ترجمة: زاهر بولس
*أثناء ذلك، اعتقد، أن الطائرات الأمريكية كانت تحلّق في أجواء كوبا؟
- اجل. استمرّوا بإرسال طائرات بيون من طراز U-2. وبدأوا بتنفيذ طلعات جويّة استكشافيّة على ارتفاع منخفض. ونحن من جهتنا قررنا إطلاق النار على هذه الطائرات. التحليق المنخفض يمكّن هجوماً مفاجئاً. طرحنا الموضوع أمام القادة السوفييت الذين تواجدوا هنا. قلنا لهم انه يجب عدم السماح بالتحليق المنخفض، وأبلغناهم عن نيّتنا في إطلاق النار. وفعلاً، باشرنا بإطلاق النار مستخدمين صواريخاً مضادة للطائرات. عندها، في السابع والعشرين من أكتوبر، قامت بطّاريّة صواريخ سوفييتيّة مضادة للطائرات من طراز سام بإسقاط طائرة أمريكية من طراز بيون U-2 في مقاطعة اوريينتا. حينها كانت اللحظة الأشد توتّراً. طيّار أل u-2 ، الضابط الأمريكي رودولف أندرسون، قتل. في كل لحظة كان من الممكن أن تتحوّل حادثة أخرى إلى حرب. واسمح لي أن أقول لك أن الناس هنا كانوا هادئون.
*هل كان هنالك لحظات اعتقدت فيها أن الحرب واقعة لا محالة؟
- انظر، كانت تلك لحظات توتر شديد. ظننا أن المواجهة واقعة لا محالة، وكنّا مصرّين على تحمّل مسؤوليّة المخاطرة . ولم نكن على استعداد للتنازل. كان لدينا الحق الكامل في الدفاع عن سيادتنا.
*لكن السوفييت تنازلوا.
- في تلك اللحظة، اللحظة الأشد توترًا، أرسل السوفييت اقتراحاً إلى الولايات المتحدة. دون استشارتنا، اقترحوا سحب الصواريخ في مقابل سحب صواريخ جوبيتر الأمريكية من تركيّا. وافق كينيدي على الاقتراح التوافقي في الثامن والعشرين من تشرين الأول، وعندها سحب السوفييت صواريخ أل أس- أس 4 من كوبا. لم ننظر بعين الرضا إلى هذا القرار، استأنا منه كثيراً.
*أكان لديك انطباع أن القرار اتخذ بالالتفاف عليكم؟
- علمنا باقتراح السوفييت من خلال وسائل الإعلام. لم يبحثوا معنا هذه القضيّة. لم نعترض على الحل، لان الأمر الأهم من الناحية التاريخيّة هو منع مواجهة نوويّة، لكن كان على السوفييت استشارتنا. الحديث هنا يدور عن مبدأ. كان عليهم أن يقولوا للأمريكان: "علينا التباحث مع الكوبيين". لربما، لو أننا شاركنا في المباحثات، لكنا حسّنّا من صيغة الاتفاق. لما ظلّت القاعدة البحريّة، غوانتانمو، بأيديهم، ولما استمرّت طلعاتهم الجويّة التجسّسيّة على ارتفاعات عالية. كل هذا أثار شديد استياءنا. احتججنا. فحتّى بعد الاتفاق استمرّينا بقصف الطائرات الأمريكية التي حلّقت على علو منخفض لحين اضطرارهم إيقاف الطلعات. تراجعت علاقتنا بالاتحاد السوفييتي وتأثّرت على مدى سنوات.
*في أيلول 1991 أدار الرئيس الروسي بوريس يلتسين مباحثاتاً مع الولايات المتحدة، وأخرجت موسكو على إثرها ما تبقّى من القوّات السوفييتيّة من كوبا. هل تشاوروا معكم حول قرارهم؟
- ما الداعي! إنهم لا يتشاورون أبدًا.
*أريد توضيحًا حول هذا الأمر، حين اخرجوا في العام 1991 ما سمّي "وحدة إرشاد جيش المشاة المهيّأة" من كوبا...
- لقد تفاوضوا مع الولايات المتحدة دون استشارتنا. تفاوضوا على كل شيء دون استشارتنا. واتفقوا على سحب الوحدة بجبن وغلاظة انتهازيّة. وفي كل الأحوال لم تكن لهذه الوحدة أية أهمية عسكريّة. فعلى الرغم من أن أفراد الجيش الروسي مدرّبون جدًا من الناحية التقنيّة، ويتحلّون بالشجاعة كما اثبتوا ذلك في الحرب العالميّة الثانية، فقد عانت هذه الوحدة من حالة الإحباط ولا تمتلك القدرة على خوض معركة حتى لمدّة ساعتين.
*أفي هذه الحالة أيضا كان من الممكن إخراج الولايات المتحدة من قاعدة غوانتانمو في مقابل إخراج الوحدة السوفييتيّة؟
- حسنًا، إن هذا الأمر كان ممكنًا فقط في أزمة أكتوبر. كان من الممكن نيل ذلك بسهولة بقليل من هدوء الأعصاب، لان العالم لم يكن مهيّأً لخوض حرب عالميّة. وكان بالإمكان نيل مطالب أخرى، فمن بين ما طلبناه إلغاء الحصار البحري ووقف الهجمات الإرهابية وإعادة قاعدة غوانتانمو. كان بالإمكان الحصول على كل ذلك بسهولة، فأنا على يقين أن أحدا لن يشارك في حرب عالميّة من اجل حصار بحري أو هجمات قرصنيّة أو من اجل السيطرة بشكل غير قانوني على قاعدة عسكريّة بعكس إرادة شعبنا.
من المهم التشديد على انّه لم يكن أي شيء غير قانوني في الاتفاقيّة التي عقدناها مع السوفييت والتي استناداً إليها تم نصب الصواريخ في كوبا. فالولايات المتحدة نصبت صواريخ جوبيتر في تركيّا وايطاليا ولم يتدخل احد في ذلك. لم تكن الأزمة في الحيّز القانوني، وإنما في أداء خروتشوف بإدارة الأزمة. حين بدأ بالمحادثات حول الموضوع، أنكر أن السلاح استراتيجيّاً وتورّط في الكذب. في المعركة السياسيّة لا تستطيع أن تسمح لنفسك بالتخلي عن الأخلاقيات، وهذا ما اضعف خروتشوف. أعيد واكرر أن خطوتنا كانت قانونيّة حتى أقصى حد، وشرعيّة وذات مصداقيّة، لكن الذي أعطى كينيدي مظلّة أخلاقية كذب السوفييت وتناقض المعلومات التي استغلّها. فقد كان بيد كينيدي الإثبات المؤكّد، والتي حصل عليها الأمريكان من الجو، من خلال الصور التي التقطتها طائرات U-2. وقد حصلوا على هذه المعلومات بسبب غباء السوفييت على المستوى العسكري. فحين تنصب صواريخاً فانك لا تستطيع أن تسمح بطلعات جوّيّة فوق أراضيك. الولايات المتّحدة لا تسمح بطلعات جوّيّة فوق أراضيها لدولة عظمى معادية، وفي المقابل سمح السوفييت بذلك. ولا شك انّه كان هنالك الكثير من الأخطاء السياسيّة والعسكريّة. على أي حال، لم نصادق في أكتوبر 1962 على إخراج الصواريخ السوفييتيّة، ولكننا لم نتّخذ أي خطوة لمنع ذلك. ففي نهاية المطاف، فيما لو فعلنا ذلك، كنا سنشعل حرباً ضد دولتين عظميين، وهذا يفوق قدراتنا.
*من المؤكّد أن هذا فوق طاقة الاحتمال!
- كان لدينا نحو ثلاثمائة ألف مسلّح. فيما لو قرّرنا الرفض، لما حرّك السوفييت صاروخًا واحدًا. لكن عملا من هذا القبيل هو الجنون بعينه، ويفتقد للمنطق السليم. وبعد انقضاء سنوات، تحديدًا في أكتوبر 2001، بلّغ الروس عن قرارهم بإغلاق مركز الأبحاث الالكترونيّة، وحتى بما يتعلّق في هذا الشأن انفردوا بالقرار وحدهم.
*رغم أزمة أكتوبر لا تزال لديك نظرة ايجابيّة لكينيدي.
- في هذه الأزمة وسّع كينيدي صلاحياته واظهر قوّة إرادة. لو أننا اشتركنا في المباحثات، لقمنا بذلك بشكل بنيوي. فلو سنحت هذه الإمكانية لربما منعنا الكثير من المشاكل التي واجهتها دولنا لاحقاً. أما بالنسبة لكينيدي، فحين آتي لأحكم سياساته، علي أن اخذ بالحسبان الفترة التي عايشناها، ومناهج التفكير التي سادت حينها، والتشويش المتوقّع من دولة ثوريّة راديكاليّة تقطن على بعد 145 كيلومتراً عن الولايات- المتّحدة. فما بالك حين تكون الثورة بقرار مستقل منا، فنحن لم نأخذ من السوفييت في أيام النضال ولا حتّى قرش واحد، ولا حتّى بندقيّة واحدة، فحتّى العام 1959 لم أكن قد تعرّفت على أي سوفييتي.
*يبدو أن أخاك راؤول قد تعرّف على بعض السوفييت.
- راؤول عرف واحدًا، عرف نيقولاي ليونوف. كان حينئذ سوفييتيًّا صغيرًا وقد شارك الاثنان في مؤتمر للشبيبة الشيوعيّة في فيينّا عام 1951. كنت قلت لك أن راؤول انضم لصفوف الشبيبة الشيوعيّة، وكان ذلك بدون أدنى شك يعتبر انجازًا بالنسبة للسوفييت. ولكن هذا أقصى ما كان. فالاشتراكيّة لم تصلنا بالاستنساخ ولا بالإخصاب الصناعي. لقد تطوّرت لدينا في مسار آخر، ويجب اخذ هذا في الاعتبار عند المقارنة ما بين كوبا وبين مسارات أو تجارب بناء الاشتراكيّة في دول أوروبا الشرقيّة، والتي تحاول اليوم بناء نظام رأسماليّ. فإلى جانب التطوّرات التاريخيّة، والى جانب المسار العام الموضوعي، توجد عوامل ذاتيّة تؤثّر على الأحداث بشكل قويّ. في واقع كوبا، لا يوجد أدنى شك أن تضافر العوامل الذاتيّة مع العوامل الموضوعيّة سرّع من مسار الثورة.
كل هذا أدّى إلى المواجهة مع الولايات المتّحدة والى أزمة الصواريخ في العام 1962. ولكن كما ذكرت لك، أبدى كينيدي توجّهًا ايجابيًّا. هو لم يشأ تعقيد الأمور، فقد أمر بوقف الطلعات الجوّيّة المنخفضة وأمر كذلك بوقف حملة مانغوستا. قرارات كينيدي هذه أثارت حفيظة أعداء الثورة الكوبيّة، فهو لم يصدر أوامر للأسطول الأمريكي للتدخل المباشر في خليج الخنازير دعمًا للمرتزقة، ولم يمتطِ أزمة أكتوبر كذريعة لاجتياح كوبا كما أشار عليه العديد من الجنرالات وكثرٌ من أعدائنا. وربما كانوا هم ذاتهم من يقف وراء اغتياله، لكني لا أملك إثبات ذلك.
*حين اغتالوا كينيدي، في 22 تشرين الثاني 1963، اتّهموا لي هارفي اوسوالد بقتله وادّعوا انه من المتحمّسين لكوبا. أتعتقد أنهم أرادوا توريط كوبا بهذا الادّعاء؟
- جيّد انه لم تعط تأشيرة دخول لزيارة كوبا لهذا النموذج. كان بمستطاعهم استغلال ذلك لاتهام كوبا. وفي الواقع، حين بوشر بالتحقيق أعطينا كل ما كان بحوزتنا من معلومات حول القضيّة.
*ما هو تقييمك بالنسبة للصيغة الرسميّة لاغتيال كينيدي؟
- هنالك أمر غريب. من خبرتي التي اكتسبتها في التصويب الدقيق للهدف، لا يمكن استيعاب كيف يتم إطلاق الرصاص سريعًا وبدقّة من بندقيّة ذات منظار تلسكوبي. عندما تطلق النار مستعينًا بمنظار تلسكوبي، يختفي الهدف بفعل الإطلاق. أنت تصوّب على هدف على بعد خمسمائة أو ستمائة متر، ومع الحركة بسبب الإطلاق يختفي الهدف عن العين وتصبح مجبرًا على البحث عن الهدف من جديد. وبعد إطلاق النار عليك شحن الذخيرة من جديد، وبعدها عليك البحث مرّة ثانية عن الهدف ومن ثم إطلاق النار. البحث عن هدف متحرّك بوساطة منظار تلسكوبي أمر صعب جداً، وفوق هذا إطلاق ثلاث رصاصات بدقّة خلال بضع ثوان، أمر يصعب استيعابه.
*أتعتقد بوجود أكثر من مطلق رصاص؟
- لا استطيع أن أفسر لذاتي كيف يمكن لشخص واحد أن يطلق كل هذه الرصاصات. ما استطيع أن أقوله يستند فقط إلى تجربتي باستعمال سلاح ذي منظار تلسكوبي، واستنادًا إلى تجربتي لا استطيع إلا أن أقول أن الرواية الرسميّة حول الاغتيال، ببساطة، غير ممكنة.
*أنت لا تصدّق الصيغة الرسميّة؟
- حقًا. أنا لا اصدّق بالمرّة الصيغة الرسميّة حول كيفيّة إطلاق اوسوالد النار على كينيدي. ولكنّي لا امتلك الإثباتات، وليس بإمكاني إلا التخمين.
مدونا جميييييلة اووووووووى نايس
ردحذفمواضيع مميزا اوى
ردحذف