مصر 2011، لم يكن مكتوبا فى كتب التاريخ عن ثورتها، عن واقعها الجديد، عن أيام المصريين فيها، لم يكن مؤرخا أن آلافا من خير شبابها ورجالها وبناتها سيحسبون عند ربهم شهداء من أجل مصر، ولم يكن معروفا أن ألوفا آخرين كتب عليهم أن يصابوا ويجرحوا ويعيشوا بقية حياتهم بإعاقات خطيرة هى ختم ووثيقة بطولاتهم من أجل هذا البلد، لم يكن مؤرخا ولا معروفا أن شعب مصر سينتفض بصوته وهتافه ودمه وإبداعه وسلميته وسينجح فى إزاحة رئيس (وما زالت الثورة مستمرة لإزاحة نظام بأكمله)، لم يكن مسطورا فى الكتب أن تتغير خريطة مصر وتنقلب رأسا على عقب، لم تكن الأحداث المتلاحقة التى تمر على مصر يوما بعد يوم بحلوها وغمها وكربها وبمؤشرات تفاؤل أولادها، وإعادة اكتشاف معادن ناس هذا البلد (نفيسها ورخيصها) معا متوقعة أن تحدث بتلك السرعة المذهلة، لم يكن متوقعا أن يأتى يوم يجتمع فيه مصريون كثيرون فى ميدان التحرير بالشموع لا للاحتفال بسنة ميلادية جديدة، لكن لإحياء ميلاد كرامة وحرية وطن، لإحياء مشوار طويل بدأنا نخطو فيه خطوات شجاعة لا نعلم متى وكيف ستصل بنا إلى بداية مشوار الحرية الحقيقية، وما أصعب أن تبدأ رحلة ولا تعرف متى ستصل فيها، فما بالكم برحلة الوصول إلى «وطنك»؟
مصر 2012، مجهول لا يوجد دليل مؤكد واحد على أن يتم السيناريو وفق ما يريده الثوار والمصريون الراغبون فى التغيير الحقيقى.
ما اللعبة الجديدة التى يخططها النظام الذى لم يسقط بعد بفلوله وعسكره وبثواره المضادين؟ لا نعلم، لكننا اعتدنا مفاجآتهم الخبيثة العنيفة، انظر فى صفحات التاريخ: (موقعة الجمل.. اعتصام أبريل.. أحداث مسرح البالون.. أحداث السفارة.. محمد محمود.. مجلس الوزراء.. محاكمات صورية وتبرئة قتلة.. مسرحية هزلية للانفلات الأمنى)، وفزورة العام: إنت ثائر.. إذن أنت بلطجى.. إلخ.
ومع ذلك فإن أروع ما فى المشهد أن تجد ناسا فى هذا البلد يعلمونك فن النفس الطويل، فن المثابرة، فن التفاؤل، فن أن لا تخسر معركة وطنك واسترداد إنسانيتك، فن أن تكون بطلا تلقائيا دون قائد، لأن قائدك الوحيد هو فكرتك عن الحرية وعن بلد حر، رغم مجهول 2012 فإن نقطة النور هى: إذا أردت أن تتحرر، إن لم تكن قادرا على معرفة طريقك إلى الحرية بنفسك، فاتبع خطوات الأحرار!!
■ ■ ■
منذ الأيام الأولى لثورة 25 يناير 2011 كنت أعلم أن أخطر ما فى المشوار هو أن يعرف ويفهم الناس يعنى إيه ثورة، يعنى إيه بلد وناس يستحقون الحياة والكرامة والعدالة ولقمة العيش، يعنى إيه تكون مصر دولة قانون، لا دولة سلطة حاكمة غاشمة، يعنى إيه حق وواجب، يعنى إيه يكون خير البلد لناسها، يعنى إيه من حقك وحق ولادك أن يعالجوا فى مستشفيات الدولة، أن يتعلم أولادك تعليما حقيقيا فى مدارس حكومية، يعنى إيه من حقك أن تعيش كبنى آدم، يعنى من حق 8 ملايين عاطل أن يجدوا طريقا للعمل الإنسانى، يعنى إيه تعيش فى بلد يقدر إمكاناتك وقدراتك وعلمك… إلخ.
كنت أعتقد أن قضيتنا الجوهرية للخروج من هذا النفق هى التوعية السياسية والاجتماعية بما هو بديهى، كان يعتقد الكثيرون أنهم أخيرا وجدوا ضالتهم فى العمل السياسى، ستكون الأولويات هى الكلام مع الناس، هى المناقشة وفتح باب الجدل والحوار والاختلاف، سننزل الأقاليم، الأحياء الشعبية، سنتحدث مع السائقين فى المواقف، سنذهب إلى السيدات البسيطات فى بيوتهن.
فى الشهور الأولى كان الصوت العالى يتجه نحو ذلك النوع من المبادرات، كنت أتحسس طريقى مثل غيرى لهذا المسلك، كانت طاقة الحوار عالية ومتدفقة.
تمر الشهور، وتتلاحق الأحداث، ويملأ الخوف قلوب الناس وعقولهم، إضافة إلى الجهل، وتمر أيام أخرى وتتلاحق الأحداث، فيعلن لك المشهد عن وجه آخر من سمات بعض المصريين، وهو وجه القسوة واللا إنسانية والتبلد.
الأحداث وتطوراتها، وكيفية قراءة المشهد السياسى كانت كفيلة ليتأكد الكثيرون، وأنا منهم، أن الحوار والكلام العادى مع الناس أصبح أصعب وأكثر إجهادا، وعندما وصل الكثيرون إلى مرحلة الانقسام والتفتت، حتى فى ما بينهم حول القيم والمفاهيم الأساسية البديهية للإنسانية، أصبح الحوار مع الناس «كأنه حائط سد».
بما أننا على مشارف عام لا يعلم أيامه وواقعه سوى الله، فإننى أريد أن أعترف وأتخلص من إحساس يؤزمنى منذ شهور طويلة، قد لا يفرق معكم، لكنه يفرق معى أن أجهر به على الأقل كمحاولة وهمية لإثبات جرأتى أمام نفسى… (حاسة إنى ماعملتش اللى علىّ لمصر فى 2011).
خلال هذا العام، كان الشعور المؤرق كلما فعلت شيئا عاديا وأقل من العادى حتى وإن استحسنه الآخرون، قلت فى نفسى، هذا استسهال، أنا أقدر أعمل أكثر من كده، لكننى لا أفعل إلا القليل، ثم أعود وأشعر بالذنب، عندما يصاب أو يموت شاب يوجع القلب، أو تسحل وتضرب فتاة مصرية، عندما يتم تحويل ألوف الشباب إلى المحاكمات العسكرية، عندما يتم تبرئة متهمين، عندما تغلق مقرات منظمات العمل المدنى، عندما يتم اتهام مواطنين بالعمالة لأنهم يكشفون الظلم، عندما أسمع تصريحات لإخوان وسلفيين ومزايدين، وأرى من يتبعهم ويصدقهم، أشعر بالذنب وأتأكد أننى لم (أعمل اللى علىّ تجاه البلد فى تلك المرحلة)، أشعر بالندالة والاستسهال، خصوصا أننى سئمت الكلام الذى يصل دائما إلى «الحائط السد».
ورغم أننى أعلم جيدا أنها فكرة قد تكون غير موضوعية وساذجة بعض الشىء، ورغم أن «كل ميسر لما خلق له»، فإنى أردت أن أشارككم هذا الهم الشخصى… لماذا؟
لأننى بأمس رأيت مشهدا شاهدته كثيرا فى التليفزيون، ولم يحرضنى على شعور أو فكرة من قبل، لكن ربما لتوقيت مشاهدته فى آخر أيام 2011 كان له معنى رمزى بالنسبة إلىّ.
مشهد المخلوع فى أولى جلسات محاكمته، ينادى القاضى على اسمه: محمد حسنى السيد مبارك، فإذا به يرد: «أفندم.. أنا موجود»!!
«وجوده» الرمزى.. قلب كل الأفكار والمشاهد الموجعة التى تسبب فيها، «وجوده» معنى يؤكد لى أن المشوار طويل وعلينا أن نكون «إحنا كمان موجودين».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى