هذه الثورات أطاحت بحكومات مستبدة، أعاقت تقدم جيوش جرارة، نجحت في تغيير حكومات، حققت الاستقلال لبعض البلدان، وغيرت قوانين كانت تنتهك حقوق الإنسان وتسلب الناس مواردهم.
البعض منها حقق نجاحات خاطفة وسريعة قادها ناشطون مبدعون، وبعضها الآخر بدأ ببطء وتصاعدت وتيرته مع الزمن. منها ما نجح في تحقيق أهدافه دون إراقة للدماء، ومنها ما اضطر لبذل تضحيات بشرية ولكنها لا تقارن بالقرابين البشرية التي لطالما غذت أتون النزاعات المسلحة.
فيما يلي ملخص عن بعض الثورات اللاعنفية التي شهدها القرن العشرون:
في عام 1905، جيّش الكاهن الأرثوذكسي “جورجي كابون” 150 ألف عامل روسي للخروج في مسيرات عبرت شوارع العاصمة خلال موسم الصقيع. هذه المسيرة شكلت أول تحدٍّ سلمي من نوعه لسلطة قمعية يشهده القرن العشرون، وأشعلت حراكاً شعبياً شاملاً أثمر في النهاية عن أول برلمان منتخب في روسيا.
في عام 1923، وبعد فرض العقوبات والتعويضات على ألمانيا إبان الحرب العالمية، تحدى عمال المناجم والسكك الحديدية في حوض “الرور” بألمانيا جنوداً فرنسيين وبلجيكيين أُرسِلوا في مهمة لتقويض بقايا قواعد الألمان. انتهج العمال أسلوب العصيان الكامل لأوامر الجنود ورفضوا التعاون معهم ونجحوا في النهاية في إحباط أهدافهم، إلى أن ضغط البريطانيون والأمريكيون على الجنود وأجبروهم على الانسحاب.
بين عامي 1930-1931 قاد المهاتما غاندي حركة عصيان مدني واسعة النطاق ضد البريطانيين في الهند، بدأها بإقناع أتباعه بضرورة التوقف عن دفع ضريبة الملح وشراء الملابس والمشروبات، وهي التجارة التي كان يهيمن عليها الراج آنذاك. كانت تلك خطوة أولى في مسيرة طويلة وناجحة من الحراك الشعبي الهندي من أجل الاستقلال.
رفض المواطنون الدنماركيون خلال الاحتلال الألماني لبلادهم في الحرب العالمية الثانية تقديم دعمهم لآلة الحرب النازية، ونجحوا في صيف عام 1944 في فرض حالة من الركود التام في بلدهم، وهو ما أجبر الألمان على إنهاء حالة الحظر والحصار المفروضة على البلاد؛ هذه الوسيلة ومثيلاتها من الوسائل السلمية كانت متبعة أيضاً في العديد من المدن الأوروبية واستخدمتها شعوب أوروبية مختلفة لمقارعة الزحف الألماني على أوروبا.
في السلفادور بأمريكا الجنوبية، نظم مجموعة من الطلاب والأطباء والتجار عام 1944 حملة إضراب عام ضد الانتهاكات المتواصلة للحكم العسكري الدكتاتوري للبلاد. أجبرت الحملة الجنرال “مارتينز” على الاستقالة، ونجحت دون استخدام قطعة سلاح واحدة في إقناع أقرب الموالين للدكتاتور، بما فيهم كبار الضباط، بإيقاف دعمهم له، مما اضطره في النهاية إلى الرحيل إلى المنفى.
في عام 1955، وبعد أقل من عشر سنوات من خروج البريطانيين من الهند، وصلت أصداء نجاحات غاندي إلى الولايات المتحدة وألهمت تعاليمه الواعظ المسيحي د. مارتن لوثر كينغ، الذي قاد بدوره حملة لاعنفية تواصلت على مدى خمسة عشر عاماً ضد سياسة التمييز العنصري في الجنوب الأمريكي، مستعينة بشكل أساسي بالمسيرات ونشاطات العصيان المدني والمقاطعة والإضراب.
بين الأعوام 1977-1979 شهدت إيران احتجاجات سلمية واسعة جمعت الإسلاميين واليساريين والعلمانيين في جبهة واحدة للإطاحة بحكم الشاه محمد رضا بهلوي الموالي لأمريكا. بنهاية 1978، هيمنت المعارضة الإسلامية على الثورة بقيادة آية الله الخميني، وتزايدت أعداد المحتجين إلى أن بلغت 6-9 مليون إنسان في أوسع تظاهرة شعبية عرفها التاريخ حتى ذلك الوقت. واجه المتظاهرون قوات الأمن بالورود وأطلقوا حملات إضراب عام واسعة شلت اقتصاد البلاد بشكل كامل، وأدت في النهاية إلى هرب الشاه وعائلته إلى المنفى.
بعد بضع سنوات من اغتيال مارتن لوثر كينغ، تحدى مواطنون بولنديون سلطة الحكم الشيوعي في بلادهم من خلال إطلاق مجموعة من النشاطات الشعبية التي لم تكن معروفة على الإطلاق في دول الكتلة الشيوعية. أطلق العمال عام 1980 حملات إضراب واسعة انتزعوا بواسطتها من السلطات حقهم في التنظيم، ما نتج عنه لاحقاً إنشاء منظمة “سوليداريتي” (تكافل)، وهي المنظمة التي نجحت في النهاية في إسقاط الحكم الشيوعي في بولندة.
بالتزامن مع التغيير الذي شهدته بولندة، انطلقت مجموعة من الأمهات الأرجنتينيات في مسيرات شهيرة عبرت الساحة المركزية للعاصمة “بوينس آيريس” تعبيراً عن سخطهم تجاه صمت حكومتهم عن اختفاء ذويهم. لم تتوقف المسيرات حتى قوّضت شرعية الحكم العسكري في الأرجنتين بشكل كامل، ما نتج عنه في النهاية سقوط النظام بعد هزيمة حرب الفوكلاند عام 1982.
بعد سقوط حكم العسكر في الأرجنتين، انطلقت الحركة الشعبية ضد حكم الجنرال أوغسطو بينوشيه فيجمهورية التشيلي عام 1983، وسرعان ما تصاعدت وتيرتها على شكل مسيرات وإضرابات واحتجاجات شعبية شاملة ضد نظام حكمه. نجحت الاحتجاجات في إسقاط نظام بينوشيه على خلفية استفتاء شعبي لتمديد حكمه، بعد أن وافق الدكتاتور نفسه على هذا الاستفتاء ظناً منه بأنه سيحقق الفوز.
وإلى الجانب الآخر من العالم، وتحديداً في الفلبين عام 1986، وبعد محاولة تزويرٍ قام بها “فرديناند ماركوس” لسرقة الانتخابات الرئاسية في البلاد عام، قادت أرملة أحد الزعماء (الذين تم اغتيالهم سابقاً) مئات الآلاف من المواطنين إلى الشوارع في إحدى أكبر التظاهرات السلمية التي شهدتها البلاد في تاريخها. اضطر الجيش للوقوف في صف الثورة وسحب دعمه للدكتاتور وحرمه من أي فرصة للاستيلاء على السلطة بالقوة.
بعد مرور وقت قصير على نجاح الفلبينيين في إرساء الديمقراطية في بلادهم، بدأ الفلسطينيون انتفاضتهم الشعبية الأولى (1987-1993) ضد ممارسات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية والقطاع، وقادوا مجموعة من المسيرات وحملات الإضراب والعصيان المدني ورفض دفع الضرائب، حتى أنهم شرعوا في بناء وتطوير شبكة خاصة بهم من الخدمات الاجتماعية. هذه الموجة العارمة من الاحتجاجات اللاعنفية كانت الأوسع نطاقاً وحققت أكبر المكاسب للفلسطينيين منذ بدء صراعهم من أجل حق تقرير المصير (حشدت اعتراف دولي واسع بالفلسطينيين، وقادت لبدء المفاوضات مع الإسرائيليين وصولاً إلى مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو)، ولكن للأسف ربما الأقل شهرة بين الانتفاضات التي قادها الشعب الفلسطيني.
في جنوب أفريقيا عام 1983، توحدت مجموعة من النقابات والتنظيمات والقيادات الدينية في حملة لاعنفية واسعة ضد سياسة الفصل العنصري. نجحت الحملة، بالتزامن مع العقوبات الدولية التي فرضت على جنوب أفريقيا، في الضغط على السلطة لإطلاق سراح الزعيم نيلسون مانديلا، وبدأت على إثرها مفاوضات أدت فيما بعد إلى ترسيخ الأسس الديمقراطية في البلاد.
في التشيك عام 1989، وبعد أيام من سقوط جدار برلين، اجتمع الآلاف من الطلاب على أطراف ساحة وينتشسلاس في براغ وبدؤوا بالغناء: “ليس بحوزتنا أي أسلحة ….. العالم بأسره ينظر”. تعرض الطلاب للضرب بقسوة من قوات حفظ النظام، إلا أن الحركة واصلت تصعيدها وبلغت أعداد المحتجين خلال أسابيع فقط قرابة النصف مليون إنسان. وبذلك، سقط النظام الشيوعي في التشيك تحت وطأة ما كانت تعرف بالثورة المخملية (أو الناعمة)، ومعه جميع الأنظمة المشابهة في ألمانيا الشرقية، وهنغاريا، وبلغاريا، وحتى منغوليا.
في الفترة ذاتها في إستونيا اجتمع مئات الآلاف من المواطنين في مظاهرات أنشد الناس خلالها أناشيد وطنية كانت تعتبر ممنوعة طوال فترة حكم السوفييت. استمرت “ثورة الأناشيد” أكثر من أربع سنوات تخللها عدد من الاعتصامات ونشاطات العصيان المدني. في عام 1991 شكّل المتظاهرون حواجز بشرية لحماية محطات الإذاعة والتلفزيون من الدبابات السوفييتية ونجحوا في منعها من إحراز تقدم، وبذلك نجحت إستونيا في تحقيق استقلالها دون أي إراقة للدماء.
لاتفيا اتبعت الأسلوب ذاته لتحقيق استقلالها عن السوفييت، ففي عام 1988 أعلنت اثنتان من أهم الأحزاب الساعية للاستقلال عن تشكيل ائتلاف بينهما، ودعا الائتلاف إلى إطلاق حملة عدم تعاون واسعة ضد ممثلي السوفييت في البلاد. في منتصف 1989، شكل المتظاهرون سلسلة بشرية بلغ طولها 600 كم بين مدينتي “تالين” و “ريغا” تعبيراً عن تضامن الشعب اللاتفي لتحقيق أهدافه في الاستقلال.
انطلقت مهرجانات الإنشاد أيضاً في جمهورية ليتوانيا في 1988 تعبيراً عن الرغبة الشعبية لاسترجاع الرموز الوطنية التي دأب السوفييت على منعها خلال أربعة عقود من حكمهم. كانت ليتوانيا أول جمهورية تعلن عن انشقاقها عن الاتحاد السوفييتي ولكن الرد من الروس كان عنيفاً إذ قتل في الموجهات 14 من المتظاهرين السلميين وجرح المئات أثناء تصديهم بصدور عارية لزحف القوات والدبابات السوفييتية إلى المراكز الحساسة في العاصمة فيما عرف بـ “الأحد الأسود”. نجح النشاط السلمي في تجنب المزيد من سفك الدماء واعترف المجتمع الدولي باستقلال الجمهورية في عام 1991.
في بورما بداية عام 1990، قادت المعارِضة “آون سان سو تشي”، وهي رهن الاعتقال في منزلها، مظاهرات حاشدة تطالب بالديمقراطية بعد أن عرض عليها الإفراج عنها مقابل إيقاف الحركة فرفضت. حققت الحركة نجاحات متواصلة وفازت بأغلبية الأصوات في الانتخابات التي عاد العسكر وسرقها بالقوة، إلا أن حركة الشباب هذه حظيت بدعم وتعاطف واسعين من مختلف أنحاء العالم على شكل نشاطات لاعنفية عديدة قام بها ناشطون لدعم هذه الحركة.
في 1999-2000 أطلقت إحدى الحركات الطلابية في صربيا حملة مقاومة واسعة ضد نظام الدكتاتور سلوبودان ميلوسوفيتش ونجحت في هزيمته في صناديق الاقتراع بدعمٍ من مؤسسات ديمقراطية أجنبية وإئتلاف موحد للمعارضة. أبطلت نشاطات الحركة السلمية سلطة قوات الأمن التابعة للدكتاتور بشكل كامل ونجحت حملة الإضراب العام في إنهاء حكم ميلوسوفيتش معلنة عن سقوط آخر الدكتاتوريات في أوروبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى