اعتداء القوات العسكرية على سيدات مصر يوم 16 ديسمبر كان فضيحة عالمية، لا أدرى ما إذا كانت الإدارة المعنية فى القوات المسلحة قد نقلت إلى المجلس الأعلى ما نُشر فى صحف العالم عن ركل بناتنا بالأرجل وسحلهن، أو ضربهن بالهراوات وصعقهن بالعصىّ الكهربائية، أو شد بعضهن من الشعر أو التحرش بأخريات، وما إذا كانت هذه الإدارة قد أبلغت المجلس بأن اللقطات التى تصدرت عدداً من الصحف الدولية المرموقة ومعظم المواقع الإخبارية على الإنترنت هى تلك اللقطات التى تُظهر ضباطاً يندفعون تجاه فتاة محجبة، ويسحبونها على الأرض، ويضربونها بهراواتهم، ويسددون ركلة تلو أخرى لجسدها العاجز، ثم ينزعون حجابها من على رأسها، ويكشفون عن حمالة صدرها، ويطأ أحد الجنود صدرها بقدميه، وهل قامت الإدارة المعنية بواجبها كاملاً فأضافت تعقيب وسائل الإعلام الكبرى هذه على الصورة مثل قول «يو إس توداى»: «إن تحرش الجيش بالبنات مستوى جديد من القوة»، أو ما جاء فى الـ«واشنطن بوست» من أن «الجيش يهدد الديمقراطية»، أو فى الـ«ديلى تلجراف» البريطانية من أن «الاعتداء على الفتاة غطى على حريق المجمع العلمى»، أو ما قاله موقع «إن. بى. سى»: «إن ممارسات الجيش عودة لممارسات مبارك»، أو وصف «نيويورك تايمز» لأحداث شارع مجلس الوزراء بأنها «انقلاب على الثورة»، أو قول الـ«إندبندنت» البريطانية إن «الكشف عن صدر الفتاة إذلال كبير لأى امرأة مصرية وإن الضرب الوحشى يظهر كيف تمت خيانة الثورة المصرية».
رغم أن الفضيحة ليست فى الصورة وإنما فى الواقعة ذاتها إلا أن لدىّ اعتقاداً جازماً أن الإدارة المعنية فى القوات المسلحة لم تبلغ المجلس الأعلى بالكيفية التى ذاعت بها الصورة وما صاحبها من تعليقات، وأنها امتنعت عن ذلك مداراة وخجلاً.. إلا أن الأخطر من ذلك هو ظنى أنه حتى لو كانت تلك الإدارة قد نقلت إلى المجلس التفاصيل بأمانة لما اهتز على صدر واحد من أعضائه وسام.. ما يدفعنى إلى هذا الاعتقاد أن المجلس سارع بعد الواقعة إلى انتداب اللواء عادل عمارة بالذات ليعقد ما سمى بالمؤتمر الصحفى يوم 19 ديسمبر.. عادل عمارة كان واحداً من عضوى المجلس الأعلى اللذين عقدا المؤتمر الصحفى السابق للمجلس يوم 12 أكتوبر إثر أحداث ماسبيرو الدامية التى سقط فيها 27 قتيلاً.. بعد المؤتمر بأيام نشرت لى «المصرى اليوم» مقالاً بتاريخ 17 أكتوبر تحت عنوان «مؤتمر صحفى مقلق»، كان قلقى فيه نابعاً من أن مقاطع الفيديو التى اعتمد عليها اللواء لدعم ما أبداه من آراء سلاح ذو حدين، إذ من السهل على من يريد التشكيك أن يزعم أن عرض ما يراد عرضه وتجاهل ما يراد تجاهله هو اختيار انتقائى يزيد من الارتياب فى النوايا.. وهذا ما ينطبق تماماً على مؤتمر اللواء عمارة الأخير، إذ فندت «6 أبريل» فيديوهاته بعرض فيديوهات مناقضة فى مؤتمر صحفى عقدته هى الأخرى.
وقلت فى مقالى ذاك أيضاً إن قلقى من مؤتمر أكتوبر كان نابعاً من أن السؤال الرئيسى فيه عن القاتل الذى اندس بين الجيش والشعب لم تتم الإجابة عنه، وأن الإجابات لم تخرج عن نطاق نفى مسؤولية إطلاق النار عن القوات المسلحة.. قلت وقتها إن هذا هو سبب فشل المؤتمر، وربما كان هناك سبب آخر، هو أن المؤتمر انعقد سابقاً لأوانه قبل أن تكتمل التحقيقات.. ولكنى أضفت أنه حتى لو كانت التحقيقات قد اكتملت «فسوف تقابل بكثير من الحذر، إذ إنه من المرجح ألا تصل إلى نتائج مخالفة لتلك التى عُرضت علينا فى المؤتمر، كما أنه لن يُنظر إليها باعتبارها تحقيقات مستقلة شفافة».
حتى اليوم لم تُعرف نتائج تحقيقات أحداث ماسبيرو.. كل ما عرفناه من وزير العدل فى مؤتمر صحفى عقده يوم 20 ديسمبر أن النيابة العامة انتدبت قاضى تحقيق من مستشارى محكمة استئناف القاهرة وتم تسليمه الأوراق وبدأ فى إجراء التحقيقات.. وفى المؤتمر نفسه أعلن الوزير عن وقائع محددة بشأن أحداث محمد محمود وعن عدد المتهمين الذين بلغوا 361 متهماً، إلا أنه لم يعلن أن التحقيق وصل إلى نهايته.. والأرجح أن هذا التحقيق وغيره، بما فى ذلك التحقيق فى أحداث قصر العينى الأخيرة، وكذلك التحقيق فى اختبارات العذرية التى أجريت بحق 20 فتاة - لن تكتمل لأنها تتناول أطرافاً عسكرية يتعذر على النيابة العامة مساءلتها.
ربما لا يمكننا أن نحمّل شخص اللواء عمارة مسؤولية تأخر التحقيقات، إلا أنه يحمل بالقطع المسؤولية كاملة عن الطريقة الفظة التى أدار بها مؤتمره الصحفى الأخير، إذ إنه تعامل مع الصحفيين - على نحو ما أشارت الـ«نيويورك تايمز» - كمن يتعامل مع طلبة المدارس «عندما أشارت له مندوبة قناة الجزيرة الدولية بصحيفة التحرير التى نشرت صورة الفتاة الشهيرة بارزة فى صفحتها الأولى صاح فى وجهها: اقفلى الجرنال ده»، وكانت تصريحاته يفوح منها الاستهزاء البالغ والسخرية والاحتقار.. وفى حين كال اللواء الاتهامات للمتظاهرين فقد برر سلوك القوات التى اعتدت عليهم بأنه لا يمكن لإنسان أن يتحمل ما تحمله هؤلاء الجنود من الشتائم والإهانات والاستفزاز المتعمد منذ بدء الاعتصامات، واعترف اللواء بواقعة الاعتداء على الفتاة التى نُزعت ملابسها، وقال إن الواقعة محل تحقيق، وطالب بتفهم الظروف التى أحاطتها و«التى آسف كمواطن مصرى وكأب لحدوثها».
«آسف لحدوثها».. إلى هذا الحد فقط وصل الأسف، وهى الصيغة نفسها التى وردت فى الرسالة رقم 91 التى قال فيها المجلس العسكرى إنه «يبدى أسفه الشديد لسيدات مصر العظماء لما حدث من تجاوزات خلال الأحداث».. هذا ليس اعتذاراً.. ولست فى معرض إعطاء دروس فى اللغة، ولكنى أكتفى بالتذكير بحادث قتل إسرائيل للجنود المصريين على الحدود فى أغسطس الماضى.. عندها صدر بيان للخارجية المصرية أخطرنا بأنه تم استدعاء القائم بالأعمال الإسرائيلى، وحاول البيان أن يوهمنا بأن إسرائيل اعتذرت عندما أشارت إلى أن القائم بالأعمال «تلا أثناء المقابلة نص البيان الذى أصدره وزير الدفاع الإسرائيلى، وأعرب فيه عن الأسف العميق إزاء سقوط الضحايا»، إلا أنه فى اليوم التالى «نفت مصادر سياسية فى إسرائيل أن يكون القائم بالأعمال قد قدم اعتذاراً، وأكدت أنه نقل فقط أسف إسرائيل لقتل الجنود».. مع ذلك ففور صدور رسالة أسف المجلس العسكرى الأخيرة بادرت بعض الصحف القومية فى عنوانها الرئيسى بالإعلان عن أن «الجيش يعتذر لسيدات مصر»، وهو نفس ما أورده عدد من مواقع الإنترنت الإخبارية المرموقة.
كان المجلس الاستشارى قد علق أعماله إثر الأحداث الأخيرة حتى يتم تقديم اعتذار صريح عما حدث وإجراء التحقيق فيه وتعويض الشهداء والمصابين، ولكنه سرعان ما عاد لاستئناف عمله، بزعم أن المجلس العسكرى قد استجاب لمطالبه، فهل تراجع المجلس الاستشارى بذلك عن شرط واضح أعلنه، أم أن هناك علاقة بينه وبين المجلس العسكرى شبيهة بتلك العلاقة التى تربط الصحف القومية بالعسكرى، أم أن الاستشارى فى حاجة إلى استشارى فى اللغة ليعلم الفرق بين الاعتذار والأسف؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى