بلغت المهزلة حدا لم تستطع روح الرائع الجميل جلال عامر الساخرة تحمله، فصعدت إلى بارئها، لقد كان جلال عامر يواجه القبح بالسخرية العميقة، ويستعين على صنوف القمع والبلادة والفشل بكتابة مغرقة فى بساطتها، لكنها موغلة فى الكشف وتعرية مناطق الفساد والسواد فى حياتنا.
إن وطنا تحول إلى «مسخرة» لا يتسع لعذوبة جلال عامر الوارفة، فأنت تحتاج لكميات هائلة من روح المجاملة، وكميات أكبر من السذاجة، كى تقول إنك تعيش فى وطن قام شعبه بثورة مر عليها عام واحد فقط.
تحتاج إلى أن تقطع كل خطوط التفكير فى رأسك كى تصدق أن نظاما قديما سقط، وحل مكانه آخر، أو أن هناك رغبة حقيقية فى التغيير.
ففى الذكرى الأولى للحظة خلع الرجل الذى «تخلى» و«كلف» ستكتشف أنه فقط غير محل إقامته، ومازال يكلف ويكلف، وأن روحه طاغية على كل مظاهر أداء الذين كلفهم ليكونوا حكاما من بعده.
انظر إلى ما حدث فى المحلة الكبرى أمس الأول وتأمل فى الخبر الذى وزعته المصادر الأمنية عن القبض على صحفى أسترالى وطالب بالجامعة الأمريكية وصحفية ومترجمة مصرية بتهمة توزيع مبالغ لتحريض الأهالى على العصيان المدنى، وكنت على وشك أن أطلب منك أن تضع ما شئت من علامات التعجب، غير أن الأمر لا يحتاج، فحينما يزاح الستار عن مسرح عبثى لا مجال للدهشة.
والحاصل أنهم بهذا الأداء الهزيل يجعلوننا نتذكر أيام المخلوع بشىء من الإعجاب، ذلك أنه على الرغم من وحدة المنهج، فإن الكذب والتضليل أيام الذى «تخلى وكلف» كان أجود مصنعية من إنتاج هذه الأيام.
ولو أن صاحب هذه الرواية الأمنية فكر قليلا لعرف أنه يهين مدينة المحلة وسجلها الناصع فى تاريخ نضال الحركة العمالية، ذلك أن المدينة التى علمت الجميع النضال وثقافة الاحتجاج والإضراب لا يحتاج أهلها إلى من يحرضهم، ولا يليق بعاقل أن يتصور أن عمال المحلة الذين أذهلوا العالم على مدار تاريخ الثورات العمالية، وكانوا الشرارة الأولى فى حريق الغضب الشعبى الذى أسقط حسنى مبارك فيما بعد، يمكن أن يتظاهروا مقابل أجرة، أو يعتصموا لقاء مبالغ من هنا أو هناك.. فالتاريخ يقول إنهم ثوار أحرار، وليسوا متظاهرين بالإيجار.
غير أن الأمر لا يخلو من أوجه أخرى للطرافة المؤسفة، حيث يكشف عن مدى تقوقع نظام ما بعد التخلى داخل جلده، فيدفعه وهم المؤامرة الخارجية عليه إلى حالة من خداع الذات والآخرين فيعتبر أن كل مراسل أو صحفى أجنبى محرضا ومخربا.
وليس بعيدا عن ذلك ما جرى فى قناة «التحرير» التى تعرضت لعملية تجريف بشعة، أقصت منها كل الأصوات المحترمة، فى غضون عام واحد فقط على إطلاقها كقناة للثورة المصرية، فبعد خروج محمود سعد وبلال فضل ثم حمدى قنديل، جاء الدور على مؤسس القناة إبراهيم عيسى، وأخيرا عملية الإطاحة بالزميلة دينا عبدالرحمن، لتتحول القناة رويدا رويدا من «التحرير» إلى «العباسية» وهذا كله ليس مقطوع الصلة بحملة لتجفيف منابع إعلام الثورة فى الذكرى الأولى للخلع، بالتزامن مع استعادة إعلام صفوت الشريف وأنس الفقى كامل هيئته وهو يغطى أنباء الدعوة للإضراب والعصيان المدنى.
ولو مددت البصر إلى الجنوب ستجد لقطات رجل البلوفر فوق صهوة حصان أبيض بينما أنصاره يوزعون البونبونى، وتهديده بأن «العسكرى» يمكنه فض المظاهرات بالقوة، والذى لا تغيب عنه رائحة تحريض على العنف، وأساه على من سقطوا وقتلوا من الخيالة الذين انقضوا على الثوار فى موقعة الجمل.
ولو فكرت فى الأمر جيدا لأدركت أن الثورة بالنسبة لهم ليست أكثر من إجازة لمدة سنة فقط بدون مبارك، غير قابلة للتجديد.
رحم الله الكاتب الكبير قائد كتيبة المقاومة بالكتابة جلال عامر.. وحمى مصر من حكامها الساخرين!
البديل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى