي، وفجوة ثالثة بين الخطاب السياسي الرسمي والممارسات الحكومية، وفجوة رابعة بين الدولة والمجتمع، وفجوة خامسة بين النظام الحاكم وقوى المعارضة، ناهيك عن الفجوات الموجودة فيما بين قوى وأحزاب المعارضة.
"
تصنِّف أدبيات متخصصة في التحول الديمقراطي النظامَ السياسي المصري ضمن فئة النظم المسماة بـ: "شبه التسلطية" ولذلك فقد أصبح النظام السياسي المصري يمثل حالة نموذجية لنجاح النخبة الحاكمة في تفريغ عملية التحول الديمقراطي من محتواها الحقيقي
"
وقد أفرزت الأزمة البنائية التي يعاني منها النظام السياسي المصري جملة من النتائج والتداعيات الخطيرة على الدولة والمجتمع، منها: تراجع هيبة الدولة، وتآكل سيادة القانون، وحدوث حالة من الانفلات والفوضى في المجتمع وبخاصة في ظل تركيز أجهزة النظام على الأمن السياسي بمعناه الضيق، فضلاً عن استشراء الفساد السياسي والإداري وبخاصة في ظل تمدد ظاهرة الزواج غير الشرعي بين الثروة والسلطة، وتزايد حدة التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية، وكثرة التوترات والمشاحنات الطائفية، واتساع نطاق الاحتقان بين السلطة والمجتمع، وهو ما يتجلى بوضوح في تصاعد موجة الاحتجاجات العامة التي تنخرط فيها فئات اجتماعية عديدة بقصد طرح مطالب فئوية خاصة بها، والضغط على الحكومة من أجل تلبيتها. وقد لخص الأستاذ محمد حسنين هيكل هذا الواقع بقوله: "لدينا أزمة عدل، وأزمة قانون، وأزمة إدارة، وأزمة ثقة.. ولم نصل من قبل إلى هذا التفاوت بين سكان القصور وسكان القبور".5
ومما يزيد من خطورة الوضع أن النظام الحاكم لا يمتلك رؤية واضحة للخروج من المأزق الراهن، فليس لديه القدرة على المواجهة الحقيقية والجادة للمشكلات القائمة، والتي أسهمت سياساته الفاشلة والمتخبطة على مدى العقود الثلاثة الماضية في خلق بعضها وزيادة حدة بعضها الآخر، وليس لديه مشروع وطني ملهم للنهضة والتقدم، بحيث يبلور حوله نوعًا من الإجماع الوطني أو التوافق المجتمعي، ويحشد الإمكانات والطاقات المتاحة من أجل تحقيقه، ناهيك عن عدم قدرته على بلورة رؤية مستقبلية للتعامل مع التحديات المحتملة سواء أكانت داخلية أو خارجية.
غياب التوازن بين السلطات: هيمنة السلطة التنفيذية
إن أحد أبرز العوامل التي أسهمت في خلق وتعميق الأزمة البنائية التي يعاني منها النظام السياسي المصري يتمثل في غياب مبدأ التوازن بين السلطات؛ حيث تهيمن السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، كما تقوم بدور في تقليص استقلال السلطة القضائية. وفيما يلي شرح وتحليل للسلطات والصلاحيات الدستورية المخولة لكل من السلطات الثلاث، وهو الأمر الذي يكشف عن مدى الخلل في التوازن بين هذه السلطات، وهو ما ينعكس على طبيعة العلاقة بينها.6
1- السلطة التنفيذية
طبقًا للدستور، تتكون السلطة التنفيذية من رئيس الجمهورية والحكومة والإدارة المحلية والمجالس القومية المتخصصة.
أ. رئيس الجمهورية
من نافلة القول: إن رئيس الجمهورية يهيمن على مقاليد السلطة وعملية صنع القرار في مصر، الأمر الذي يجعله محور النظام السياسي، وذلك بحكم سلطاته وصلاحياته شبه المطلقة التي يخولها له الدستور، سواء في ظل الظروف العادية أو الاستثنائية.7 وفى هذا السياق، فقد قال المستشار طارق البشرى: إن سلطات رئيس الجمهورية في مصر تتجـاوز سلطات الإمام في فقه الشيعة8؛ فطبقًا للدستور يتولى رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية ويمارسها على الوجه المبين في الدستور (المادة 137). كما يضع بالاشتراك مع مجلس الوزراء السياسة العامة للدولة ويشرفان على تنفيذها على الوجه المبين في الدستور.
ويمارس الرئيس الاختصاصات المنصوص عليها في المواد 144و145 و146و147 بعد موافقة مجلس الوزراء، والاختصاصات المنصوص عليها في المواد 108 و148 و151 بعد أخذ رأيه (المادة 138).
كما أن رئيس الجمهورية هو الذي يعين رئيس مجلس الوزراء ويعفيه من منصبه، ويكون تعيين نواب رئيس مجلس الوزراء والوزراء ونوابهم وإعفائهم من مناصبهم بقرار من رئيس الجمهورية بعد أخذ رأى رئيس مجلس الوزراء (المادة 141). ولرئيس الجمهورية كذلك حق دعوة مجلس الوزراء للانعقاد وحضور جلساته، وتكون له رئاسة الجلسات التي يحضرها. كما يكون له حق طلب تقارير من الوزراء (المادة 142). ورئيس الجمهورية هو الذي يعين الموظفين المدنيين والعسكريين والممثلين السياسيين ويعزلهم على الوجه المبين في القانون (المادة 143). كما أن للرئيس حق إحالة الوزير للمحاكمة على يقع منه من جرائم أثناء تأدية أعمال وظيفته أو بسببها (المادة 159).
ويخول الدستور رئيس الجمهورية صلاحية إصدار اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين، وله أن يفوض غيره في إصدارها (المادة 144)، وكذلك إصدار لوائح الضبط (المادة 145)، وإصدار القرارات اللازمة لإنشاء وتنظيم المرافق والمصالح العامة (المادة 146). كما أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو الذي يعلن الحرب بعد موافقة مجلس الشعب (المادة 150). ويتولى كذلك رئاسة مجلس الدفاع الوطني (المادة 182). كما أن له حق إبرام المعاهدات على أن يبلغها مجلس الشعب مشفوعة بما يناسب من البيان، وتكون لها قوة القانون بعد إبرامها والتصديق عليا ونشرها طبقًا للأوضاع المقررة (المادة 151). وله كذلك أن يستفتي الشعب في المسائل المهمة التي تتصل بمصالح البلاد العليا (المادة 152)، وهو صاحب السلطة التقديرية في تحديد ماهية هذه المسائل.
وبالإضافة إلى سلطاته وصلاحياته التنفيذية، فإن لرئيس الجمهورية سلطات وصلاحيات تشريعية سواء في ظل الظروف العادية أو الاستثنائية؛ ففي الظروف العادية، يتمتع رئيس الجمهورية بالحق في اقتراح مشروعات القوانين (المادة 109)، والحق في إصدار القوانين التي يقرها مجلس الشعب أو الاعتراض عليها (المادة 112). كما أن له الحق في طلب تعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور (المادة 189)، فضلاً عن حقه في تعيين ما لا يزيد عن عشرة أعضاء في مجلس الشعب مع بداية كل فصل تشريعي (المادة 87).
ورغم أن بعض الصلاحيات التشريعية المخولة للرئيس مكفولة أيضًا لأعضاء مجلس الشعب مثل اقتراح مشروعات القوانين وطلب تعديل الدستور، إلا أن الدستور يحيط ممارسة هذه الصلاحيات من قبل الأعضاء ببعض القيود التي لا تنطبق على ممارستها من قبل الرئيس؛ فبالنسبة لمشروعات القوانين المقدمة من أعضاء مجلس الشعب، فإنها لا تُحال إلى لجان المجلس لفحصها وتقديم تقارير عنها، إلا بعد فحصها أمام لجنة خاصة لإبداء الرأي في جواز نظر المجلس فيها، وبعد أن يقرر المجلس ذلك (المادة 110)، وكل مشروع قانون اقترحه أحد أعضاء مجلس الشعب ورفضه المجلس لا يجوز تقديمه ثانية في نفس دور الانعقاد (المادة 111)، أما بالنسبة لطلب تعديل الدستور من جانب المجلس، فإنه يجب أن يكون موقعًا من قبل ثلث أعضاء المجلس على الأقل (المادة 189)؛ ولذلك يُلاحَظ أن التعديلين الدستوريين خلال عهد الرئيس مبارك قد تما بمبادرة منه.
أما في الظروف الاستثنائية، وطبقًا للدستور فإنه يحق لرئيس الجمهورية " إذا قام خطر حال وجسيم يهدد الوحدة الوطنية، أو سلامة الوطن، أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري أن يتخذ الإجراءات السريعة لمواجهة هذا الخطر بعد أخذ رأى رئيس مجلس الوزراء ورئيسي مجلسي الشعب والشورى، ويوجه بيانًا إلى الشعب، ويجرى الاستفتاء على ما اتخذه من إجراءات خلال ستين يومًا من اتخاذها، ولا يجوز حل مجلس الشعب في أثناء ممارسة هذه السلطات" (المادة 74). كما يخول الدستور رئيس الجمهورية عند الضرورة، وفى الأحوال الاستثنائية، سلطة إصدار قرارات لها قوة القانون، وذلك بناء على تفويض من مجلس الشعب بأغلبية ثلثي الأعضاء (المادة 108). ويخوله كذلك سلطة إصدار قرارات لها قوة القانون في حالة غيبة مجلس الشعب، وحدوث ما يوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير( المادة 147)، إلا أنه يبقى للرئيس سلطة تقديرية في تحديد ماهية الظروف التي تستوجب اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير. ويحق للرئيس كذلك إعلان حالة الطوارئ على النحو المبين في القانون (المادة 148).
كما أن لرئيس الجمهورية حق إصدار قرار بحل مجلس الشعب عند الضرورة دون إجراء استفتاء شعبي.
"
ثمة اتفاق بين كثير من الأحزاب والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني وأهل الرأي والفكر على أن الإصلاح الدستوري والسياسي الحقيقي -وليس المغشوش- هو السبيل الوحيد لمعالجة أزمة النظام السياسي وإعادة بنائه على أسس جديدة
"
وفي هذه الحالة يجب أن يتضمن قرار الحل دعوة الناخبين لإجراء انتخابات جديدة لمجلس الشعب في ميعاد لايجاوز ستين يومًا من تاريخ صدور قرار الحل (136). وهذه المادة قبل تعديلها في عام 2007 كانت تقيد سلطة رئيس الجمهورية في حل مجلس الشعب عند الضرورة بإجراء استفتاء شعبي. كما أن من سلطة رئيس الجمهورية تعيين ثلث أعضاء مجلس الشورى (المادة 196)، وله كذلك حق حل مجلس الشورى عند الضرورة مع دعوة الناخبين لإجراء انتخابات جديدة لمجلس الشورى في ميعاد لايجاوز ستين يومًا من تاريخ صدور قرار الحل (المادة 204). كما أن المجالس القومية المتخصصة تتبع رئيس الجمهورية (المادة 164).
وإلى جانب سلطاته وصلاحياته التنفيذية والتشريعية، فإن لرئيس الجمهورية سلطات وصلاحيات قضائية منها. أنه يتولى رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، الذي يضم رؤساء الهيئات القضائية، ويرعى شؤونها المشتركة (المادة 173) . وبمقتضى التعديل الدستوري عام 2007، أصبح من سلطة رئيس الجمهورية أن يحيل أي جريمة من جرائم الإرهاب إلى أية جهة قضاء منصوص عليها في الدستور أو القانون (المادة 179).
وبالإضافة إلى كافة السلطات والصلاحيات الدستورية التي يتمتع بها رئيس الجمهورية فإنه يترأس الحزب الوطني الديمقراطي، الذي يحتكر الأغلبية في مجلس الشعب منذ تأسيسه، الأمر الذي يجعل الرئيس يسيطر من الناحية العملية على السلطتين التنفيذية والتشريعية.
وإذا كان مبدأ أن السلطة لابد أن تقابلها مسؤولية هو من المبادئ الأساسية للحياة الدستورية، فالمُلاحظ أن السلطات والصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية في مصر لا تقابلها أية مسؤولية حقيقية من الناحية العملية، وكل مايتضمنه الدستور في هذا الشأن هو " أن يكون اتهام رئيس الجمهورية بالخيانة العظمى أو بارتكاب جريمة جنائية بناء على اقتراح من ثلث أعضاء مجلس الشعب على الأقل، ولايصدر قرار الاتهام إلا بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس... وتكون محاكمة رئيس الجمهورية أمام محكمة خاصة، ينظم القانون تشكيلها، وإجراءات المحاكمة أمامها ويحدد العقاب..." (المادة 85)، وواضح أن الشروط التي تتضمنها هذه المادة تجعلها غير ذات موضوع في ضوء سيطرة رئيس الدولة على السلطة التشريعية بحكم رئاسته للحزب الوطني الديمقراطي الذي يحتكر الأغلبية في مجلس الشعب على نحو ماسبق ذكره. كما أن القانون الخاص بمحاكمــة رئيس الجمهورية لم يصدر حتى الآن.
ب. الحكومة
ينص الدستور على أن الحكومة هي الهيئة التنفيذية والإدارية العليا للدولة، وتتكون من رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء ونوابهم (المادة 153). وتتمثل اختصاصات مجلس الوزراء في: الاشتراك مع رئيس الجمهورية في وضع السياسة العامة للدولة، والإشراف على تنفيذها وفقا للقوانين والقرارات الجمهورية، وتوجيه وتنسيق أعمال الوزارات والجهات التابعة لها والهيئات والمؤسسات العامة، وإصدار القرارات الإدارية والتنفيذية، وإعداد مشروعات القوانين والقرارات، وإعداد مشروع الموازنة العامة للدولة، وإعداد مشروع الخطة العامة للدولة، وعقد القروض ومنحها طبقا لأحكام الدستور، وملاحظة تنفيذ القوانين والمحافظة على أمن الدولة وحماية حقوق المواطنين ومصالح الدولة (المادة 156). كما يجوز لرئيس الوزراء ونوابه والوزراء ونوابهم أن يكونوا أعضاء في مجلس الشعب. كما يجوز لغير الأعضاء منهم حضور جلسات المجلس ولجانه (المادة 134).
ومع أن الدستور قد نص على أن "الوزراء مسؤولون أمام مجلس الشعب عن السياسة العامة للدولة، وكل وزير مسؤول عن أعمال وزارته، ولمجلس الشعب أن يقرر سحب الثقة من أحد نواب رئيس الوزراء أو أحد الوزراء أو نوابهم"، إلا أنه قيَّد ذلك بعدة ضوابط، وهي أنه "لا يجوز عرض طلب سحب الثقة إلا بعد استجواب، وبناء على اقتراح عشر أعضاء المجلس. ولايجوز للمجلس أن يصدر قراره في الطلب قبل ثلاثة أيام على الأقل من تقديمه، ويكون سحب الثقة بأغلبية أعضاء المجلس" (مادة 126). وعلى الرغم من أن مجلس الشعب يمتلك هذه السلطة الرقابية، إلا أنه لم يقم بسحب الثقة من أي وزير منذ الأخذ بالتعددية السياسية في منتصف سبعينيات القرن العشرين على نحو ما سيأتى ذكره فيما بعد.
وعلى الرغم من أن التعديلات الدستورية في عام 2007 قد عززت بدرجة ما من صلاحيات مجلس الوزراء؛ حيث أصبحت ممارسة رئيس الجمهورية لبعض صلاحياته معلقة على موافقة مجلس الوزراء في بعض الحالات، وأخذ رأيه في حالات أخرى (المواد 74 و138و141)، إلا أن الإبقاء على طريقة تعيين رئيس مجلس الوزراء وإعفائه من منصبه دون تعديل؛ حيث إن ذلك هو اختصاص أصيل لرئيس الجمهورية، إنما يقلل من أهمية التعديلات الدستورية من الناحية العملية، حيث تبقى العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء مجرد علاقة بين رئيس ومرؤوس، ولايُتصور أن يرفض المرؤوس قرارًا لرئيسه، وبخاصة في ظل غلبة الطابع التكنوقراطى على عملية تعيين رئيس الوزراء والوزراء في عهد مبارك.9
2- السلطة التشريعية
لقد حدد الدستور سلطات مجلس الشعب سواء أكانت سلطات تشريعية أو مالية أو رقابية10؛ ففي مجال التشريع: لكل عضو من أعضاء مجلس الشعب حق اقتراح مشروعات القوانين حسب إجراءات حددها الدستور (المواد 109، 110، 111). أما الاختصاص المالي لمجلس الشعب، فيتمثل في: إقرار الخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ( المادة 114)، كما يجب عرض الموازنة العامة على مجلس الشعب قبل ثلاثة أشهر على الأقل من بدء السنة المالية، ولا تُعتبر نافذة إلا بموافقته عليها، ويجوز لمجلس الشعب أن يعدل النفقات الواردة في مشروع الموازنة، عدا التي ترد تنفيذًا لالتزام محدد على الدولة. وإذا ترتب على التعديل زيادة في النفقات وجب أن يتفق المجلس مع الحكومة على تدبير مصادر للإيرادات بما يحقق إعادة التوازن بينها وبين النفقات (المادة 115). ومن المعروف أن هذه المادة كانت من بين المواد التي شملها التعديل الدستوري عام 2007. وبمقتضى التعديل أصبح من حق المجلس أن يعدل النفقات الواردة في مشروع الموازنة دون أن يكون ذلك معلقًا على شرط موافقة الحكومة كما كانت تنص المادة قبل التعديل.
وطبقا للدستور، فإنه يجب عرض الحساب الختامي لميزانية الدولة على مجلس الشعب في مدة لاتزيد عن ستة أشهر من تاريخ انتهاء السنة المالية، ويتم التصويت عليه بابًا بابًا، ويصدر بقانون، كما يجب عرض التقرير السنوي للجهاز المركزي للمحاسبات وملاحظاته على مجلس الشعب، وللمجلس أن يطلب من الجهاز المركزي للمحاسبات أي بيانات أو تقارير أخرى (المادة 118). وبالإضافة إلى ذلك فإن إنشاء الضرائب العامة أو تعديلها أو إلغاءها لايكون إلا بقانون (المادة 119). ولايجوز للسلطة التنفيذية عقد قروض أو الارتباط بمشروع يترتب عليه إنفاق مبالغ من خزانة الدولة في فترة مقبلة إلا بموافقة مجلس الشعب (المادة 121).
أما بالنسبة للسلطات والصلاحيات الرقابية لمجلس الشعب فهي تتمثل في أنه يحق لكل عضو من أعضاء مجلس الشعب أن يوجه إلى رئيس مجلس الوزراء أو أحد نوابه أو أحد الوزراء أو نوابهم أسئلة في أي موضوع يدخل في اختصاصهم (المادة 124)، كما أن لكل عضو من أعضاء مجلس الشعب حق توجيه استجوابات إلى رئيس مجلس الوزراء أو نوابه أو الوزراء أو نوابهم لمحاسبتهم في الشؤون التي تدخل في اختصاصاتهم، وتجرى المناقشة في الاستجواب بعد سبعة أيام على الأقل من تقديمه، إلا في حالات الاستعجال التي يراها المجلس وبموافقة الحكومة (المادة 125). والوزراء مسؤولون أمام مجلس الشعب عن السياسة العامة للدولة، وكل وزير مسؤول عن أعمال وزارته، ولمجلس الشعب أن يقرر سحب الثقة من أحد نواب رئيس مجلس الوزراء أو أحد الوزراء أو نوابهم، ولايجوز عرض طلب سحب الثقة إلا بعد استجواب، وبناء على اقتراح عُشر أعضاء المجلس، ويكون سحب الثقة بأغلبية أعضاء المجلس (126).
كما أن لمجلس الشعب أن يقرر بناء على طلب عُشر أعضائه مسؤولية رئيس مجلس الوزراء، ويصدر القرار بأغلبية أعضاء المجلس، وذلك بناء على إجراءات وضوابط حددها الدستور (127). ويجوز لعشرين عضوًا على الأقل من أعضاء مجلس الشعب طرح موضوع عام للمناقشة لاستيضاح سياسية الوزارة بشأنه (المادة 129)، ولأعضاء المجلس كذلك إبداء رغبات في موضوعات عامة إلى رئيس مجلس الوزراء أو أحد نوابه أو أحد الوزراء (المادة 130)، كما أن لمجلس الشعب كذلك أن يكوِّن لجنة خاصة أو يكلف لجنة من لجانه بفحص نشاط إحدى المصالح الإدارية أو المؤسسات العامة، أو أي مشروع من المشروعات العامة من أجل تقصي الحقائق (المادة 131). وبموجب الدستور فإنه يتعين على رئيس مجلس الوزراء تقديم برنامج الوزارة خلال ستين يومًا من تأليفها إلى مجلس الشعب أو في أول اجتماع له إذا كان غائبًا، وإذا لم يوافق المجلس على هذا البرنامج بأغلبية أعضائه قَبِل رئيس الجمهورية استقالة الوزارة، وإذا لم يوافق المجلس على برنامج الوزارة الجديدة، كان لرئيس الجمهورية أن يحل المجلس أو يقبل استقالة الوزارة (المادة 133).
أما بالنسبة لمجلس الشورى، فهو يختص طبقًا للمادة 194 من الدستور بدراسة واقتراح ما يراه كفيلاً بالحفاظ على دعم الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، وحماية المقومات الأساسية للمجتمع وقيمه العليا والحقوق والحريات والواجبات العامة. كما عزز التعديل الدستوري عام 2007 من صلاحيات مجلس الشورى؛ إذ شمل التعديل المادة 194، وبمقتضى ذلك أصبحت موافقة المجلس واجبة على: الاقتراحات الخاصة بتعديل مادة أو أكثر مواد الدستور، على أن تسرى على مناقشة التعديل والموافقة عليه بالمجلس الأحكام المنصوص عليها في المادة 189، ومشروعات القوانين المكملة للدستور التي نصت عليها العديد من مواده، ومعاهدات الصلح والتحالف وجميع المعاهدات التي يترتب عليها تعديل في أراضى الدولة والتي تتعلق بحقوق السيادة. وقد تضمن الدستور آلية لمعالجة أي خلاف ينشأ بين مجلسي الشعب والشورى بشأن ممارسة الصلاحيات المنوطة بكل منهما (المادة 194). وبموجب المادة 195 من الدستور التي شملها التعديل الدستوري عام 2007، فقد أصبح يتعين أخذ رأى مجلس الشورى في: مشروع الخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومشروعات القوانين التي يحيلها إليه رئيس الجمهورية، ومايحيله رئيس الجمهورية إلى المجلس من موضوعات تتصل بالسياسة العامة للدولة أو بسياستها في الشؤون العربية أو الخارجية.
وعلى الرغم من السلطات والصلاحيات التشريعية والرقابية التي يتمتع بها مجلس الشعب من الناحية الدستورية، إلا أن دوره في الحياة السياسية يتسم بالضعف والهشاشة؛ فعلى صعيد عملية التشريع، أكدت -وتؤكد- خبرة الممارسة العملية أن الحكومة هي التي تقدم الغالبية العظمى من مشروعات القوانين، ويقوم مجلس الشعب بمناقشتها وإقرارها بدون تعديل أو بعد إدخال تعديلات طفيفة على بعضها. وعلى الرغم من أن بعض مشروعات القوانين التي قدمتها الحكومة قد جرى بشأنها مناقشات جادة تحت قبة البرلمان، ورغم اعتراض نواب المعارضة على بعض القوانين، إلا أن ذلك لم يغير من واقع الأمر شيئًا؛ حيث إن الأغلبية التي يتمتع بها الحزب الوطني الديمقراطي داخل البرلمان تسمح للحكومة بتمرير القوانين التي تريدها. ونظرًا لأن بعض القوانين لا تأخذ حظها الكافي من الدراسة والبحث والمناقشة؛ حيث يتم إعدادها على عجل من قبل الحكومة، ويجرى تمريرها بسرعة داخل مجلس الشعب، فإنها تخرج معيبة دستوريًا، وتصبح عرضة للطعن في دستوريتها. وكثيرًا ما حكمت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قوانين أقرها المجلس11. كما أن هذه القوانين تصبح عرضة لكثرة التعديل بكل مايترتب على ذلك من سلبيات.
ورغم أن لمجلس الشعب سلطات رقابية، إلا أنه لا يمارس هذه السلطات كما يجب، وبما يعزز من دوره في مراقبة أعمال الحكومة، حيث يُلاحظ أن أساليب الرقابة الأقل تأثيرًا مثل الأسئلة هي التي تطغى على النشاط الرقابي للمجلس مقارنة بأساليب الرقابة الأكثر فاعلية مثل الاستجوابات، وطلبات الإحاطة، وتشكيل لجان تقصى الحقائق. وأكثر من هذا فإن الأساليب الإجرائية لعمل المجلس كثيرًا ما فرَّغت الاستجواب -باعتباره أكثر أساليب الرقابة البرلمانية فاعلية- من محتواه؛ وذلك نظرًا لعدم مناقشة بعض الاستجوابات لتأخير مواعيد مناقشتها إلى قرب نهاية الدورة البرلمانية بحيث تنفض الدورة دون مناقشة هذه الاستجوابات، أو أن تتم مناقشة عدة استجوابات في جلسة واحدة، بحيث لا يأخذ الاستجواب حقه من العرض والمناقشة.
وفي ضوء ذلك، فإنه ليس من قبيل المصادفة أن كل الاستجوابات التي تم مناقشتها تحت قبة مجلس الشعب منذ الفصل التشريعي الأول (1971- 1976) حتى الآن، انتهى الأمر بشأنها إلى موافقة المجلس إلى إغلاق باب المناقشة والانتقال إلى جدول الأعمال، بل إنه كثيرًا ما أيد المجلس بالأغلبية سياسة رئيس الوزراء أو الوزير المستجوب، بما يعنى أن الاستجواب كأن لم يكن12؛ ولذلك لم يحدث أن قام مجلس الشعب بسحب الثقة من وزير، كما لم يحدث في تاريخ مصر أن سقطت حكومة بسبب فقد الثقة من خلال البرلمان منذ نشأته عام 1866. 13
وعلى الرغم من أن التعديلات الدستورية في عام 2007 قد عززت من سلطات وصلاحيات السلطة التشريعية ممثلة في مجلسي الشعب والشورى (المواد 115 و118 و127و 133 و 194 و195)، إلا أن ذلك يُعتبر محدود الأهمية من زاوية تحقيق التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية؛ حيث بقيت معظم سلطات الرئيس وصلاحياته سالفة الذكر دون تعديل. كما أن التعديلات الدستورية خولته سلطات وصلاحيات جديدة من أهمها ماجاء في المادة 136؛ حيث أصبح من حقه إصدار قرار بحل مجلس الشعب عند الضرورة دون إجراء استفتاء شعبي كما كانت هذه المادة تنص قبل التعديل.
كما أن العبرة في نهاية المطاف ليس بمجرد منح صلاحيات جديدة للسلطة التشريعية فحسب، ولكن بمدى فاعليتها في ممارسة صلاحياتها. وتؤكد الخبرة السياسية المصرية أن مجلس الشعب لا يمارس سلطاته بفاعلية لاعتبارات عديدة منها: أن بعض القيود والضوابط التي يتضمنها الدستور بشأن ممارسة مجلس الشعب لبعض صلاحياته التشريعية والرقابية، وكذلك الأساليب الإجرائية لعمل المجلس تحد من فاعليته في ممارسة دوره التشريعي والرقابي. وبالإضافة إلى ذلك فإن احتكار الحزب الوطني الديمقراطي للأغلبية البرلمانية منذ تأسيسه قد انعكس بالسلب على الدور السياسي لمجلس الشعب، لا سيما أن رئيس الدولة هو رئيس الحزب الوطني، أي هو المسيطر على السلطتين التنفيذية والتشريعية. وفى ضوء هذا الواقع، دأب الحزب الوطني الديمقراطي مستندًا إلى أغلبيته المصنعة على تمرير مشروعات القوانين التي تتقدم بها الحكومة، وتجنب استخدام الأساليب البرلمانية الأكثر فاعلية في ممارسة الرقابة على أعمالها وفى مقدمتها الاستجواب، فضلاً عن إجهاض محاولات نواب المعارضة بشأن استخدام بعض أدوات الرقابية البرلمانية بشكل فعَّال. ناهيك عن الممارسات السلبية لكثير من أعضاء مجلس الشعب مثل التغيب عن حضور الجلسات، أو النوم أثناءها، أو ضعف المشاركة في أعمال المجلس، أو اللهاث خلف الوزراء من أجل الحصول على تأشيرات، علاوة على انخراط بعض النواب في ممارسات فاسدة، ومن ذلك على سبيل المثال: "نواب القروض"، و"نواب الكيف"، و"نواب العلاج على نفقة الدولة".
3- السلطة القضائية
يشكِّل استقلال القضاء أحد المؤشرات الأساسية لدرجة التطور الديمقراطي. وعلى الرغم من أن الدستور المصري ينص على أن السلطة القضائية مستقلة (المادة 165)، وأن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون (المادة 166)، ومع التسليم بالاستقلال النسبي الذي تتمتع به السلطة القضائية في ممارساتها لصلاحياتها، إلا أن هناك بعض المتغيرات المرتبطة بطبيعة النظام السياسي، وبهيكل السلطة القضائية ذاتها كانت -ولاتزال- لها تأثيراتها السلبية على درجة استقلال القضاء، ومنها على سبيل المثال: أن الدستور أحال تنظيم الهيئات القضائية، واختصاصاتها، وطريقة تشكيلها، وإجراءات تعيين أعضائها ونقلهم إلى القانون (المادة 167)، الأمر الذي يمكن السلطة التنفيذية من الحد من استقلال القضاة بأشكال مختلفة، خاصة وأنها تتحكم -من الناحية الفعلية- في العملية التشريعية باعتبار أن حزب الحكومة أو بالأحرى حزب رئيس الجمهورية هو الذي يحتكر الأغلبية البرلمانية في مجلسي الشعب والشورى.
وقد خاض القضاة خلال الفترة من 2005- 2007 صراعًا سلميًا مع الدولة كان عنوانه استقلال القضاء؛ حيث حاولت السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل على خلفية دور القضاة في الإشراف على الانتخابات التشريعية عام 2005، والذي حقق لها درجة يُعتَد بها من النزاهة، حاولت استخدام بعض التعديلات على قانون السلطة القضائية كأداة للحد من استقلال القضاة من خلال التحكم في شؤونهم الإدارية والوظيفية وممارسة التفتيش القضائي، ناهيك عن محاولات تسييس القضاء واحتوائه، وهو ما رفضه غالبية القضاة بشدة.14
كما أن استمرار العمل بقانون الطوارئ، وبمجموعة من القوانين التي صدرت في فترات استثنائية من تاريخ مصر، والتي تتضمن قيودًا عديدة على حقوق المواطنين وحرياتهم قد أدى إلى بروز قضاء استننائى مواز للقضاء الطبيعي؛ حيث تضمن بعض هذه القوانين إنشاء محاكم استثنائية تختلف عن المحاكم العادية من حيث طريقة تشكيل هيئاتها القضائية حيث تضم أشخاصا من غير أعضاء السلك القضائي. ومن هذه المحاكم محكمة أمن الدولة طوارئ المرتبطة بقانون الطوارئ 15. كما دأبت السلطة على إحالة مدنيين إلى القضاء العسكري.
وبموجب التعديل الدستوري عام 2007 أصبح من حق رئيس الجمهورية إحالة أية جريمة من جرائم الإرهاب إلى أية جهة قضائية يتضمنها الدستور والقانون. وبذلك يصبح أي قرار لرئيس الجمهورية بهذا الشأن محصنًا ضد الطعن فيه بعدم الدستورية. وينطوي هذا الأمر على خطورة كبيرة في ظل التعريف الفضفاض والمطاط للإرهاب والجرائم الإرهابية، فضلاً عن كونه يتعارض مع مبدأ دستوري أصيل وهو كفالة حق المتهم في محاكمة عادلة أمام قاضيه الطبيعي16.
وفى ضوء ما سبق، يمكن القول: إن التطورات السياسية والتشريعية التي شهدتها مصر في ظل التعددية السياسية المقيدة قد أوجدت نوعًا من الازدواجية في النظام القضائي المصري؛ حيث أصبح هناك قضاء عادى وآخر استثنائي. وقد اقترن بذلك زيادة اللجوء إلى إحالة المدنيين إلى القضاء العسكري في قضايا العنف والتطرف التي شهدتها مصر خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، وهو أمر كان محل جدل سياسي وقانوني واسع. كما تعرف مصر ظاهرة أخرى تقلل من مردود استقلال القضاء من الناحية العملية وهى ضعف تنفيذ الأحكام القضائية؛ مما يؤثر بالسلب على هيبة الحكم القضائي وفاعليته، فما قيمة أن يحصل صاحب الحق على حقه بموجب حكم قضائي ثم يبقى هذا الحكم دون تنفيذ؟!
ثانيا: النظام السياسي ومعضلة الشرعية السياسية
إن الخلل الكبير في التوازن بين السلطات، وتعثر عملية التحول الديمقراطي قد أسهما في تعميق أزمة الشرعية السياسية التي يعاني منها النظام السياسي المصري، لاسيما أنه أخفق في خلق مصادر جديدة للشرعية في ظل صعوبة اعتماده على الكاريزما كمصدر للشرعية، وضعف قدرته على توظيف الدين في هذا المجال؛ حيث تؤكد أجهزته ليل نهار على عدم الخلط بين الدين والسياسة من أجل محاصرة جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات والتنظيمات الإسلامية. وأكثر من هذا، فقد أخفق النظام إخفاقًا كبيرًا في الاعتماد على الشرعية الدستورية؛ حيث فرغ عملية التحول الديمقراطي من محتواها الحقيقي على نحو ما سبق ذكره، وبالتالي فإن أي حديث عن شرعية دستورية ديمقراطية للنظام لا قيمة له في ظل استمرار ظواهر سياسية سلبية مثل: احتكار السلطة، وتزوير الانتخابات، وضعف مبدأ المساءلة والمحاسبة، وفرض القيود على منظمات المجتمع المدني، وانتهاك حقوق الإنسان.
كما أن النظام السياسي فشل فشلاً ذريعًا في خلق وتكريس ما يُعرف بـ"شرعية الإنجاز"، وهى شرعية لا يستغني عنها أي نظام سياسي، إذ تتمثل في قدرته على مواجهة المشكلات والتحديات التي تواجه المجتمع بفاعلية وكفاءة على نحو يحقق إشباع الحاجات الأساسية للمواطنين، ويوفر لهم الأمن والطمأنينة. وفى هذا السياق، فقد أدت السياسات السيئة التي انتهجها النظام المصري على مدى مايقرب من ثلاثة عقود إلى تفاقم حدة بعض المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وخلق مشكلات جديدة، وتدهور أوضاع قطاعات واسعة من المصريين بحيث أصبحت تحت خط الفقر، واستشراء الفساد بشكل يكاد يكون غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث. وقد قاد كل ذلك إلى وجود حالة من التدهور العام أصابت مختلف مجالات الحياة وبخاصة التعليم والصحة والإسكان والمواصلات والرياضة والثقافة وغيرها، ناهيك عن تراجع الدور الخارجي لمصر سواء على الصعيد الإقليمي أو العالمي، أي أن النظام فشل في تحقيق التنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية على الصعيد الداخلي، كما أنه فشل في تعزيز مكانة مصر على الصعيد الخارجي.
ومن المؤكد أن فشل النظام في أن يتخذ من الإنجاز مصدرًا للشرعية إنما هو محصلة طبيعية لترهل أجهزة الدولة ومؤسساتها، وتردي مستوى أدائها، وغياب التنسيق الفعال فيما بينها، واستشراء الفساد فيها، فضلاً عن التخبط في وضع السياسات العامة وعدم وضوح أولوياتها، وغياب أو ضعف مبدأ المساءلة والمحاسبة عن تنفيذ هذه السياسات.
"
تتجلَّى أزمة الشرعية التي يعاني منها النظام السياسي في مظاهر عديدة، منها: عزوف غالبية المصريين عن المشاركة في الحياة السياسية لقناعتهم بعدم وجود حياة سياسية حقيقية، وأن التعددية الحزبية، والانتخابات الدورية هي مجرد ديكور ديمقراطي لنظام فردي
"
وتتجلَّى أزمة الشرعية التي يعاني منها النظام السياسي في مظاهر عديدة، منها: عزوف غالبية المصريين عن المشاركة في الحياة السياسية لقناعتهم بعدم وجود حياة سياسية حقيقية، وأن التعددية الحزبية، والانتخابات الدورية هي مجرد ديكور ديمقراطي لنظام فردي. وتصاعد أعمال الاحتجاج الجماعي بشكل يكاد أن يكون غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث، وهو احتجاج انخرطت –وتنخرط- فيه قوى وفئات اجتماعية عديدة من أجل توصيل مطالبها، وممارسة الضغوط السلمية على السلطة للاستجابة لهذه المطالب. ولا شك في أن تصاعد هذه الظاهرة إنما يؤكد على فشل المؤسسات والتنظيمات السياسية الوسيطة في الدفاع عن مصالح الفئات الاجتماعية وتوصيل مطالبها إلى السلطة، كما يؤكد إخفاق السياسات التي تنتهجها الدولة في معالجة أسباب الاحتقان الاجتماعي، ووجود قناعة بدأت تنتشر على نطاق واسع مفادها أن السلطة لا تتحرك إلا تحت ضغط الشارع17. ومن مظاهر أزمة الشرعية أيضًا تزايد اعتماد النظام على القبضة الأمنية، وهو مايجد ترجمته في حجم قوات الأمن التي يعتمد عليها النظام، والتي ينصرف جانب أساسي من عملها إلى تحقيق الأمن بمعناه السياسي وليس الاجتماعي، أي أمن النظام وليس أمن المجتمع.
خاتمة
إن الأزمة البنائية التي يعاني منها النظام السياسي، والتي هي محصلة لعوامل عديدة في مقدمتها الخلل الكبير في التوازن بين السلطات، باتت تثير العديد من التساؤلات والهواجس والإشكاليات حول مستقبل النظام السياسي. وثمة اتفاق بين كثير من الأحزاب والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني وأهل الرأي والفكر على أن الإصلاح الدستوري والسياسي الحقيقي -وليس المغشوش- هو السبيل الوحيد لمعالجة أزمة النظام السياسي وإعادة بنائه على أسس جديدة. وأن هذا الإصلاح يستند في جانب مهم منه إلى إعادة النظر في سلطات وصلاحيات رئيس الجمهورية عن طريق "إعادة توزيع السلطة وتوسيع قاعدتها بما يحقق التوازن بين السلطات. ويتطلب ذلك التوجه نحو نظام برلماني أكثر ملاءمة لعلاج الخلل القائم في جميع دساتيرنا الجمهورية، وهو الاتجاه الغالب في الدساتير الحديثة، ونقطة البدء هي إعادة التوازن بين شريكي السلطة التنفيذية: رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء".18
ولكن التحدي الأكبر هنا هو أن القوى والتيارات الراغبة في الإصلاح الدستوري والسياسي غير قادرة على فرضه على النخبة الحاكمة لضعفها وهشاشتها وغياب التنسيق الفعال فيما بينها، وأن القوى والمؤسسات القادرة على إحداث التغيير وفى مقدمتها مؤسسة رئاسة الجمهورية غير راغبة في ذلك لارتباط مصالحها باستمرار الأوضاع الراهنة. وبدون كسر هذه المعادلة البائسة لصالح قضية الإصلاح الدستوري والسياسي بشكل سلمى وفعال؛ فإن البديل لذلك سيكون المزيد من الاستبداد، والمزيد من الفساد، مع تصاعد حالة الاحتقان بين السلطة والمجتمع، وربما ظهور موجات جديدة من التطرف والإرهاب. وكل ذلك وغيره سيكون له تداعيات كارثية على الدولة والمجتمع لايعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى. أما كيف يمكن كسر هذه المعادلة؟، وما متطلبات وشروط ذلك؟، وكيف يمكن إنضاجها؟ فهي أسئلة تخرج الإجابة عليها عن نطاق هذه الورقة، وتحتاج إلى دراسة مستقلة.
______________
حسنين توفيق إبراهيم، أستاذ العلوم السياسية بجامعتي القاهرة وزايد بالإمارات العربية المتحدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى