هناك دول غير محظوظة بموقعها الجغرافى؛ لأن الجغرافيا السياسية هى «أنبوبة توصيل» للصراع إن توافرت أسبابه وعناصره، وهى «أنبوبة توصيل» للتعاون إن توافرت أسبابه وعناصره، ولفهم العبارة السابقة، تعالوا حضراتكم نرجع للموقع الجغرافى لدولتى كوريا الشمالية والجنوبية حيث إنهما قد ابتليتا بوجودهما بين الصين واليابان، إن دخلت الدولتان فى الصراع، فالفائز من الناحية العملية هو من يحتل شبه الجزيرة الكورية، وهناك كذلك بولندا كحلبة للصراع بين ألمانيا وروسيا ثم الاتحاد السوفيتى، فما حدثت حرب بين ألمانيا وروسيا إلا ودفعت بولندا الثمن، قارن بين هذين النموذجين والموقع الجغرافى لدولة مثل إسبانيا التى تجنبت العديد من الحروب فى أوروبا عبر قرون عديدة لبعدها عن مراكز الصراعات.
مصر من الدول التى طالما تغنى المصريون بمزية موقعها الجغرافى، والحقيقة أننى أضع هذه المقولة فى ضوء ما بدأت به هذا المقال؛ فالتقارب الجغرافى، بل التجاور، مع دول تتوافر أسباب الصراع معها يتحول إلى ضريبة تُدفع وليس عائدا يُجمع، بل إن جزءا من تدمير المشروع الإمبراطورى لمحمد على ارتبط مباشرة بالموقع الجغرافى، وهو ما ينطبق على المشروع الناصرى.
إذن هذا هو المعطى الأول فى المشهد الجيو-استراتيجى لموقع مصر الجغرافى، والمعطى الثانى هو النشاط الكثيف وفائض الحيوية الملحوظ فى أنشطة قوى تخريبية وإرهابية بما يتقاطع مع المعطى الثالث وهو التراجع الملحوظ فى مناعة مؤسساتنا الأمنية والمخابراتية وتشتت جهود القوات المسلحة بين مهام متنوعة هى لم تكن معدة أو مدربة لها بالأساس. وتكتمل المعطيات بالتذكير بأنه قد سبق استشهاد جنودنا فى 5 أغسطس العديد من العمليات التخريبية من قبيل تفجير خط الغاز المصرى إلى إسرائيل فى يوليو الماضى للمرة الخامسة عشرة بعد ثورة 25 يناير، ومن المعطيات التى لا يمكن تجاهلها أن إسرائيل تصطاد فى الماء العكر من خلال خلق صورة ذهنية عن سيناء وكأنها «تورا بورا» أو «كوردفان» حيث تعجز السلطة المركزية المصرية عن بسط كامل سلطانها عليها، ومن ذلك تصريحات مسئولين إسرائيليين فى 17 يونيو الماضى بأن صاروخين سقطا على إسرائيل أطلقا من صحراء سيناء المصرية، وفى 30 أبريل يطالب وزير الدفاع الإسرائيلى إيهود باراك المسئولين المصريين باحتواء ما وصفه بالفوضى فى شبه جزيرة سيناء: «إذا ما أرادوا المحافظة على السلام مع إسرائيل»، ويأتى ذلك بعد نحو أسبوع من حديث رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو عن أن شبه جزيرة سيناء أصبحت خالية من سيادة القانون، وقد أشار الاثنان إلى مخاوف إسرائيل مما يحدث فى سيناء على أمنها، وفى 4 أبريل يقول رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو يقول إن سيناء تحولت إلى قاعدة للإرهابيين ويتعهد بالتوصل إلى حلول ناجعة توقف الصواريخ التى تسقط على الأراضى الإسرائيلية من سيناء.
وفى آخر فبراير 2012 يعلن الجيش الإسرائيلى للعالم أن قواته قتلت مسلحا فى تبادل إطلاق نيران مع مجموعة مسلحة تسللت إلى إسرائيل عبر الحدود مع مصر، وأشار بيان الجيش إلى أن بقية أفراد المجموعة لاذوا بالفرار إلى الأراضى المصرية، وفى 18 أغسطس 2011 تعلن إسرائيل عن مقتل ثمانية إسرائيليين فى هجوم جاء منفذوه من شبه جزيرة سيناء فضلا عن مقتل نحو خمسة من أفراد الأمن المصرى خلال ملاحقة المسلحين، وبعدها تعلن وكالات الأنباء العالمية عن مسئول فى الاستخبارات المصرية فى 26 آب/أغسطس أنه تم التوصل إلى اتفاق مبدئى بين مصر وإسرائيل يقضى بزيادة عدد الجنود المصريين فى سيناء لتعزيز الإجراءات الأمنية.
وغير ذلك كثير، وما السرد إلا لتوضيح الصورة المنقولة للعالم الخارجى.
هذه كانت المعطيات، ولنبدأ التحليل:
هذه المعطيات تؤكد أن هناك إرادة إسرائيلية تريد تصدير صورة عن مصر وأنها دولة «فاشلة أمنياً» وأن سيناء أرض ينبغى أن توضع تحت الحماية الدولية؛ لأن مصر غير قادرة على الحفاظ على التزامها بمنع وردع من يستغل الأراضى المصرية لتهديد جيرانها.
وفى العالم الغربى سمّاعون لهم، وسواء كانت إسرائيل تريد أن تخلق فجوة بين مصر وجيرانها فى غزة أو أرادت قوى عربية مدعية الجهاد أن تضرب إسفيناً بين مصر وإسرائيل، فالنتيجة واحدة وهو أن «سيناء التى رجعت كاملة لينا» تضيع منا مرة أخرى.
لا مجال للتشكيك فى وطنية أحد؛ ولكن أهالينا فى سيناء عليهم تجاهنا واجب أن يرد المحسن منهم المسىء وعلينا تجاههم أن يستشعروا أنهم ليسوا أقل من غيرهم.
وعليه فأنا أقترح رسم استراتيجية جديدة للتعامل مع سيناء التى عادت بالدم وها هى تضيع بالغفلة.
أولاً: لا بد من انتشار الجيش الثانى فى شمال ووسط سيناء بغض النظر عن اتفاقية السلام وما فيه من قيود ولنتفاوض لاحقا على أى ترتيبات أمنية وتوقيع أى ملاحق جديدة، لكن الوضع الراهن لا يسمح بأن نتبنى نفس المنطق الحالى ونتوقع نتائج مختلفة لا سيما أن عمليات خطف السائحين وتهريب الأسلحة والأشخاص وفرض الإتاوات يعنى أن معضلة غياب الأمن ستفتح علينا مشاكل مضاعفة بسبب «الجيرة المهببة» التى وقعنا فيها، وانتشار الجيش لا يعنى الوجود السلبى وإنما الاشتباك الفعلى مع مصادر التهديد المختلفة بكل جرأة وردع.
ثانياً: لا بد من تفعيل الفكرة القديمة بتكليف وزير دولة لشئون المحافظات الحدودية وفى القلب منها سيناء، هذا الوزير سيقوم بالمهام التنسيقية اللازمة ويجعل قضايا الحدود وعلى رأسها سيناء على أجندة النقاش فى كل اجتماع لمجلس الوزراء أسبوعيا.
ثالثاً: آن الأوان لفتح المعابر وإغلاق الأنفاق على النحو الذى يضمن وجود منطقة حرة للسلع المعمرة بين مصر وأهالينا فى غزة، ولكن فى نفس الوقت لا بد من تحميل إسرائيل، كدولة احتلال، مسئوليتها عن الغذاء والطاقة فى غزة، وهو ما يتطلب تحركا دبلوماسيا عربيا مكثفا، وعلى أقل تقدير أن تقدم المساعدات الاقتصادية اللازمة لمنع كارثة إنسانية فى غزة.
رابعاً: لا بد من التنسيق بين أهلنا من شيوخ وكبار القبائل فى سيناء مع الوزير المختص بشئون سيناء ومع المحافظين والمسئولين الأمنيين لضمان أن يضطلع هؤلاء بمهامهم الوطنية حتى لا نخسر جميعا هذا الجزء الغالى من أرض الوطن.
خامساً: بعد ارتفاع معدل الأمن، على الحكومة أن تفكر جديا فى تقديم عفو ضريبى لمدة 10 سنوات لأى مصنع يقام فى سيناء حتى يحدث التوسع العمرانى فى وسط وشمال سيناء مثلما كان الحال فى جنوبها.
سادساً: تغليظ عقوبة تهريب السلاح وخطف السائحين وقطع الطرق على نحو رادع حتى لا يضيع كل ما سبق هباء.
سابعاً: حل مشكلة حق أهالينا فى سيناء فى الانتفاع طويل المدى بالأراضى؛ مع وعد بالتملك دون حق إعادة التصرف؛ ليس تخويناً ولكن لحساسية الوضع هناك.
هذه بداية الاجتهاد وليست النهاية؛ ومن جاء بخير من هذا قبلناه وتعاونا عليه.. سيناء فى خطر وأهلها يئنون ونحن فى غفلة منهم، وبعد أن استعدناها بالدم والتخطيط، فلا ينبغى أن نضيعها بالغفلة والعشوائية.
يسلم هذا المقال إلى يد الدكتور محمد مرسى وفريق عمله.
سيناء: عادت بالدم وتضيع بالغفلة - معتز بالله عبد الفتاح
قسم الأخبار
Wed, 08 Aug 2012 11:19:00 GMT
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى