أعود وأكرر، لست مفتيا ولن أكون، ما أنا إلا قارئ يدل الناس على تراث مشرق، يحاول المتطرفون أن يحجبوه عن الناس، ليصنعوا كهنوتا ليس موجودا فى الإسلام، ويحتكروا الحديث باسم الدين، مع أن الله عندما حفظ دينه جعل العقل دعامة هذا الحفظ، جاء فى الحديث الشريف «إن الأحمق يصيب بجهله أكثر من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غدا فى الدرجات الزلفى من ربهم على قدر عقولهم»، وفى حديث آخر «لكل شىء دعامة ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته، أما سمعتم قول الفجار فى النار لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحاب السعير». (انظر باب العقل فى «إحياء علوم الدين» لتراجع عشرات الآيات والأحاديث التى تعلى من شأن العقل).
لذلك كله لن تستغرب أبدا الإمام أبى حامد الغزالى فى رسالته (فيصل التفرقة)، يقرر أن من يحكم عليه بالكفر من سائر الأمم هو من قرع سمعه التواتر عن النبى وصفاته ومعجزاته «فإذا قرع ذلك سمعه فأعرض عنه وتولى ولم ينظر فيه ولم يتأمل ولم يبادر إلى التصديق، فهذا هو الجاحد الكاذب وهو الكافر، ولا يدخل فى هذا أكثر الروم والترك الذين بعدت بلادهم عن بلاد المسلمين»، بل إنه يضيف أن «من قرع سمعه تلك الأخبار فقصر فى طلبها وتبين حقيقتها، لأنه ركن إلى الدنيا يعد كافرا، ولو قصر فى الطلب فهو أيضا كفر»، ثم يختم بجملة رائعة، أرجو أن تتأمل فى معانيها «فإن اشتغل بالنظر والطلب، ولم يقصر، فأدركه الموت قبل تمام التحقيق، فهو أيضا مغفور له ثم له الرحمة الواسعة، فاستوسع رحمة الله تعالى ولا تزن الأمور الإلهية بالموازين المختصرة الرسمية».
للأسف اتهمنى البعض بتزييف كلام الشيخ محمد رشيد رضا فى هذه القضية، مع أننى، ويشهد الله، نقلته كما ورد بكتاب (القرآن والسلطان) للأستاذ فهمى هويدى، قالوا إن أحد أحفاده يكذبنى هو أيضا، ولهؤلاء جميعا أهدى هذه الفتوى التى قالها الشيخ رشيد رضا فى مجلة «المنار» عدد رجب 1322 باب (السؤال والفتوى) ونصها «إن دعوة خاتم النبيين عامة، فحكمها واحد فى زمنه وفى كل زمن بعده إلى يوم القيامة. فمن بلغته على وجه صحيح يحرك إلى النظر فلم ينظر فيها، أو نظر وظهر له الحق فأعرض عنه عنادا واستكبارا، فقد قامت عليه حجة الله البالغة، ولا عذر له فى يوم الجزاء إذا لم يرق روحه ويزك نفسه بها ليستحق رضوان الله تعالى، ومن لم تبلغه بشرطها أو بلغته ونظر فيها بإخلاص ولم يظهر له الحق ومات غير مقصر فى ذلك فهو معذور عند الله تعالى، ويكون حاله فى الآخرة بحسب ارتقاء روحه وزكائها بعمل الخير أو تسفلها ودنسها بعمل الشر، والخير والشر معروفان فى الغالب لكل أحد لا يكاد يختلف الناس إلا فى بعض دقائقهما، ويا سعادة من يتحرى عمل كل ما يعتقده خيرا واجتناب كل ما يعتقده شرا». بالله عليكم هل جاء فى كلامى ما يخالف كلام الشيخ رشيد رضا. خذوا عندكم أيضا هذا السؤال الذى تم توجيهه إلى المفتى الدكتور جمال الدين عطية فى موقع «إسلام أون لاين» بتاريخ 24 ديسمبر 2000 «إذا كان هناك جماعة فى أقصى الأرض لم تبلغهم الدعوة، وماتوا على دين آبائهم، فما حكمهم عند الله يوم القيامة؟»، فيرد قائلا «يعتبر هؤلاء من أهل الفترة، ويحاسبون على مقتضى العقل والفضيلة، وينبغى التنبيه هنا إلى مسؤولية المسلمين فى عدم إيصال وتبليغ الإسلام إلى جميع البلاد، والمقصود الإسلام بصورته الصحيحة، إذ يحتمل أن يكون قد وصلهم بصورة مشوهة من أعداء الإسلام، فيعتبرون فى هذه الحالة فى حكم من لم يصله الإسلام».
يوجه سائل فى نفس الموقع سؤالا إلى المفتى الشيخ الدكتور مصطفى الزرقا، رحمه الله، يقول فيه «ما رأى فضيلتكم بالفتوى القائلة بأن الأوروبيين والأمريكيين من النصارى لا يمكن أن يعتبروا فى حكم الكفار الأصليين المعاندين الذين ظهرت لهم البينة من أهل الكتاب، لأنهم لم يتبلغوا الإسلام، ولا يعرفون عنه أى شىء غير الاسم وبعض المعلومات المضللة، وقد صدرت هذه الفتوى عن بعض العلماء الذين زاروا أوروبا أو أمريكا كثيرا أو ترددوا عليهما، وعاينوا جهل سكان تلك البلاد بالإسلام.. أفتونا تؤجروا والسلام. فيجيب الدكتور مصطفى قائلا «ليسوا سواء: فمنهم مثقفون عرفوا الإسلام ودعوته إجمالا، فهؤلاء قطعا كفار إذا لم يسلموا. ومنهم عوام لم يسمعوا بالإسلام، أو يسمعون من القُسس وغيرهم أن المسلمين قوم وثنيون يعبدون شخصا اسمه محمد، ويسمونهم محمديين!! ولا شك أن المسلمين مقصرون فى واجب الدعوة وشرح الإسلام لغير المسلمين، كلٌّ بلغته التى يفهمها، فهؤلاء من الصعب أن يحكم عليهم بالكفر ما لم يبلغوا الإسلام»، فهؤلاء كأهل الفترة من النصارى وغيرهم قبل مجىء الإسلام، لأن الكفر معناه أن الشخص دعى وشرح له ولم يستجب». فى مسألة إقامة الحجة يقول الإمام ابن القيم الجوزية «قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار فى زمان دون زمان، وفى بقعة وناحية دون أخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذى لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له، فهذا بمنزلة الأصم الذى لا يسمع شيئا ولا يتمكن من الفهم».
نأتى أخيرا إلى مسألة أن يطلب المسلم الرحمة لغير المسلمين، خصوصا المشركين منهم، وهو ما يعتبره البعض أمرا يخالف نص القرآن الكريم الذى ينهى النبى (ص) والمؤمنين عن الاستغفار للمشركين، ولو كانوا ذوى قربى، وينسى هؤلاء أن مفسرين عديدين اعتبروا أنها تتحدث تحديدا عن عم النبى أبى لهب، لمحاربته الصريحة للإسلام وللنبى، لكنهم لا يجرون هذه الآية على مطلق المشركين، مستشهدين بآية كريمة يقول فيها سيدنا إبراهيم لأبيه الكافر «لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شىء»، أختم هنا بأحاديث شريفة رائعة من بينها «إن لله تعالى مئة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والطير والبهائم والهوام فيها يتعاطفون وبها يتراحمون، وأخَّر تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة»، «إذا كان يوم القيامة أخرج الله كتابا من تحت العرش فيه إن رحمتى سبقت غضبى وأنا أرحم الراحمين»، «يشفّع الله تعالى آدم يوم القيامة من جميع ذريته فى مئة ألف ألف وعشرة آلاف ألف»، وأخيرا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية «وكنت دائما أذكر الحديث الذى فى الصحيحين فى الرجل الذى قال: إذا أنا مت فأحرقونى، ثم اسحقونى. ثم ذرونى فى اليم، فوالله لئن قدر الله علىّ ليعذبنى عذابا ما عذبه أحدا من العالمين، ففعلوا به ذلك، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك، فغفر له.. فهذا رجل شك فى قدرة الله، وفى إعادته إذا ذرى، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك».
اللهم إنا نرجو رحمتك لنا ولكل عبادك ونخاف عذابك، فلا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ولا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى