بقلم : الأثنين ١٧ يونية ٢٠١٣19:30:27 مساءاً
عدد المشاهدة : 759
لا يمكن لأي طرف أن يري المشهد الحالي إلا أن يشعر بالحيرة والأسي، فبدلا من التفاؤل الكبير والهمة العالية التي بزغت بعد ثورة مجيدة طاهرة إذا بالأحداث تنحو بالتدريج إلي احتقانات وخصومات وثارات تتغلب علي عناصر الأمل ليحل بدلا منها اختناقات سياسية ومواجهات حزبية ومصادمات فئوية، وتكاد اللحظة التاريخية التي أتاحها لنا الله بأقداره الحسنة أن تفلت من بين أيدينا إن لم نحرص عليها وننتبه إلي خطورة ما نحن مقبلون عليه.
ربما أكبر المخاطر التي تحيط بنا هي تهويل بعضها والتهوين من بعضها الآخر، بحيث أن كل دورة من دورات الاحتقان تظهرها أوهامنا وكأنها جبال توشك أن تنهار علي رءوسنا، بينما أن دورات الاحتقان بعد الثورات والتقلبات السياسية والأداء الحكومي الهزيل وميل البعض للمواجهة في الشوارع بدلا من الذهاب لصناديق الانتخابات وتربص كل طرف بالطرف الآخر وتقلب المواقف السياسية دون معيار واضح وارتفاع الصريخ السياسي فيما يستحق النقاش الهادئ ؛ كل ذلك هو تبعات طبيعية لأي ثورة، وليست بالضرورة محاولة لطرف أن يستأثر بالحياة السياسية وإقصاء الباقين ولا هي محاولة لترتيب ثورة مضادة تُطيح بالسلطة المنتخبة.
الأمر الثاني، يتعلق بمفهوم البدائل، فلا يمكن أن تكون القوي التي حازت شرعية الثورة بديلا عن بعضها، لأنها في مجموعها تمثل النظام الجديد والذي لم تكتمل خطوات بنائه بعد، وهذه القوي لا يُتصور أن تفوز علي بعضها في مواجهات الشارع، لسبب بسيط لأن من سيفوز هو طرف ثالث، يتهيأ ليجني ثمار اختلاف أبناء الثورة وتصارعهم. ولقد أزعجني كثيرا أن أقرأ لكتاب مرموقين محسوبين علي النظام السابق، وقوي كارهة للثورة أنها تسعي لبديل للنظام السياسي الجديد بأكمله، وتسعي لإزاحة من يحكم ومن يعارض، دون تمييز، لكونهم جميعا ينتمون لنفس الشرعية وهي شرعية الثورة. وربما هذا بالضبط ما يحتاج الطرفان أن ينتبها إليه، بأن وجودهما معا هو شرط لاستمرار هذه الثورة ونجاحها، وأن أعداءها يبنون كل استراتيجيتهم علي تخاصم الفريقين.
ولا أود الخوض كثيرا بشأن الخصومة الوهمية بين الإسلام السياسي والتيار الليبرالي بشقيه ؛ فالحقيقة أن التأمل في البناء الفكري لكل منهما لا يجعلهما بعيدين سوي في التطبيقات المتعلقة بأنماط الحياة، بينما أن تطلعات الفريقين المتعلقة بديموقراطية الدولة وتداول الحكم وبناء نظام اقتصادي يتسم بالعافية واستعادة الدور القومي والإقليمي للدولة المصرية، هي مسلمات تسمعها من الليبرالي والإسلامي دون تمييز. كما أن محاولة إسقاط الخصومة التاريخية في تركيا بين الإسلاميين والليبراليين هو أمر مغرض لأن روح الاجتثاث التي تميزت بها الليبرالية التركية، والتي جعلتها فريدة في مفهوم العلمانية مقارنة حتي بأكثر الدول علمانية في أوربا، هذه الروح غير موجودة لدينا ؛ بل إن التاريخ النضالي للإسلام السياسي والليبرالية المصرية منذ قرنين من الزمان يجعلهما شركاء لا خصوما، بغض النظر عن الحوادث الاستثنائية التي يثيرها هذا أو ذاك.
أما المخاطر التي يستهين بها البعض، بينما هي مخاطر حقيقية، فهي تربص المستفيدين من النظام القديم بالثورة وبكل من ينتمي إليها، سواء كان إسلاميا أو ليبراليا، فالصراع السياسي بين من ينتمي للثورة ومن يعارضها لا يعتمد علي اختلافات فكرية كالتي بين الإسلاميين والليبراليين، وإنما يعتمد علي خلاف في المصالح وفي مفهوم رعية الحكم، فالبعض ينظر لمصر باعتبار أنها كانت ملك يمينه، ثم فجأة أتي هؤلاء من المعتقلات والمقاهي والصالونات الفكرية والشوارع الخلفية ليحرموه من ملكه. ويتحول خطر المستفيدين من النظام السابق إلي درجة داهم بمجرد أن يصل الخلاف بين أجنحة الثورة لدرجة المواجهات في الشارع، إذ أن حصرا سريعا للفريقين المتواجهين سيكشف أن أعلي الأصوات الداعية للحرب هي الأصوات اللاعنة للثورة والتي أُضيرت منها وتتمني زوالها وزوال كل من ينتمي إليها.
والخطر الثاني الداهم هو ذلك الجار المستأسد بمساندة النظام الدولي له، وربما سمع البعض حديث رئيس مخابراته ومدي سعادته التي لم يستطع أن يخفيها بهذا الشجار بين رفقاء الثورة المصرية، لأن ذلك سيكون عائقا، كما يرجو بخياله المريض، يحول بين تحول مصر من حالة التهميش والتبعية التي عاشتها إلي حالة الحرية والاستقلال في الإرادة واسترداد العافية التي تستحقها وتقدر عليها.
وآخرا، وليس أخيرا، فإن سد الألفية الإثيوبي ليس سوي رسالة من النظام الدولي بأن جسد الدولة المصرية هو فريسة هائلة يتمناها كثير من الضباع، وأن من ثار لأجل استرداد عافية هذا الجسد هو نفسه الذي ينتظر الضباع منه أن يكون سببا في سقوطه واخواره.
وأمام هذه المخاطر فإن أبناء الثورة يحتاجون لتأمل المستقبل ووضع خلافاتهم التكتيكية في إطارها الصحيح، فإن اختلاف البعض مع الرئيس في سياساته والحكومة في أدائها الضعيف لا يعني السعي لإسقاط المشهد أملا في بناء مشهد غيره، فمجرد حدوث ذلك، فيما لوحدث، سيجعل الأمر يفلت تماما من يد كل أبناء الثورة لصالح مستفيدي النظام القديم. والحل هو أن يكون التغلب علي مشكلات بناء النظام السياسي بسرعة استكمال مؤسساته، لأن استكمال تلك المؤسسات هو القادر وحده علي وأد آمال الحالمين بعودة النظام القديم، وفي ذات الوقت سيسهم في رسم طريقة التغيير الديموقراطية عبر انتخابات راقية لا تشوبها شائبة تدخل أو تلاعب، ومنع أي فريق من اعتماد طريقة أخري غير طريقة الانتخابات للتغيير وحصر مفهوم الشرعية في الإرادة الشرعية دون سواها.
ففي اللحظة التي يستكمل فيها الشعب برلمانه وحكومته التي تعكس الأغلبية البرلمانية، فإن الخلافات مهما اشتدت بين القوي السياسية لن تهدد مستقبل هذه الدولة، كما هي الآن. ولا ينفي ذلك حدوث أضرار للتحول الديموقراطي وتحمل بعض الآلام لأن بناء دول قوية لا يكون بلا ثمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى