سيادة اللواء وفضيلة الشيخ يشتركان في أمور كثيرة . . .
الاثنان جاوزا السبعين ويتمتعان بصحة جيدة .
الاثنان ينامان ويستيقظان مبكرا كما أن الاثنين يسكنان في الحي ذاته : التجمع الخامس .
بل ان القصر الفخم الذى يقيم فيه فضيلة الشيخ لا يبعد عن قصر سيادة اللواء الا بضع دقائق بالسيارة .
كل هذه الاعتبارات تسهل لقاءهما عند الضرورة .
مع التطورات التى حدثت الأسبوع الماضى اتصل فضيلة الشيخ بسيادة اللواء وطلب لقاءه فوافق على الفور واتفقا على أن يتناولا الافطار معا .
في اليوم التالي الساعة الثامنة صباحا ..
توقفت أمام قصر سيادة اللواء السيارة المرسيدس السوداء الفارهة التى تقل فضيلة الشيخ وسرعان ما قفز منها اثنان من الحراس الشخصيين .
فتح أحدهما الباب لينزل الشيخ بينما راح الحارس الآخر يجول بنظره محدقا كالصقر في أرجاء المكان وقد استعد بيده على زناد البندقية الآلية التى يحملها . ..
كان اللواء ينتظر الشيخ على المائدة في قاعة كبيرة متفرعة من بهو القصر . .
رحب اللواء بالشيخ الذى احتضنه بود ثم جلس بجواره ..على المائدة كان الافطار يجمع بين فنون المطبخ الفرنسي وتقاليد الريف المصري العريقة .
راح السفرجي النوبي يقدم الأطباق بلهجة مهذبة وحروف واضحة :
كان هناك كرواسون وباتيه بالجبن واللحم والسبانخ و كان هناك أيضا فطير مشلتت ساخن وفول مدمس وبيض وانواع عديدة من الجبن ثم أطباق صغيرة ممتلئة بالعسل الأبيض بالقشدة . .
كان ذلك افطار عمل كما يقول الدبلوماسيون . .
راح اللواء والشيخ يأكلان ويتحدثان .. بدأ اللواء قائلا : ــ ألف مبروك نجاحك في الانتخابات يا فضيلة الشيخ .
ــ الحمدلله . ربنا نصرني وما النصر الا من عند الله
ـــ ونعم بالله .. بصراحة . بقدر فرحتى بفوزك الساحق الا أن لى عتابا عليك
ـــ خير ياسيادة اللواء ..؟
ــ يا أخي .. لما يكون عندك ملاحظة على قرار أنا اتخذته لماذا لا تتصل بي مباشرة بدلا من أن توجه لى نقدا في الاعلام ..
ــ حاضر يا فندم
هكذا قال الشيخ ثم قضم البيضة المسلوقة التى في يده . على أن اللواء انفعل فجأة قائلا : ـــ على فكرة دي مش أول مرة .. كل مرة تقول لي كلام وتعمل العكس . ..
قطب الشيخ حاجبيه وكأنما انزعج من لهجة اللواء وقال بنبرة جافة:
ــ سيادة اللواء . الموضوع لا يستأهل كل ذلك
ــ لأ يستأهل . أنت تريد أن تعمل بطلا على حسابي
ــ أنا لم اخطيء . لقد عبرت عن رأيي في الاعلام .ورغم ذلك لن أكرر ذلك اكراما لك
ــ أنا لا أحتاج الى كرمك .
ــ يا فندم . أنت تعلم احترامي لك لكن لا تنس اننى أمثل الشعب
ــ لقد أردت لك أن تفوز ففزت في الانتخابات ولو أردت لك أن تخسر لكنت خسرت .
هنا وضع الشيخ اللقمة في فمه وبعد أن مضغها وبلعها قال لسيادة اللواء : ــ اسمح لي أنت لست سبب نجاحي . لقد نجحت بتوفيق ربنا ومجهودي .
ــ أنت باين عليك صدقت نفسك
ــ سيادة اللواء . أرجو أن تتمالك أعصابك . أنا أحترم سيادتك وأتوقع أن تحترمنى كان اللواء قد بدا عليه التحفز وهمس بشيء ما للسفرجي الذى غاب لحظة ثم عاد بحقيبة صغيرة مغلقة وضعها بجوار مقعد الشيخ .
مرت لحظة من الصمت ثم قال اللواء : ـــــ أرجو أن تأخذ هذه الحقيبة معك الى البيت .افتحها وافحص محتوياتها جيدا .
ـــــ ماذا في الحقيبة ..؟!
ــ كل المخالفات التى ارتكبتها موثقة بالصوت والصورة . .. سوف تجد بيانا بالأموال التى قبضتها .
ــ عن أية أموال تتحدث ..؟!
ــ أنت تفهمنى جيدا .الأموال التى انهمرت عليك من الخارج . في هذه الحقيبة سوف تجد صورا من الشيكات التى قبضتها بأرقامها وتواريخ صرفها ..
ـ ياسيادة اللواء من فضلك
...سوف تجد وقائع شراء الأصوات التى قمت بها ..سوف تجد فيديوهات تثبت كيف استغللت جهل الناس وفقرهم من أجل ارغامهم على التصويت في صالحك .
ــ يافندم . لا داعي لهذا الكلام .
ــ كل هذه الأدلة سوف أتقدم بها في بلاغات ضدك وسوف نترك الأمر كله للقضاء . ..
ــ يا فندم أرجوك . .
ــ ــ هل يضيرك تنفيذ القانون يافضيلة الشيخ ..؟
ــ بل يضيرني غضب سيادتك .. أرجوك يافندم لا تغضب .
تنهد اللواء وعاد بظهره الى الخلف ورشف من فنجان الشاى وقال : ــ يبقى كل ما أقوله يجب أن تسمعه
ـــ اياك أن تتصور في أية لحظة أنك أصبحت قويا وأننى لن أقدر عليك
ـــ يا فندم أنا ديني يأمرني بطاعتك . .
ـــ يبقى لما يكون عندك ملاحظات تقول لي قبل ما تتكلم في الاعلام . مفهوم ..؟
ــ مفهوم يافندم .
اندفع الشيخ يقول كأنما يريد أن يستعيد الصفاء بينهما :
ــ يحزننى أن تشك سيادتك حتى الآن في اخلاصي ..
ـــ أفعالك هي الفيصل
هكذا قال اللواء بهدوء فاندفع الشيخ يقول : ــ يافندم ... لقد كنت أطالب من البداية بدستور جديد للبلاد .
كان هذا موقفى المعلن لكنى عندما علمت أن رغبة سيادتكم اجراء تعديلات على الدستور القديم غيرت موقفي تماما وساندت التعديلات بكل قوة ..
أظن سيادتك تذكر ذلك
هز اللواء رأسه واستطرد الشيخ قائلا : ــ لم أتخذ موقفا واحدا ضد سيادتك . من أجلك أنت خسرت أصدقاء كثيرين . حتى أثناء الاحداث الدامية المؤسفة لم أفتح فمى بكلمة ضد سيادتك
ساد الصمت من جديد وقال الشيخ بالحاح : ــ خلاص يافندم . سيادتك راض عني ..؟!
قال اللواء : ــ بشرط أن تسمع الكلام . .
ــ تحت أمرك انتقل الشيخ واللواء الى الحديث عن تفاصيل ما سوف يفعلانه معا في المستقبل .
كانا قد انتهيا من الطعام واقترح اللواء أن يشربا القهوة في المكتب .
سارا عبر الردهة الطويلة حتى دخلا من الباب الى قاعة المكتب الفخمة الفسيحة .
جلس اللواء خلف المكتب المصنوع من خشب الأرو بينما جلس الشيخ في المقعد الوثير المواجه له .
كان اللواء قد أعد ورقة صغيرة بالموضوعات التى يريد أن يناقشها مع الشيخ ..
على مدى ساعة تحدث اللواء والشيخ واتفقا تماما في وجهات النظر . .
انتهى اللقاء بطريقة ودية واصطحب اللواء الشيخ وظل واقفا يلوح له بيده حتى ابتعدت السيارة .
=====================================
كان اللواء يحس برضا كامل عن اتفاقه مع الشيخ وكانت لديه تقارير كثيرة يجب أن يطالعها فعاد الى مكتبه وهرع اليه الفراش بفنجان القهوة المضبوط . .
قرأ الأوراق وأجرى عدة اتصالات تليفونية مهمة وبعد نحو ساعة من العمل ، عاد اللواء بظهره في المقعد ووضع يديه خلف رأسه .
كان يريد أن يستريح قليلا لكنه لما أغمض عينيه وفتحهما وجد شيئا غريبا على الجدار المواجه للمكتب .
لمح تهويمات أو خيالات تتحرك على الجدار أمامه .
أحس اللواء بانزعاج وحدق من جديد فرأى على الجدار أربعة أو خمسة وجوه لشبان في العشرينيات من العمر .
الغريب أن وجوه الشبان كانت هيئتها واحدة .
كانوا يتطلعون اليه بعين واحدة أما العين الأخرى فكانت فارغة مثقوبة تعكس فراغا أسود .
أحس سيادة اللواء برهبة وتأكد له أنه يعاني من هلوسة ما نتيجة للارهاق .
فكر أن هذه التهيؤات سوف تتلاشى بالتأكيد اذا نال قسطا من الراحة .
أغمض عينيه لحظات ثم فتحهما من جديد لكن الوجوه لم تختف من فوق الجدار بل انها ازدادت.
الوجوه ذات العيون المفقودة انضمت اليها وجوه أخرى كلها مصابة بطلقات رصاص في أعلى الرأس أو في الرقبة . .
كانت الوجوه كلها تحمل تعبيرا واحدا غامضا نهائيا .
صارما ومخيفا . . .
غرق اللواء في الحيرة وانحنى الى الأمام وقد وضع رأسه بين يديه .
بعد حوالي دقيقتين . رفع رأسه وهو يتفادى النظر الى الجدار ثم أضاء نور الحجرة على آخره .
كانت هذه محاولته الأخيرة .
كان أمله أن يبدد النور الساطع الخيالات التى تطارده .
راح قلبه يدق بقوة ثم فتح عينيه ونظر في الضوء , كان الجدار قد صار مزدحما عن آخره بالوجوه .
بالاضافة الى الوجوه ذات العيون المثقوبة والوجوه التى تحمل طلقات الرصاص ظهرت وجوه أخرى كثيرة ،
وجوه مربدة متشنجة كأنها مختنقة بغازات سامة ووجوه ملامحها مشوهة تماما كأنما قد تم دهسها تحت عجلات سيارة .
هذه المرة أحس اللواء بأن الوجوه كلها تتزاحم عليه .
تقترب منه وهي تحمل كلها فكرة واحدة .
كأن لها جميعا ارادة معينة تصر على تنفيذها .
=====================================
مد اللواء يده ورن الجرس بعنف عدة مرات فهرع اليه سكرتيره الخاص .
حاول اللواء أن يبدو متماسكا . تبادل معه حديثا عابرا وعندما نظر السكرتير نحو الجدار فهم اللواء حالا أن الوجوه الرهيبة التى تطالعه لا يستطيع السكرتير أن يراها.
عندئذ صرف اللواء السكرتير وأسرع بالخروج من المكتب وهو يقنع نفسه بالتفسير الوحيد الذى يستطيع تقبله . ..
استقر في يقينه أنه مرهق وأن هذه الأشكال التى لاحت على جدار مكتبه ليست الا ظلالا صورها له ذهنه المتعب ..
بذل اللواء مجهودا مضنيا حتى سيطر على نفسه و عاش يوما عاديا
بل انه تعمد أن يأخذ زوجته وابنته الكبرى الى النادي بعد الظهر حيت تناولوا العشاء ..
عندما عاد الى البيت دخلت زوجته لتنام بينما جلس هو وحيدا أمام التليفزيون في الصالة الكبيرة التى تقع في الدور الأول للقصر .
كان يحس بقلق حقيقي . كان يخشى الدخول الى مكتبه .
لم يصدق نفسه عندما تطلع الى الستارة الكبيرة أمامه فوجد نفس الوجوه .نفس العيون المثقوبة والوجوه المختنقة بالغاز والوجوه المقتولة بالرصاص والوجوه الممزقة المشوهة المدهوسة تحت العجلات . .
أحس اللواء بفزع .
رفع كفيه ليغطي بهما عينيه حتى لايرى كل هذه الوجوه المقتولة لكنه فوجيء بأن يديه ملطختان بالدم تماما ..
ماذا حدث لسيادة اللواء ..؟! .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى