في تاريخ كل أمة رجال عظماء قادوا النضال والكفاح في سبيل تحرير أوطانهم والوصول بها إلى بر الأمان... واستطاعوا بما لديهم من قدرات خاصة وموهبة في القيادة وشجاعة وإقدام أن يحققوا أهداف وطموحات شعوبهم، وأيضا نجوم ومشاهير قدموا الكثير وحفروا أسماءهم في ذاكرة الناس وصفحات التاريخ كل في مجاله، فنالوا كل تكريم واحترام وحفظهم التاريخ في ذاكرته.
وفي حياة كل عظيم «رجل ثان» كان معه يشد من أذره ويسانده ويدعمه ويقف بجواره في أصعب المواقف وأحرج اللحظات وكان له بمثابة الذراع اليمنى... ومن هؤلاء من اكتفى بهذا الدور وارتضى أن يظل دائما في الظل وربما ينساه التاريخ، ومنهم من أراد أن يحقق ذاته هو الآخر وأن يقفز إلى مكانة الرجل الأول ووصل بعضهم بالفعل إلى هذه المكانة، ولكنهم احتفظوا بولائهم واحترامهم لزعمائهم، وساروا على دربهم وأكملوا مسيرتهم... ومنهم من ضعف إيمانه وانساق وراء شيطانه وانقلب على زعيمه فقتله أو عزله واحتل مكانه ليحقق ذاته أو عن اقتناع منه بأنه هو السبب في كل ما تحقق من إنجازات، ومن ثم يرى نفسه الأحق باحتلال الصدارة.
«الراي» في سلسلة حلقات «الرجل الثاني في حياة العظماء والمشاهير... رجل ثان» تلقي الضوء على حياة هؤلاء الرجال وكيف كانوا سببا في ما وصل إليه بعض العظماء من مجد وشهرة بفضل مساندتهم المخلصة لهم. وكيف تحول بعضهم إلى عظماء هم أيضا وصنعوا لأنفسهم تاريخا لا يقل عن تاريخ العظماء الذين اتبعوهم في بداية حياتهم .
كما ترصد في دقة تفاصيل العلاقة التي تجمع بين الاثنين من البداية وحتى النهاية، وتستعرض مسيرة الرجل الثاني منذ ولادته، وكيف تعرف على الرجل الأول أو زعيمه، والاسباب التي دفعته للانضمام إليه ومرافقته كفاحه الطويل ، وبعض المواقف التي برز دوره فيها بوضوح.
وخلال «15» حلقة نتناول عددا من الشخصيات المؤثرة في التاريخ سواء في أوطانهم أو على المستوى العالمي... منهم الساسة والقادة العسكريون ورجال الفكر والأدب.
كذلك تعرض الحلقات لبعض قصص النجاح في الوسط الفني التي كان الرجل الثاني فيها سببا مباشرا في سطوع نجم الفنان وبلوغه قمة المجد والشهرة.
رغم أن عمره كان قصيرا، فإنه حقق شهرة عالمية غير مسبوقة ولايزال حتى الآن رمزا من رموز النضال في العالم أجمع... عرف عنه الإخلاص والتفاني من أجل نصرة رفاقه، فكان خير داعم ومساند للعديد من الثورات... إنه «تشي جيفارا» الذي لعب الدور الأبرز في مساندة ومؤازرة رفيقه الثائر الكوبي «فيدل كاسترو»... وظل خلفه إلى أن انتصرا معا على الظلم والطغيان، وعندما وصل الأخير إلى الحكم لم يتركه رفيقه جيفارا، بل ظل بجواره أيضا يضع معه خطط النهوض بالبلاد ويروج لأفكار الثورة في العالم، وهو ما نجح فيه بفضل «الكاريزما» المميزة له، وبذلك كان «تشي» بمثابة الرجل الثاني في حياة ونضال الزعيم الكوبي كاسترو، وإليه يرجع الفضل في نجاح ثورته.
النشأة
ولد أرنستو جيفارا دي لا سيرا في الأرجنتين في 14 مايو من العام 1928 - وبحسب موقع ويكيبيديا الإلكتروني - كان والده مهندسا معماريا، أما أمه فكانت بريطانية الأصل وتدعى «سيرينا لاسيليا دي»، وعندما بلغ الثانية من عمره أصيبت رئتاه بالربو، وكانت والدته في حرصها على حياته، تلف جسده بالقطن خوفا من الشمس والرطوبة والهواء، وكانت تسهر معه الليالي، فتعلق الصغير بها في شدة، وعندما اعتقلت الشرطة الأرجنتينية والدته وهو في الرابعة عشرة من عمره، كانت صدمة قاسية أن يرى أمه التي أمضت السنوات وهي تلازمه لحظة بلحظة خوفا على صحته، وتسهر الليالي قربه سجينة القضبان وتعذب على أيدي بعض القساة من دون أن يستطيع أن يفعل شيئا، ومن هنا أدرك معنى الظلم وشعر كم هو قاس أن يكون مظلوما.
ومن هنا بدأت الميول الثورية تتفتح لدى الفتى. وبعد إطلاق الأم استكملت تعليم ابنها الأساسي في المنزل، فعلمته الفرنسية إلى جانب الإسبانية، وحرص على القراءة منذ الصغر مستغلا مكتبة والده الضخمة، وأجمعت آراء من اقتربوا منه على أنه كان يحمل داخله تناقضا عجيبا بين الجرأة والخجل، وكان دافئ الصوت، كما كان جذابا وفوضوي المظهر في الوقت ذاته.
اضطرت العائلة إلى ترك العاصمة الأرجنتينية والانتقال إلى مكان أكثر جفافا؛ لأجل صحة الفتي العليل، وفي أثناء ذلك كان اللقاء الأول بين أرنستو والفقر المدقع والوضع الاجتماعي المتدني في أميركا اللاتينية.
في مارس 1947 عادت الأسرة إلى العاصمة ليلتحق الفتى بكلية الطب، وعند نهاية المرحلة الأولى لدراسته حين كان في الحادية والعشرين من عمره، قام بجولة طويلة استمرت نحو «8» أشهر على الدراجة البخارية نحو شمال القارة مع صديقه «البيرتو جرنادو»، وكان خط الرحلة من أميركا اللاتينية إلى بلدان عدة منها: بوليفيا، وبيرو، والإكوادور، وبنما، وكوستاريكا، وجواتيمالا، وعايش معاناة الفلاحين والطبقة الكادحة من العمال، وفهم طبيعة الاستغلال الذي يعانون منه، بعدها أدرك أن مهنته الحقيقية ليست الطب... ويعود جيفارا إلى المنزل، ويقول لوالده إنه لن يمارس الطب، ولن يفتح عيادة، ولن يستقبل الزبائن، ولن يتزوج ويستقر في بيت هادئ، ولن ينجب الأطفال، بل سيرحل... ونام أرنستو تلك الليلة وفي الصباح غادر المنزل.
لقاء كاسترو
سافر جيفارا في العام 1953 إلى كولومبيا ليتعرف على الثورة التي كانت مشتعلة فيها، ثم هاجر إلى المكسيك التي كانت ملجأ للثوار من أميركا اللاتينية، وفي العام 1955 قابل «هيلدا» المناضلة اليسارية من «بيرو» في منفاها في جواتيمالا، فتزوجها وأنجب منها طفلته الأولى، هي التي اعتنت به وقدّمته لـ «نيكو لوبيزا» أحد ملازمي الثائر الكوبي «فيديل كاسترو»، وسمع منه عن أهداف الثورة الكوبية والنضال الذي يقوده كاسترو من أجل الحصول على الحقوق المسلوبة وتوفير الحياة الكريمة للشعب... أعجب جيفارا بهذا التفكير الذي تطابق إلى حد بعيد مع تفكيره، واشتاق للقاء كاسترو وهو ما حدث بالفعل في العام 1955، وكان لقاء مميزا واستمر لأكثر من «8» ساعات كاملة، تعرف كل منهما على تفكير الآخر الثوري وشرح كاسترو لجيفارا الأسباب التي دفعته للقيام بعدة ثورات ضد النظام الحاكم في بلاده، موضحا أنه حضر إلى المكسيك كي يعد رجاله للعمل الحاسم.
نجاح الثورة
كان كاسترو وجيفارا من بين الناجين من المعركة، وعندما اقتربا من الفلاحين الفقراء بدأ كل منهما يبث أفكاره فيهم ويبصرهم بحقوقهم ومدى الظلم الواقع عليهم، وفي هذه الفترة برز دور جيفارا الداعم والمساند لرفيقه كاسترو، فلم يتركه يوما ولم يتخل عنه أبدا... واستطاع الاثنان إقناع الفلاحين بمبادئ وأهداف ثورتهم، وكانت كلمات جيفارا قوية شديدة التأثير في نفوس الكثيرين، وكانت تضرب على حماسهم وشعورهم بالظلم الكبير الذي يتعرضون له، ويذكر له كلمة « الثورة حمراء كالجمر، قوية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن»، فانضم إليهما المئات وتم تدريبهم على استخدام السلاح، وبدأت الثورة تحقق النصر تلو الآخر إلى أن دخل جيفارا العاصمة هافانا في اليوم لأول من العام 1959، قبل أن يدخلها كاسترو، وهرب باتيستا ونجحت الثورة الكوبية، وفي حفل شعبي ضخم تم تنصيب فيدل كاسترو رئيسا للبلا، وبالطبع لم ينس رفيقه ومؤيده الأول والرجل الثاني في حياته ونضاله تشي جيفارا، فكرمه أفضل تكريم ومنحه الجنسية الكوبية وأعطاه رتبة «ميجور»، ثم عينه سفيرا متجولا وممثلا شخصيا لكاسترو بهدف الترويج للثورة الكوبية وجذب التأييد العالمي لها، وفي هذه الفترة زار العديد من البلدان غير المنحازة والتقى قيادتها مثل عبدالناصر في مصر، ونهرو في الهند، وتيتو في يوغوسلافيا، وسوكارنو في إندونيسيا، كما زار إيطاليا، واليابان، وباكستان وغيرها، ثم عين جيفارا رئيسا للمعهد الوطني للأبحاث الزراعية ثم وزيرا للصناعة ورئيسا للمصرف المركزي العام 1961، وعقد هو وكاسترو تحالفا مع الاتحاد السوفيتي. ومن خلال مناصبه تلك قام الـ «تشي» بالتصدي بكل قوة لتدخلات أميركا؛ فقرر تأميم جميع مصالح الدولة بالاتفاق مع كاسترو ما أغضب الولايات المتحدة فشددت الحصار المفروض على كوبا، وهو ما جعلها تتجه تدريجيا نحو الاتحاد السوفيتي وقتها.
وذهب «تشي» لأفريقيا مساندا للثورات التحررية، قائدا لـ 125 كوبيا، ولكن فشلت التجربة الأفريقية لأسباب عديدة، منها عدم تعاون رؤوس الثورة الأفارقة، واختلاف المناخ واللغة، وانتهى الأمر بالـ «تشي» في أحد المستشفيات في براغ للنقاهة، وزاره كاسترو بنفسه ليرجوه العودة. وبعد إقامة قصيرة في كوبا اتجه جيفارا إلى بوليفيا التي وجد فيها نقطة انطلاق لحرب ثورية مناهضة للتوسع الأميركي.
نهاية بطل
وصل جيفارا إلى بوليفيا ونجح في البداية نجاحا رائعا بطرق مشابهة لما اتبعه في كوبا، ومعه ثلة من رفاق كفاحه القدماء، ولكن أميركا تعلمت الدرس هذه المرة، فأرسلت المستشارين العسكريين ودعمت ودربت الجيش التابع للرئيس العميل بارينتوس، وذلك عن طريق فريق الـ «سي آي إيه» المعروف بالجرين بيريز، وأصبحت المسألة مسألة وقت لا أكثر للتخلص من هذه الشوكة في خاصرتهم.
وفي يوم 8 أكتوبر 1967 وفي أحد وديان بوليفيا الضيقة، هاجمت قوات الجيش البوليفي المكونة من 1500 فرد مجموعة جيفارا المكونة من 16 فرداً، وقد ظل جيفارا ورفاقه يقاتلون 6 ساعات كاملة وهو شيء نادر الحدوث في حرب العصابات في منطقة صخرية وعرة تجعل حتى الاتصال بينهم شبه مستحيل وقد استمر «تشي» في القتال حتى بعد موت جميع أفراد المجموعة رغم إصابته بجروح في ساقه إلى أن دُمّرت بندقيته «م-2» وضاع مخزن مسدسه، وهو ما يفسر وقوعه في الأسر حيا، نُقل «تشي» إلى قرية «لاهيجيرا»، وبقي حيا لمدة 24 ساعة، ورفض أن يتبادل كلمة واحدة مع من أسروه، وفي مدرسة القرية نفذ ضابط الصف «ماريو تيران» تعليمات ضابطيه: «ميجيل أيوروا» و«أندريس سيلنيش» بإطلاق النار على «تشي».
دخل ماريو عليه مترددا فقال له «تشي»: «أطلق النار، لا تخف؛ إنك ببساطة ستقتل مجرد رجل»، لكنه تراجع، ثم عاد مرة أخرى بعد أن كرر الضابطان الأوامر له فأخذ يطلق الرصاص من أعلى إلى أسفل تحت الخصر، حيث كانت الأوامر واضحة بعدم توجيه النيران إلى القلب أو الرأس حتى تطول فترة احتضاره، إلى أن قام رقيب ثمل بإطلاق رصاصه من مسدسه في الجانب الأيسر فأنهى حياته.
وقد رفضت السلطات البوليفية تسليم جثته لأخيه أو حتى تعريف أحد بمكانه أو بمقبرته حتى لا تكون مزاراً للثوار من جميع أنحاء العالم.
ثم اندلعت أزمة بعد عملية اغتياله وسميت بأزمة «كلمات جيفارا» أي مذكراته. وقد تم نشر هذه المذكرات بعد اغتياله بـ 5 أعوام وصار جيفارا رمزا من رموز الثوار على الظلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى