على غير المتوقع، وفى مفاجأة قوبلت برضا شعبى عريض، دخلت محاكمة «مبارك» مرحلة الحسم، عندما طلب من النيابة العامة أن تبدأ مرافعتها فى القضية لتتبعها مرافعة المدعين بالحق المدنى، ثم مرافعة الدفاع عن المتهمين، وتحجز القضية بعد ذلك للحكم.. ولا يستبعد كثيرون أن يصدر الحكم بعد أسابيع معدودة، خاصة بعد أن أعلن المستشار أحمد رفعت أنه قرأ أوراق القضية التى بلغت أكثر من 35 ألف صفحة ثلاث مرات، أثناء توقف المحاكمة فى الشهور الماضية، بل إن هناك مصادر تشيع أن الحكم سيصدر فى 23 يناير لاسترضاء أهالى الشهداء والمصابين وتفادى تصاعد الغضب فى الاحتفال بعيد الثورة.
أقول من الآن إن هذه شائعة مغرضة تنال من القضاء، فهى تعنى أولاً أن الحكم بحق المتهمين معروف سلفاً، وأنه سيكون قاسياً بحيث يرضى عموم الناس حتى إن تم نقضه بعد ذلك، كما أنها تعنى أن توقيت صدور الحكم قد أملى على المحكمة بواسطة المجلس العسكرى، بما يعنى أن السلطة التنفيذية تتدخل فى شؤون السلطة القضائية، الأمر الذى يشين الجانبين.. والمؤسف أن المحاكمة لن تنجو من هذا الاتهام كيفما كان الحكم الذى ستصدره ومهما كان توقيته، فلو افترضنا ـ على النقيض ـ أن الحكم قد تأخر صدوره شهوراً أو أسابيع، فسوف يعنى ذلك فى أذهان كثيرين أن هناك محاولات للمماطلة فى إدانة «مبارك» وأعوانه، ولو افترضنا أن المحاكمة انتهت بالبراءة أو بإصدار أحكام مخففة، فسوف تروج الأقاويل بأن المجلس العسكرى الذى ينتمى إلى النظام البائد يسعى لتبرئة رموز هذا النظام.
محكمة «مبارك» إذن فى موقف دقيق للغاية، وربما تثير الظنون والريب فى كل الأحوال، ولاشك أنها تدرك ذلك جيداً، وتدرك فى الوقت ذاته أيضاً أن العبرة فى إصدار الحكم بما يستقر فى ضميرها وليس بما ينتظره الناس منها، إلا أننى أحسب أنه لابد لهيئة المحكمة، أيضاً من أن تأخذ فى الحساب مدى ثقة الرأى العام فى طريقة تسييرها للمحاكمة وإجراءاتها، إذ إن هذه الثقة هى التى سيتوقف عليها مدى قبول الناس للأحكام وقبولهم لتوقيت صدورها.. ورغم أن رئيس المحكمة المستشار أحمد رفعت حظى بتقدير من أطراف القضية جميعاً، فإن هناك ألغازاً من الضرورى أن يعرف الرأى العام ما وراءها حتى يولى المحكمة ثقته كاملة.
أول هذه الألغاز، وربما أهونها، هو التعامل مع المتهمين.. إذا كان «مبارك» يسمح لنفسه بأن يظهر أمام شعبه وأمام العالم فى هذا الوضع المهين على النقالة الطبية، رغم أن هناك اعتقاداً عاماً أن حالته الصحية تسمح له بالجلوس، فكيف يسمح له بأن يضع قدميه فى مواجهة قاعة المحكمة ومنصتها؟.. ولماذا لا تضع الداخلية الكلابشات فى أيدى المتهمين، وهى التى تضع الكلابشات فى أيدى شباب المتظاهرين المصابين فى المستشفيات، بل تقيدهم فى الأسرة أيضاً؟.. ولماذا لا تقيدهم جميعاً فى سلسلة واحدة كما يحدث فى محاكمات أخرى بحيث يدخلون قاعة المحكمة فى طابور بدلاً من أن يتقافزوا بالاستهتار الذى نراه، كما لو كانوا مدعوين إلى كوكتيل أو مقبلين على نزهة بحرية؟.. ولماذا يسمح لعلاء مبارك بحمل كرسى خاص، لماذا لا يجلس على المقاعد المخصصة للمتهمين فى القفص؟.. وكيف يمكن أن توضع نهاية لاستعراض الأزياء المستفز الذى يقوم به المتهمون فى كل جلسة، لماذا لا يرتدون ملابس السجن التى تصرف لعموم المساجين؟!
على أن هناك ألغازاً أخرى أكثر أهمية، لعل أهمها ـ بلا جدال ـ التصريح الصاعق الذى ورد فى مرافعة النيابة العامة عندما قال المستشار مصطفى سليمان، المحامى العام الأول، بكل جلاء إن أجهزة الدولة قصرت فى إمداد النيابة بالمعلومات والتحريات اللازمة، ولما قاطعته المحكمة لتسأل: هل طلبت النيابة من الجهات المسؤولة تقديم تحريات وقرائن لمساعدتها فى أداء رسالتها؟ رد قائلاً: إن النيابة طلبت تحريات من «الداخلية» وكذلك من «الأمن القومى» فأجابا بأنه لا توجد لديهما معلومات فعاد رئيس المحكمة يسأل: هل كان ذلك تقاعساً أم عدم قدرة أم تقصيراً؟ وكان رد المستشار سليمان أنه يعتقد بشكل شخصى أن هذا كان عمداً.. بعد ذلك قرأنا فى الصحف التصريحات المتوقعة التى تنفى عن جهات الأمن المسؤولة ذلك، سواء تصريح وزير الداخلية بأن الوزارة كانت منهارة عندئذ أو ما نشرته وكالة أنباء الشرق الأوسط لنفى مسؤولية جهاز المخابرات عن جمع معلومات كتلك التى طلبتها النيابة العامة.. وقد يعتقد المسؤولون أن هذه التصريحات كافية لمخاطبة الرأى العام، إلا أنها ليست كذلك، كما أن النيابة لم تضف إلى مرافعتها أى إيضاح، ولم تفصح عن السبب الذى جعلها تكتفى بالخطابات التى وردتها من أجهزة الأمن وتحجم عن استدعاء ممثليها ولو بالقوة الجبرية لتسألهم عن السبب فى عدم تقديمهم المعلومات المطلوبة.. ويزيد من غموض الأمر أنه ليس بمقدور المحكمة الآن أن تطلب هؤلاء للشهادة بعد أن انتهى سماع الشهود وبدأت المرافعات.
اللغز الثالث الذى لايزال مستعصياً على فهم الرأى العام هو استثناء النيابة العامة لسوزان مبارك من الإحالة إلى المحاكمة فى هذه القضية، رغم دورها فى فساد عهد «مبارك» ودورها فى مشروع التوريث، ورغم خضوع «مبارك» لضغوطها وإرادتها على نحو ما أشارت النيابة العامة ذاتها فى مرافعتها.. سوزان مبارك كانت أيضاً رئيسة لعدد من المجالس القومية ورئيسة لمجلس أمناء مكتبة إسكندرية ولمجلس أمناء مستشفى سرطان الأطفال ورئيسة للهلال الأحمر، وكانت تتلقى دعماً لهذه الجمعيات ولغيرها من جهات أجنبية يقدر بنحو مليار جنيه سنوياً، دون رقابة تذكر على أوجه صرفه.. ومع ذلك فلم نسمع حتى الآن بتحقيق جاد فى هذا الشأن، أو بمداهمات لأى من الجهات التى كانت ترأسها، كما حدث لغيرها من جمعيات مؤخراً.. وبالإضافة لذلك فقد تورطت سوزان مبارك فى جريمة استغلال نفوذ فاضحة فى شراء قصر العروبة من جهة تابعة للدولة بـ4 ملايين جنيه، فى حين يقدر ثمنه الفعلى بأضعاف ذلك، وهى جريمة مماثلة تماماً لجريمة «مبارك» ونجليه، التى يحاكمون عليها اليوم بشرائهم فيلات شرم الشيخ من حسين سالم بأسعار رمزية ولا ينفى ارتكابها جريمتها أنها لما ووجهت بها تنازلت عن القصر بأن باعته للجهة التى اشترته منها، فلماذا لا تقف هى الأخرى فى قفص الاتهام اليوم مثلها مثل بقية عائلتها الفاسدة؟.. هذا هو السؤال الذى يسأله المصريون الآن، بل تسأله أيضاً مصادر أجنبية مثل مجلة «نيوزويك» التى تعجبت فى عددها الأخير من أن سوزان هى الشخص الوحيد من عائلة مبارك الذى ليس محتجزاً الآن قيد المحاكمة.
لغز رابع ـ وإن لم يكن الأخير ـ هو مدى الحكمة فى إغلاق المحاكمة دون آلات تصوير التليفزيون.. نعرف أن تصوير المحاكمات ظل محل خلاف بين القضاة أنفسهم منذ زمن، وأنهم انتهوا إلى ترك الأمر إلى قرار يتخذه القاضى نفسه فى كل قضية على حدة، ونعرف أيضاً أن معظم القضاة كانوا يرجحون قبل 25 يناير منع التصوير المباشر، إلا أن المثير للتساؤل هو أن الثورة التى حطمت كثيراً من القيود على الحريات وفى مقدمتها حرية تداول المعلومات لم تؤثر فى قرار محكمة مبارك بالذات، رغم أنها تتناول قضية لا تفوقها قضية أخرى فى مدى اهتمام الرأى العام المحلى والعالمى بها وحرصه على متابعتها لحظة بلحظة.
مما يبعث الأسى أن الوقت قد فات لتدارك ما تثيره هذه الألغاز من شك وإحباط، وهو ما يلقى على كاهل المحكمة عبئاً أكبر لتنال ثقة الرأى العام، وما يجعلنا ننادى مرة أخرى بضرورة استصدار قانون لإحالة «مبارك» إلى محاكمة خاصة بتهمة الحنث باليمين الدستورية وارتكابه جرائم الفساد والاستبداد على مدى سنوات حكمه، وهو مطلب لن يستعصى تحقيقه مهما كانت السلطة الحاكمة ومهما طال الزمن.. «مبارك» يجب أن يكون عبرة للحكام الطغاة وعبرة لأذنابه الذين لم يرتدعوا بعد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى