د. حسني نصر
12/26/2011
" آن للدولة العربية الحديثة أن تتخلص من هذا الداء الذي أصيبت به، وأن تتوقف عن صنع الأعداء، خاصة بعد أن أثبتت التجارب أننا لا نحسن العداء مثلما لا نتقن الصداقة ."
د. حسني نصر
في الوقت الذي كان فيه المجلس العسكري في مصر يبحث عن أعداء من أبناء مصر يطاردهم وينتهك أدميتهم ويقتلهم في الشوارع المحيطة بميدان التحرير، وفي الوقت الذي انشغلت فيه الجامعة العربية بقضية سوريا وبعثة تقصي الحقائق والتوقيع على بروتوكول المراقبين الذين بدأوا بالتوافد على دمشق، كانت إسرائيل تجنى أولي ثمار جهودها من تقسيم السودان، وتستضيف رئيس دولة جنوب السودان في القدس المحتلة لتضمه إلى قائمة أصدقائها، وتحوله ودولته- ربما للابد- ليكون عدوا تاريخيا جديدا للعرب.
وأيا كان موقفنا من الزيارة وما تم فيها، واتخاذ الرئيس الجنوبي سلفاكير إسرائيل نموذجا يحتذى به ومثالا للنجاح وتعهده بمساندتها، ورغم إدراكنا للمخاطر التي تحيط بالتقارب المشبوه بين إسرائيل والدولة الجديدة، على الأمن القومي العربي وفي قلبه الأمن القومي السوداني والمصري، فان ما يعنيني في هذا المقال هو الدعوة إلى التخلص من ظاهرة عربية باتت تمثل تقليدا راسخا في الفكر السياسي العربي المعاصر، وهي ظاهرة صناعة الأعداء واستنفاد القوة في حروب وهمية مع طواحين الهواء الظاهر منها والخفي.
هذه الظاهرة يمكن تتبعها على أكثر من مستوى خارجي وداخلي. كما يمكن تتبعها تاريخيا في الخلافات العربية- العربية الكثيرة التي أضاعت على العرب كل فرص الوحدة والنهوض الجماعي التي أتيحت لهم منذ الاستقلال. وكثيرة هي المرات التي حولنا فيها الأشقاء والأصدقاء إلى أعداء ورفعنا السلاح في وجوههم، تحقيقا لأهداف لا تمت للمصلحة الوطنية بصلة.
ففي النصف الثاني من سبعينيات القرن الفائت، نجح الرئيس الليبي السابق معمر القذافي في شراء عداء مصر دون مبرر ودون مقابل عندما أمر بطرد المصريين العاملين في ليبيا وتحريك مظاهرات من بلاده للوصول إلى القاهرة احتجاجا على التقارب المصري الإسرائيلي في ذلك الوقت، الأمر الذي تحول إلى حرب بين البلدين بدأت في 21 يوليو 1977 وشملت هجمات برية وجوية، وانتهت دون نصر أو هزيمة وبوساطة جزائرية فلسطينية. وفي مطلع التسعينيات نجح الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في شراء عداء العالم كله عندما قام دون سابق إنذار بغزو الكويت واحتلالها وضمها إلى بلاده، ولم يخرج منها إلا بحرب عالمية أكلت الأخضر واليابس في العراق وأدخلته دوامة العقوبات الدولية التي انتهت باحتلاله في 2003 وإعدام صدام نفسه في اليوم قبل الأخير من عام 2006 .
لم تتعلم أنظمة عربية كثيرة من الدرسين السابقين، واستمرت في نهج خلق الأعداء. واليوم نرى بأعيننا كيف نجح النظام الحاكم في سوريا خلال العام الحالي في كسب عداء شعبه وعداء أكثر من نصف دول العالم تقريبا ومن بينها دول عربية شقيقة كانت حتى وقت قريب تحترم هذا النظام وتساعده وتدافع عنه، ولكنه بعناده حولها من خانة الأصدقاء إلى خانة الأعداء وجعلها تسعى مع الساعين إلى أسقاطه ولو بالقوة، رغم انه كانت لديه الفرصة تلو الفرصة لإحداث الإصلاحات السياسية والاجتماعية التي تكفل له الحفاظ على أصدقائه وعدم خلق أعداء جدد له. وفي مصر تؤكد الأحداث الأخيرة التي شهدتها المناطق المحيطة بمبنى مجلس الوزراء وسط القاهرة أن المجلس العسكري الحاكم نجح في خلق أعداء جدد له ليس فقط في الخارج، ولكن في الداخل أيضا، من خلال معاداة الثوار وتشويه رموز الثورة التي أوصلته للسلطة. ويبدو هذا العداء جليا في استخدام العنف المفرط لفض اعتصام التحرير،ونشر الفزاعات الوهمية بالحديث المبالغ فيه عن وجود مخطط مزعوم لإحراق مصر، واطلاق التحذيرات مما يسميه توليفة الفوضى- كما قالت جريدة الجمهورية الحكومية الخميس الفائت - والتي تشمل استفزاز الجيش، وسقوط القتلى، وإشعال الحرائق، بهدف جر البلاد لحرب أهلية، وفرض الوصاية الدولية عليها. والهدف الحقيقي من كل ذلك هو وضع المعارضين لاستمرار قادة المؤسسة العسكرية في السلطة أمام نفس الخيار الصعب الذي كان مبارك قد وضع المصريين أمامه إبان ثورة 25 يناير وهو: إما أنا أو الفوضى. وقتها اختار المصريون الفوضى فسقط مبارك ونظامه ولم تسقط الدولة.
نفهم ان يبحث النظام أحيانا عن عدو خارجي أو يقوم باختراع هذا العدو لكي يوحد الجبهة الداخلية ويجمعها حوله، مثلما فعلت الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفييتي السابق وقت الحرب الباردة، ومع الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر، ولكن ما لانفهمه في الحالة العربية هو أن يصنع النظام بنفسه أعداء له داخل الوطن،إما بشكل متعمد ، أو بالتغاضي عن مطالب الشعوب والتباطؤ في الإصلاح ومحاربة الفساد واستمرار قمع المعارضين.
في ظل ما سبق، لا يجب أن نلوم سلفاكير على زيارته لإسرائيل وتوقيعه مجموعة من الاتفاقيات للتعاون مع الدولة اليهودية في مجالات المياه والطاقة. لا يجب أن نلومه لأننا منذ إعلان استقلال دولته عن السودان بحضور وفود رمزية من مصر والسودان لم يبذل العرب أية جهود لضمه إلى قائمة الأصدقاء، ولم توجه اليه الدعوة لزيارة أية دولة عربية. وباستثناء زيارته غير الناجحة للخرطوم في أكتوبر الفائت، لم يمد العرب أيديهم إلي الرئيس الجنوبي ولو على سبيل المجاملة، وانتظروا حتى أصبح عدوا لهم،بحكم أن صديق عدوي هو أيضا عدوي، وربما يأتي اليوم الذي نندم فيه على تقاعسنا في ضم الدولة الوليدة إلى قائمة الأصدقاء وإبعادها عن عدونا الرئيس.
لقد آن للدولة العربية الحديثة أن تتخلص من هذا الداء الذي أصيبت به، وأن تتوقف عن صنع الأعداء، خاصة بعد أن أثبتت التجارب أننا لا نحسن العداء مثلما لا نتقن الصداقة، مثلما أثبتت أن الشعوب العربية أصبح من الصعب إقناعها بالعدو الخارجي المزعوم وغير المرئي، كما أصبح لديها الوعي الكافي الذي تستطيع من خلاله التفرقة بين العدو الحقيقي والعدو المصطنع.
استاذ بجامعة السلطان قابوس
الشبيبة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى