أصارح القارئ بأنى لم أعلق أى أهمية قط، فى أثناء تولى حسنى مبارك رئاسة الجمهورية، على دوره فى حكم مصر. وكنت استغرب جدا الإشارات الكثيرة فى الصحف والمجلات، والتعليقات المحلية والأجنبية، إلى أنه فعل كذا أو رفض أن يفعل كذا، أو أنه رأى رأيا معينا فقام وزراؤه ومساعدوه بتنفيذه، أو كان كارها لسياسة معنية فأحجم عنها هؤلاء الوزراء والمساعدون. نعم، ربما كان له دور فى مسائل صغيرة جدا، كأن يعين سفيرا مصريا فى دولة بدلا من أخرى (على أن تكون هاتان الدولتان على قدر بسيط من الأهمية) أو أن يعين صديقا لابنه أو قريبا لزوجته فى وظيفة له رغبة فيها، ولكنى كنت واثقا من أنه ليس له أى أثر فى الأمور المهمة التى تشكل سياسة مصر الخارجية أو الداخلية، أو حتى فى أمور أقل من هذه بكثير.
ذلك أنى كونت عن الرجل فكرة معنية منذ أن ظهر على مسرح السياسة المصرية كنائب لرئيس الجمهورية، فكرة مستمدة من القصص والأخبار الكثيرة التى رويت عنه بعد توليه المنصب، وعن تاريخه قبل توليه ذلك المنصب، (وكلها قصص وأخبار منسق بعضها مع بعضها الآخر) وتتعلق بمدى ذكائه، وحدود اهتماماته وهواياته، وما الذى يلفت نظره وما لا يلتفت إليه، وتعليقاته المدهشة إذا زار مصنعا أو قابل شخصية دولية مهمة.. إلخ، وكلها ترسم صورة متكاملة تؤدى إلى النتيجة التى توصلت إليها عن قدراته المحدودة جدا. بل وقد توصلت أيضا، بنفس الطريقة، إلى تصور معين عن مدى إدراكه هو لحجمه الحقيقى ولحدود قدراته وهكذا اكتملت صورة لا تدعو إلى الإعجاب الشديد! قدرات محدودة، وإدراك محدود لحقيقة هذه القدرات.
كذلك فيما يتعلق بابنه الأصغر جمال. هناك بالطبع فارق السن والنشأة والتعليم الذى تلقاه كل منهما، واختلاف ظروف العصر الذى ترعرع فيه هذا وذاك، ولكن استقر لدىّ أن قدرات الابن لابد أن تكون محدودة بدورها، وأن كل ما ينسب إليه من تصريحات أو تعليقات أو أفكار إنما نسبت إليه دون أن تكون فى الحقيقة صادرة عنه، إذ هناك من لهم مصلحة أكيدة فى رسم صورة غير حقيقية له، وأنه قد تم تلقينه وتدريبه على القيام بأعمال معينة أو إصدار تصريحات بعينها، بل وأن القيام بهذا التلقين والتدريب لم يكن مهمة سهلة بالمرة.
كان هناك بعض الشخصيات التى كثيرا ما يشار إليها على أنهم هم أصحاب السلطة الحقيقية فى تعريف الأمور، ويمثلون مناصب فى أمانة الحزب الحاكم، أو فى رئاسة الجمهورية، وبعضهم قد لا تكون اسماؤهم متداولة بين الناس، بل وقد لا تذكر أسماؤهم على الإطلاق فى الصحف ولم يكن لدىّ شك فى أن هذه المجموعة من الأشخاص لهم فعلا تأثير أهم بكثير مما للرئيس أو ابنه، ومع ذلك فقد كنت أميل إلى اعتبار هؤلاء أقرب إلى المنفذين منهم: صانعو سياسة، ومازلت أعتقد أنى كنت على صواب. فمن كان إذن أصحاب القرار الحقيقيون وصانعو السياسة؟
كان هناك بالطبع رجال الأعمال، الذين يهمهم أن تسير السياسة المصرية (ليست فقط السياسة الداخية بل وأيضا الإقليمية والخارجية) فى اتجاه معين يخدم مصالحهم الاقتصادية. وكان بعض هؤلاء معروفا ويحتلون بعض المناصب السياسية، وبعضهم قليلو الظهور، رغم أهميتهم، هؤلاء كانوا فى نظرى (ونظر كثيرين غيرى) أقرب كثيرا إلى أن يكونوا الحكام الحقيقيين لمصر، ولكنى كنت أعلق أهمية أكبر على وجوه مجهولة لنا تماما، وإن كانت تحتل مراكز مهمة فى أجهزة الأمن المختلفة (والمتعددة الأسماء). إذ كان هؤلاء هم القادرون على التصرف فى مواجهة أى أزمة أو مشكلة طارئة تحتاج إلى تدخل أو علاج سريع، وأى إخلال مهم بالأمن، أو تهديد للنظام بأكمله. لابد أن يكون لهؤلاء نفوذ كبير على كل من سبق ذكرهم، من الرئيس وأسرته، إلى أصحاب المال الوفير والشركات الكبيرة، بسبب قدرتهم الحاسمة على حماية النظام والأمن (بما فى ذلك أمن هؤلاء الأشخاص الكبار أنفسهم).
إذا كان الأمر كذلك، وما دامت بعض القوى الخارجية ذات المصلحة الأكيدة فى المحافظة على بقاء النظام، وعلى بقاء السياسة المصرية، الخارجية والداخلية كما هى، لابد أن تعمل على تأمين منافذ لها فى داخل دوائر صنع القرارات المهمة، فإن هذه القوى الخارجية لابد أن يكون لها ممثلون فى داخل أجهزة الأمن المختلفة هذه، مصريون بالطبع ولكنهم على اتصال مستمر بالقوى الخارجية، ولديهم القدرة الكاملة على الفهم السريع والتنفيذ الكامل لمصالح هذه القوى الخارجية.
●●●
هكذا كان تصورى للوضع قبل ثورة 25 يناير. وأصارح القارئ أيضا بأنه، بعد مرور عدة شهور على قيام هذه الثورة، وبعد ما رأينا من تطور الأحداث، وما يسمى أحيانا بالتلكؤ أو التباطؤ، أو بالتصرفات غير المفهومة، أو بقلة الكفاءة أو قلة الخبرة.. إلخ، أصبحت أميل إلى الاعتقاد بأن تصورى للحال قبل ثورة 25 يناير، يصلح تماما لوصف ما يحدث بعدها، إذ إنه يبدو لى أقدر من أى تصور آخر على تفسير الألغاز التى نقابلها يوما بعد يوم فى تطور الحياة السياسية واليومية فى مصر. يبدو لى إذن أن أصحاب القرارات المهمة والمصيرية مازالوا هم هم. لقد حدثت بالطبع تغيرات كثيرة فى الظوف بسبب قيام الثورة، ولابد أن يأخذ هؤلاء فى اعتبارهم تقلبات الشارع المصرى، والتغييرات التى تطرأ على مزاج الطوائف المختلفة من الشعب، ولكنهم مازالوا فى رأيى محكومين بنفس الاعتبارات الأخرى المهمة، الخارجية والداخلية.
الاعتبارات الخارجية التى تتعلق بمصالح بعض الدول التى يهمها بشدة ما يحدث فى مصر (وعلى الأخص الولايات المتحدة وإسرائيل) والاعتبارات الداخلية التى تضمن أولا نفس هذه المصالح الخارجية، وتضمن ثانيا مصالح كبار رجال الأعمال فى مصر.
إن فضل هذا التشخيص على غيره أنه يستطيع أكثر من غيره تفسير الكثير من ألغاز الثورة فمثلا: لماذا استمرار التظاهر بأن الرئيس السابق وأسرته على وشك أن يخضعوا لمحاكمة عادلة وأن يتلقوا العقاب العادل على ما صنعوه، ولكن الأيام والأسابيع والشهور تمر دون أن تتقدم إلا بسرعة السلحفاة نحو توقيع هذا العقاب؟ ولماذا التظاهر بأن الأموال المهربة إلى الخارج سوف تعاد إلى مصر ثم يُنسى الأمر تماما، أو تتخذ بعض الإجراءات بعد فوات الأوان؟ ولماذا هذا التراخى فى منع رجال النظام القدامى (أو من يسمون بالفلول) فى المشاركة فى الانتخابات الجديدة؟ ولماذا هذا الباطؤ فى إعادة الأمن إلى الشارع المصرى، رغم أهميته القصوى لعودة النشاط الاقتصادى (بما فى ذلك السياحة) إلى طبيعته، فضلا عن أهميته لعودة الطمأنينة لقلوب الناس؟ لماذا عاد فرض نوع من الرقابة على الصحف والتليفزيون، فيمنع هذا الكاتب، ويستبعد هذا المذيع؟.. إلخ الأمثلة كثيرة مما أصبح يتردد باستمرار على ألسنة الجميع، وكلها تدل على أن سقوط حسنى مبارك من كرسى الرئاسة لا يعنى بالمرة سقوط نظامه.. والسبب الذى حاولت شرحه، هو أن الرجل نفسه لم يكن مهما بالمرة، ولا حتى بقية المقبوض عليهم ومن قدم منهم للحاكمة. المهمون الحقيقيون مازالوا فى أماكنهم، لم يتعرض لهم أحد، ومن ثم فهم مازالوا يمارسون نفس سلطاتهم القديمة، وتحقيقا لنفس الأغراض القديمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى