خطران، خطر بقاء الحكم العسكرى فى مصر، وخطر الحرب فى المنطقة. ويبدو أن الأول من شروط الثانى. أما خطر بقاء الحكم العسكرى فأظهره ما جرى فى الأشهر العشرة الماضية، بداية بفض اعتصام التحرير الأول، وانتهاء بوثيقة على السلمى.
فقد أعاد المجلس الأعلى للقوات المسلحة بناء قدرة الدولة المصرية على استخدام العنف ضد مواطنيها، وأعضاء المجلس، على غير ظن البعض، عالمون بمبادئ علم السياسة الكلاسيكى، الذى يربط الدولة بالعنف، فالدولة هى ذلك الجزء من المجتمع الذى يحتكر استخدام العنف، وهم يرون أن خوف الناس من الدولة هو شرط بقائها، فإن لم يخف الناس اختفت الدولة. تبعا لهذا المنطق فقد شكلت الثورة المصرية خطرا على بقاء الدولة المصرية، لأن الناس لم يعودوا يخافون. ومنذ عشرة أشهر والدولة تحاول أن تخيف الناس، وهى تعلم أنها إذا واجهتهم جميعا انهزمت، فكان لابد لها أن تخيفهم جزءا جزءا، وأن تبدأ بأضعفهم ثم تتدرج حتى تصل إلى أقواهم، وقد بدأ الأمر بفض اعتصام التحرير فى مارس، ثم بمهاجمة الضباط المنشقين فى إبريل، ثم بمهاجمة المتظاهرين عند سفارة إسرئيل فى مايو ثم بمهاجمة أهالى الشهداء فى يونيو، وقد أدت هذه الأخيرة إلى رد فعل جماعى اتفقت فيه قوى المعارضة مؤقتا على المطالبة بحق الشهداء، فتأخرت عمليات القمع حتى تم تفكيك ذلك الإجماع وعادت القوى السياسية إلى اختلافها المعهود، ثم استؤنف القمع بقتل المسيحيين. وقد كان المسيحيون أكبر الجماعات المهمشة وآخر الأقليات، ولم يبق لآلة القمع إلا تضرب مكوِّنى الثورة، المكوِّن العلمانى ثم الإسلامى.
●●●
وجاء القبض على علاء سيف الإسلام عبدالفتاح مؤشرا لذلك. هو رسالة إلى كل من الشباب سواء كان يساريا أو ليبراليا أو ناشطا مستقلا، أو مدونا ممن شاركوا فى هذه الثورة ودعوا لها أنهم لم يعودوا فى مأمن. إن هشاشة الاتهامات الموجهة إلى علاء عبدالفتاح تظهر بما لا يدع مجالا للشك أن اعتقاله سياسى محض، لا علاقة له بقضية ولا بأدلة، إنما هو انتقام من علاء وتخويف لكل من كان مثل علاء. إن علاء يمثل شريحة اجتماعية سياسية كاملة ساهمت فى هذه الثورة، واعتقاله بعد الثورة كاعتقال وائل غنيم فى أيامها الأولى، ليس المقصود منه اعتقال شخص بل تخويف مجتمع كامل. وكان التطور الطبيعى لهذا النمط المستمر من عشرة أشهر أن يأتى دور الإسلاميين بعد العلمانيين، ولم تتأخر السلطة فى تقديم ورقة على السلمى التى تبشرنا بحكم عسكرى لعشرات السنين، بل هى ترقى لمستوى الانقلاب العسكرى الذى تكلم عنه عمر سليمان أيام الثورة. وهى وثيقة موجهة ضد الإسلاميين تحديدا لأنهم هم المتوقع منهم أن يفوزوا بأية انتخابات نزيهة، ونزع السلطة من الجهات المنتخبة لصالح المجلس العسكرى إضعاف لهم قبل غيرهم، كما أنه ضمانة لخصومهم وللولايات المتحدة الأمريكية من وراء خصومهم أن الشعب المصرى لن يستقل أبدا. وهذه هى المرة الأولى فى تاريخ مصر التى نرى فيها ليبراليا وفديا يروج للديكتاتورية العسكرية. هى وثيقة تجعل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، قبل التعديل، ومجلس الدفاع الوطنى، بعد التعديل، مسئولا دون غيره عن قرارات السلم والحرب، وعن ميزانية القوات المسلحة والتسليح، وعن كل قرار يخص الجيش من قريب أو بعيد، يعنى أن الرئيس المنتخب سيكون عاجزا عن إقالة أى عضو من أعضاء المجلس العسكرى، وسيكون عليه وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة أن يستأذن مرءوسيه فى أى قرار يتخذه، وسيكون لهؤلاء المرءوسين الحق فى إدارة العلاقات الخارجية العسكرية، وصفقات السلاح مع الولايات المتحدة الأمريكية، دون العودة إلى رئيس الجمهورية أو إلى مجلس الشعب، بل ودون إعلام البرلمان والرئيس بما يجرى.
●●●
إن هاتين الضربتين، اعتقال علاء عبدالفتاح، ووثيقة السلمى لا يعدوان كونهما مؤشرين لضربتين أشد ربما تأتيان قريبا، إنهما مؤشران، واختباران، علميان لجس النبض، ورسالتا تهديد، لطرفى الثورة العلمانى والإسلامى، وقد تتراجع السلطة إذا وجدت وحدة فى الشارع وكانت المظاهرة يوم الثامن عشر من نوفمبر ضخمة بحيث لا يمكن تجاهلها أو قمعها، ولكن هذا التراجع لا ينفى نية السلطة فى معاودة ضرب الطرفين حتى القضاء عليهما.
لكن لماذا الآن؟ لأن المنطقة ربما تكون على وشك حرب. لقد علمت الولايات المتحدة الأمريكية أن مصر خارجة عن حكم العسكر لا محالة، يعنى أنها خارجة عن سيطرتها، ورغم إفراط بعض النخب السياسية من العلمانيين والإسلاميين فى محاولة طمأنة الولايات المتحدة بشأن نواياهم، إلا أن هذه الأخيرة لن تثق فى أى حاكم يستلم الحكم فى مصر عن طريق انتخابات حرة ونزيهة، لأنها ببساطة لا تثق فى الشعب المصرى، وتعلم أن مصالح الشعب المصرى لا يمكن أن تتفق مع مصالحها ومصالح إسرائيل فى المنطقة. لذلك فإن الولايات المتحدة ربما تريد إنجاز ضربة لإيران، وتفكيكا لسوريا يخنق المقاومة فى لبنان وفلسطين قبل إقامة حكم ديمقراطى فى مصر. وقد يقول قائل إن الولايات المتحدة ليست فى وارد الحرب مع ما تعانيه من أزمة اقتصادية، لأن الأزمات الاقتصادية تقيد الدول عن خوض الحروب، وهذا صحيح، لكن الاحتجاجات الاجتماعية الناتجة عن الأزمات الاقتصادية ربما دفعت الحكومات للحرب لكى توحد الناس وراءها وتشغلهم عن المطالبة بحقوقهم، وهذا يصح فى أمريكا كما يصح فى إسرائيل.
ثم إن الولايات المتحدة كانت تعول على تعويض خسرانها لمصر بحرب أهلية فى سوريا دون أن تضطر هى للتدخل، وقد تطورت الأمور فى هذا الاتجاه حتى وصلنا إلى تسلح المعارضة. لكن تسلح المعارضة هذا أضر بها أكثر مما نفعها، فقد زاد من حيرة المتحيرين فى سوريا وخارجها، فهم وإن كانوا غاضبين لقتل إخوتهم والقمع الرهيب الذى يتعرضون له، فإنهم سيترددون فى الاندفاع نحو القتل على الهوية والحرب الأهلية، فإذا أضفت لذلك زيارة بعض رموز المعارضة المتكررة لوزيرة الخارجية الأمريكية ووزير الخارجية الفرنسى، والدعوات المتكررة للتدخل الدولى العسكرى على غرار ليبيا بما فى ذلك فرض الحظر الجوى على البلاد، فإنك تتفهم ارتباك الناس فى حلب ودمشق. لذلك فقد تبين أنه حتى الحرب الأهلية ربما لا تنتهى على النحو الذى تشتهيه الولايات المتحدة. هذا الارتباك ربما أدى إلى قناعة أمريكية أن ضرب الحلف المناهض لها من الشام لن ينجح، فتحاول ضربه مباشرة فى طهران. وضربة طهران هذه تقتضى بقاء العسكر فى مصر.
●●●
أقول، إذا توحدت المعارضة فى مصر علمانيين وإسلاميين فإنهم سيفرضون الديمقراطية فرضا وستنتهى الفترة الانتقالية سريعا بحكم مدنى ديمقراطى، وهذا وحده كفيل بمنع الحرب فى المنطقة، لأن أمريكا لن تحارب ومصر ديمقراطية، لأنها تعلم أن الشعب المصرى سيدفِّعها الثمن. أما إذا لم تتوحد المعارضة فى مصر، وركض كل طرف منها يعطى الضمانات للولايات المتحدة، فإنها لن تقبل من أى منهم، وسيبقى العسكر فى الحكم، بما يسمح بمغامرات أمريكية وإسرائيلية فى المنطقة دون أن يحسب لمصر فيها حساب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى