ثورة أم تغيير شكلي؟
الرئيس والإخوان وحزب الحرية والعدالة أحزاب المعارضة
شباب الثورة
تشهد الساحة السياسية المصرية توترا مستمرا منذ انتخاب الرئيس مرسي واستلامه السلطة في بداية يوليو/تموز الماضي، لم تفلح في إيقافه أو كبح جماحه كل المحاولات والمبادرات حتى الآن.
ومع كل منعطف تمر به الثورة المصرية، ومع كل مرحلة من مراحل التوتر السياسي أو الأمني منذ يوليو/تموز الماضي وحتى الآن، تظهر الدولة العميقة في ظلال المشهد، ويطل السؤال المتكرر حول ما حدث في مصر: هل هو ثورة أم مجرد تغيير شكلي؟ هل أسقط رأس النظام واستمرت آلياته وممارساته وأجهزته؟ وما دور "الدولة العميقة" في كل ما يجري؟
ثورة أم تغيير شكلي؟
قد تغري طبيعة الاستقطاب الحاصل في مصر الآن بطرح السؤال الحدي السابق، والإجابة عليه أيضا بصورة حدية، من خلال القول إن ما حدث هو ثورة ناجزة، أو بالانحياز إلى موقف القائلين بشكلية التغيير الذي تم إنجازه في ثورة 25 يناير. ولكن البحث العميق في حقيقة ما يجري يغري أكثر بالابتعاد عن هذه الثنائيات المفتعلة التي لا يمكن أن تصلح للتطبيق في عالم السياسة في الأوضاع الطبيعية، فما بالك بالمراحل الانتقالية المعقدة، كالتي تمر بها مصر الآن!
لقد قام الشعب المصري بكل فئاته بلا شك بثورة عظيمة، استطاعت أن تسقط رأس النظام المستبد ممثلا في رئيسه، وأتبعته بإسقاط بعض الهياكل والأجهزة والشخصيات، كمجلسي الشعب والشورى، ومجالس إدارات ورؤساء تحرير الصحف وغيرها من وسائل الإعلام القومية، ثم غيرت كثيرا من الوجوه التي تتربع على قيادة المشهد العسكري والأمني منذ عقود، قبل أن تتكفل -بواسطة الرئيس المنتخب- بإنهاء الدور المباشر والفعلي للجيش في السياسة، بعد تحكمه بها لأكثر من ستين عاما.
"
رغم أهمية التغييرات الجذرية في مصر، وانتفاء صفة التغيير الشكلي عنها، فإنها لا ترقى ليطلق عليها وصف الثورة الكاملة، لأنها لم تنجز بعد عملية التخلص من الدولة العميقة
"
ورغم أهمية هذه التغييرات الجذرية وانتفاء صفة "التغيير الشكلي" عنها، فإنها لا ترقى ليطلق عليها وصف "الثورة الكاملة"، لأنها لم تنجز بعد عملية التخلص من آليات الدولة العميقة، فضلا عن أجهزتها وهياكلها وتشكيلاتها الرسمية وغير الرسمية، التي تظهر آثار نشاطاتها المدمرة في كل الأحداث الساخنة على الساحة المصرية.
لقد قررت كافة القوى المصرية تقريبا يوم 11 فبراير/شباط 2011 أن تنهي مسيرة الثورة بمعناها الشامل والمستمر عند حد إسقاط الرئيس مبارك، والانتقال إلى مرحلة استكمال الثورة تدريجيا وبنفس طويل في ظل إدارة المجلس العسكري للفترة الانتقالية، بدلا من الاستمرار في فعاليات الثورة بنفس الزخم الكبير المتصاعد إلى حين إسقاط حكم المجلس العسكري وتشكيل قيادة مدنية-عسكرية ثورية مشتركة لإدارة مرحلة الانتقال الديمقراطي، بعيدا عن سيطرة مجلس تأسس وعمل تحت عين مبارك، ووفق عقيدة مبارك السياسية والأمنية.
وكان اتخاذ هذا القرار بدون تنسيق أو اتفاق بين القوى السياسية والثورية المختلفة، بل لعله جاء نتيجة طبيعية لمسار الأحداث التي كانت ثورة سلمية بلا رأس وبلا قيادة عسكرية، وهو ما يعني أن أحدا لم يكن قادرا على التحكم بقرار استمرار الثورة أو إيقافها، بل إن حجم الرضى الشعبي الكبير عما تم تحقيقه، وتراجع حجم الزخم الثوري القادر على الاستمرار في ساحات الاعتصام والتظاهر، هو من تكفل عمليا بإيقاف الثورة عند حد إسقاط مبارك، والبدء بالانتقال إلى التحول الديمقراطي الذي لا بد من عبوره للطريق المعبدة بأشواك الدولة العميقة، ممثلة في جيشها ومؤسساتها البيرقراطية، وقضائها وأجهزتها الأمنية، وتشكيلاتها "العصابية" الخفية التي تعرف في مصر باسم "البلطجية".
بالطبع كان هناك أطراف شبابية ثورية غير مندرجة في العمل السياسي الحزبي المنظم تطالب باستكمال الثورة، وبضرورة إسقاط المجلس العسكري، ولكن هذه القوى الشبابية لم تكن قادرة على تحريك الشارع بالقدر الذي يمكن أن يسقط نظاما أو يستكمل ثورة، كما أنها كانت تتراجع بين فترة وأخرى، وتقبل بالانضمام إلى مسار الثورة "غير المكتملة" بوعي أو بدون وعي، من خلال مشاركتها في بناء المؤسسات المنتخبة التي يفترض أن تتابع استكمال الثورة بالطريقة التي ارتضتها القوى السياسية.
ولكن الأمر الأكثر أهمية في هذا الإطار، هو أن الثورة الكاملة كانت تعني -كأي ثورة كاملة- أعواما من العسكرة والقتال والدماء والمحاكم الثورية، وسنوات طويلة من التوترات والقلاقل التي تفوق تضحياتها كل ما تشهده الساحة المصرية الآن بأضعاف كثيرة، إذ إن الحفاظ على "مؤسسات" الدولة العميقة في فترات التحول الديمقراطي -في أي بلد- يخفف من حجم التوترات والضحايا، رغم إعاقته لخطوات التغيير الحقيقي، ومساهمته بشكل جوهري في إطالة المراحل الانتقالية قبل الإنجاز الكامل لأهداف الثورة.
وإذا أمكننا القول إن القبول بمسار الثورة غير المكتملة في مصر كان محل اتفاق بين القوى السياسية المختلفة، فإن الانتصار على أهم مظهر سلبي من مظاهر عدم اكتمال الثورة ممثلا في "الدولة العميقة"، لا يمكن أن يتم دون تعاون جميع القوى السياسية، سواء أكانت في السلطة أو في المعارضة أو في الصف الثوري غير المنظم، إذ إن لكل طرف من هذه الأطراف دورا حاسما في المعركة الطويلة ضد الدولة العميقة.
الرئيس والإخوان وحزب الحرية والعدالة
يخطئ الإخوان وحزب الحرية والعدالة إذا ظنوا أن وصول مرسي إلى مقعد الرئاسة يعني نهاية الدولة العميقة، ويخطئ الرئيس إذا ظن أنه قادر بمفرده وبحزبه وجماعته على هزيمة أجهزة وآليات هذه الدولة، التي وصفها في أكثر من مناسبة بالثورة المضادة المكونة من عدد صغير من أعضاء النظام السابق، وهو وصف غير دقيق لأجهزة متغلغلة في كل مفاصل الحياة السياسية والأمنية والبيروقراطية المصرية، وليس مجرد أفراد.
ونظرا لحجم هذا التحدي فإن على الرئيس أن يوسع دائرة تحالفاته السياسية، وهذا ما فشل فيه الرئيس حتى الآن لأسباب تتعلق بالرئاسة من جهة، وبالمعارضة من جهة أخرى، وهو ما يجب أن ينتبه إليه مرسي قبل فوات الأوان، ويسعى إلى تطويقه عبر طرح مبادرات تساهم في حل الأزمة مع المعارضة، وعبر تفعيل مؤسسة الرئاسة التي أظهرت أزمة الإعلان الدستوري الصادر يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 وغيرها من الأزمات أنها لا تعمل بشكل فعال، إذ بدا الرئيس منفردا في قرارات مصيرية، دون استشارة متخصصين مثل نائبه المستشار محمود مكي ووزير عدله المستشار أحمد مكي، في مسألة هي في عمق تخصصهما.
"
غياب التوافق الوطني على أسس سليمة سيؤدي إلى واحد من سيناريوهين كارثيين: إطالة أمد المعركة مع الدولة العميقة, واضطرار الرئيس للتحالف مع الدولة العميقة في مواجهة حلفاء الثورة السابقين
"
قد يقول البعض إن من حق الرئيس أن يتخذ القرارات وفق الرؤية التي يراها مناسبة، وهذا صحيح من الناحية النظرية، ولكن فترات التحول الديمقراطي تتطلب توسيع دائرة اتخاذ القرار حتى تتمكن الأطراف التي كانت تحت سقف الثورة قبل عامين من الانتصار على الدولة العميقة، الأمر الذي لم تتمكن الرئاسة من تنفيذه حتى الآن، مما جعلها تخسر بعض المعارك أمام أجهزة هذه الدولة، مثل معركة إعادة مجلس الشعب التي تراجع فيها الرئيس أمام أحد أهم قلاع الدولة العميقة ممثلة في المحكمة الدستورية، بينما كلف انتصار الرئيس في معركة الإعلان الدستوري ثمنا باهظا من الاستقطاب والدماء والفوضى والإساءة إلى هيبة مرسي وشرعيته.
إن غياب التوافق الوطني على أسس سليمة سيؤدي إلى واحد من سيناريوهين كارثيين: أولهما إطالة أمد المعركة مع الدولة العميقة بما يعطل تحقيق أهداف الثورة ويطيل الفوضى ويوقف عجلة الإنتاج، وثانيهما اضطرار الرئيس للتحالف مع الدولة العميقة في مواجهة حلفاء الثورة السابقين، الأمر الذي يعني خسارة كبيرة للرئيس ولرفاق الميادين ولأهداف الثورة على حد سواء. ولذلك فإن الرئيس مطالب باستخدام الرمزية العالية لمنصب الرئاسة في مصر، لإعادة المواجهة مع الدولة العميقة إلى سياقها الطبيعي.
أما حزب الحرية والعدالة فإن عليه دورا مهما في محاربة الدولة العميقة، ومع ذلك يبدو غائبا عن لعب هذا الدور، فقد بات منذ انتخاب مرسي متماهيا بشكل خطير مع الرئاسة، لا يمتلك المبادرة، ومجرد تابع لخطوات وقرارات الرئيس، يؤيدها في الشارع، ويدافع عنها في الإعلام، ويمثلها في جلسات الحوار الوطني، بينما يغيب هذا الحزب عن إطلاق أي مبادرة سياسية مثلا لحل أزمة الحوار بين الرئاسة وجبهة الإنقاذ، ويغيب كذلك عن المساهمة في توحيد صفوف القوى الوطنية في معركتها مع الدولة العميقة، إذ لم نسمع باسم الحزب عن أي مبادرة سياسية باستثناء اللقاءات القليلة التي أجراها رئيسه سعد الكتاتني مؤخرا مع محمد البرادعي وعمرو موسى.
وإضافة إلى غياب مبادراته، يرتكب الحزب خطأ جسيما يساهم في إطالة المعركة مع الدولة العميقة، وذلك من خلال دفاعه الغريب عن بعض ممارسات أجهزة هذه الدولة دون تمحيص، مثل الدفاع المتسرع عن بعض ممارسات الداخلية، متجاهلا أنها ليست وزارة الثورة ولا وزارة الحزب أو الإخوان، بل هي مؤسسة من أخطر مؤسسات الدولة العميقة التي يجب العمل طويلا على إصلاحها، قبل الدفاع عنها.
إن حزب الحرية والعدالة يجب أن لا يتقمص سريعا صورة الحزب الحاكم كما يحدث في الديمقراطيات الناجزة، بل عليه المساهمة في تسريع عملية التحول الديمقراطي عبر الابتعاد عن التورط في الدفاع عن مؤسسات الدولة العميقة، إضافة إلى لعب دور وطني في التوفيق بين الأحزاب والقوى المختلفة من جهة، وبين مؤسسة الرئاسة من جهة أخرى.
أحزاب المعارضة
ترتكب المعارضة المصرية -وعلى رأسها جبهة الإنقاذ- مجموعة من الأخطاء السياسية التي تساهم في تعقيد المعركة ضد الدولة العميقة وإطالة أمدها بشكل كبير. وأول هذه الأخطاء هو المطالبة بنوع غريب من التوافق الوطني، هو التوافق القائم على تحقيق كل مطالبها من قبل الرئيس مرسي والأحزاب التي أيدته في عدة معارك سياسية، الأمر الذي يتنافى مع مفهوم التوافق السياسي القائم أصلا على تقديم كل طرف تنازلات معينة للطرف الآخر للوصول إلى حلول وسط.
لقد أدى إصرار الأحزاب المعارضة على تحقيق كافة مطالبها إلى الفشل في تحقيق أي نوع من التوافق بين القوى المختلفة حتى الآن، وبالتالي تقديم خدمة مجانية للدولة العميقة التي تواجه الرئيس مرسي منفردا الآن، وقد تدفعه إذا استمرت المعارضة في عنادها إلى التحالف مع هذه الدولة، وهو ما سيضر الرئيس والمعارضة والوطن قبل كل شيء.
أما الخطأ الآخر الذي ترتكبه المعارضة، فهو تغافلها عن الوقائع السياسية التي تفرضها الانتخابات على الأرض، ويبدو هذا واضحا برفضها المستمر للدستور رغم حصوله على تأييد قرابة ثلثي المصوتين، وبحديثها المتكرر عن تآكل شرعية الرئيس مرسي، وبمنازعتها الرئيسَ حقه في ممارسة بعض السلطات التي يمتلكها بحكم الدستور، مثل تشكيل الحكومة وتبني سياسات اقتصادية معينة. صحيح أنه من الجيد أن يحصل الرئيس على توافق وطني لممارسة هذه الصلاحيات في الفترة الانتقالية، ولكن عدم التوافق عليها لا يحرمه حقه من ممارستها كما تطالب المعارضة في بعض الأحيان.
"
المعارضة مطالبة باحترام ما تفرزه الانتخابات، والتعامل مع مفهوم التوافق بطريقة واقعية، وإنهاء شبهة التحالف مع أي طرف من أطراف الدولة العميقة
"
ولعل الخطأ الأشد خطورة هو تحالف هذه المعارضة مع بعض أطراف الدولة العميقة، ودفاعها عنها في مواجهة الرئيس، كما حدث في دعمها لنادي القضاة وبعض المحسوبين على المؤسسات القضائية التي عملت طويلا لخدمة نظام مبارك، وهو ما يضيف عبئا جديدا على الرئاسة في معركتها المستمرة لهزيمة الدولة العميقة.
كما أن هذه المعارضة تطيل أمد التحول الديمقراطي عبر تقديمها غطاء سياسيا لبعض مظاهر العنف التي قد يكون جزء منها نتيجة لغضب فئات معينة من تأخر نتائج الثورة، ولكنها في نفس الوقت تتيح المجال لتسرب "بلطجية" الدولة العميقة إلى ساحات الاحتجاج وتخريبها من الداخل.
إن المعارضة مطالبة إذن باحترام ما تفرزه الانتخابات، وبالتعامل مع مفهوم التوافق بطريقة واقعية، وبإنهاء شبهة التحالف مع أي طرف من أطراف الدولة العميقة، وإلا فإنها ستكون سببا في منع أو تأخير تحقيق أهداف الثورة.
شباب الثورة
كان معظم شباب الثورة من المدافعين عن فكرة استكمال الثورة، ولكنهم لم يمتلكوا الأدوات لتحقيق هذا الحلم، ولم يتمكنوا من مواجهة الظروف الموضوعية التي منعت الوصول إلى ثورة كاملة. ومع ذلك فإن وجودهم دائما في خلفية المسرح السياسي، أمر ملح لاستكمال تحقيق أهداف الثورة المشروعة.
إن المواجهة مع الدولة العميقة تتطلب وجود هؤلاء الشباب كحراس للثورة، واستمرار ممارستهم للنقد السياسي المتمرد، ومتابعة دورهم في محاولة رفع الخطوات الواقعية لتصل إلى ملامسة أحلام الثورة.
ورغم ارتكاب هؤلاء الشباب لبعض التجاوزات في الخطاب السياسي الذي تعودت عليه القوى الحزبية المحافظة، فإن استمرار الزخم الثوري الذي يمثلونه سيظل دائما ضروريا حتى الوصول إلى تحقيق شعارات الثورة، التي رفعوها يوما ما سويا مع القوى التي تمارس السياسة الآن وتبتعد شيئا فشيئا عن الثورة، سواء أكانت في الحكم أو في المعارضة.
المصدر:الجزيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى