بقلم : سعد محيو - بيروت- swissinfo.ch
يُخطِئ مَن يعتقِد أو يراهن، على أن إطاحة الرئيس محمد مرسي، ستعني بداية النهاية لجماعة الإخوان المسلمين المصرية. صحيح أن خسائر الجماعة كانت فادِحة على كل الصّعد، حتى قبل "الانقلاب العسكري - الشعبي" عليها، حيث عجزت عن الإثبات أنها غيْر قادرة وهي في الحُكم، على بلْوَرة إجماع وطني جديد حول دولة وطنية جديدة؛ وصحيح أن أحداث الأسابيع الأربعة، أثبَتت تراجُعاً كبيراً في قُدرتها على التَّعبِئة والمقبولية الشعبييْن، إلا أن الصحيح أيضاً، أن هذه الجماعة لم تمُت طيلة 80 سنة من القمع والعمل السرّي، ولن تموت الآن، على رغم مِحنتها الكُبرى الراهنة.
لكن السؤال الكبير الآن هو: كيف ستتفاعل الجماعة من داخلها مع هذه المفاجأة السريعة الكبرى، التي نقلتها من جنّة الحُكم والسلطة، إلى جهنّم السجون والاعتقالات والملاحقات(مجدّداً)؟
ثمة سيناريوهان هنا: الأول، أن تؤدّي ردود الفعل الغاضِبة والانفعالية على الانقلاب الشعبي – العسكري، إلى تضخيم مشاعر الاضطهاد والظّلم لدى قادة الجماعة وقواعدها، الأمر الذي قد يسهِّل إعادة إنتاج الظاهرة القطبية (من سيد قطب) فيها والدّاعية إلى تكفير الدولة والمجتمع والعودة إلى العمل السرّي والعنفي.
والثاني، حدوث تفاعلات وتمخّضات تنظيمية حادة داخل الجماعة، ربما تشمل في مرحلة لاحقة ما، حتى انشقاقات وتصدّعات، ما يساهم في انتقال أجنِحة فيها من الحالة الإسلامية الأربكانية التركية المتشدّدة، التي أرساها الزعيم الإسلامي التركي نجم الدّين أربكان وسقطت على يد الجيش أيضاً عام 1997، إلى الحالة الأردوغانية الليبرالية التي تَصالَح في إطارها الإسلاميون الجُدد الأتراك مع كلٍّ من الحداثة الفكرية والمادّية ومع مفهوم الدولة الوطنية.
وربما يبرز أيضاً سيناريو ثالث، قد يكون أسوأ من الأول، تعجز فيه الجماعة عن فهْم الدّرس الأساسي لفشَل تجرِبتها في السلطة، وهو أنها بقيت تنظيماً مُغلقاً على نفسها حتى بعد أن باتت مسؤولة عن 85 مليون مصري، وليس فقط مليوناً من الأعضاء المُلتزمين. وحينها، ستتمسك الحركة بتركيبتها السرّية، مع العمل لاحقاً على المشاركة المحدودة في العمل السياسي تحت شعار "المشاركة لا المُغالبة" الشهير، الذي طبّقته طيلة العقود الثلاث من الحُكم السُّلطوي للرئيس حسني مبارك.
غرفة التحرير عبارة عن قاعتين صغيرتين بهما ثلاثة حواسب متقادمة. ومَن يدخل من الزوار، يُستقبل بكوب شاي أو قهوة أو كأس من الماء أو قنينة كوكاكولا. وعلى الجدران في إحدى الزوايا، عُلّقت ثلاث خوذات واقية، والعديد من الأقنعة الواقية من الغازات، والسترات الواقية من الرصاص. هذا هو الواقع اليومي لدى يومية
الخيار الأردوغاني
أي السيناريوهات الثلاثة سيكون الأقرب إلى التحقق؟ الأمر هنا لن يعتمد فقط على التمخّضات الداخلية داخل الجماعة (على رغم أنه يتوقّع أن تكون بالفعل حادّة)، بل وبالدرجة نفسها، على التحالف العسكري - اليساري الليبرالي الحاكِم الجديد، الذي سيتعيّن عليه أن يُساهم في النِّقاشات الداخلية الإخوانية، من خلال فتح كل الأبواب والنوافذ أمام فرصة انضِمام الجماعة إلى المرحلة الانتقالية الجديدة.
"خريطة المستقبل"، التي طرحتها القوات المسلحة، وعزّز مضامينها محمد البرادعي وشيخ الأزهر وبابا الأقباط، كانت حريصة على الدّعوة المُلحّة إلى المصالحة الوطنية. وفي حال شقّ هذا التوجّه طريقه إلى التنفيذ، سيكون في وُسْع الأردوغانيين المُحتملين في الحركة، أن يقوموا هم أيضاً بـ "ثورة ثانية" تحاكي ثورة 30 يونيو الشعبية الثانية.
لكن، إذا ما كان لابد من المُغامرة في ممارسة لُعبة التكهُّنات والتوقُّعات حيال السيناريوهات الثلاثة، سنقول إن سهم التاريخ سيصبّ في صالح السيناريو الأردوغاني الثاني. لماذا؟
لأن تجارب الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا في القرن التاسع عشر، وتجربة الحركة الإسلامية في تركيا وإندونيسيا في القرنين العشرين والحادي والعشرين، تَشِي بأن الأحزاب الدِّينية التي دخلت عرين السياسة، تميل إلى طرح الأيديولوجيا جانباً والإعلاء من شأن البراغماتية الواقعية، حين تتعرَّض إلى نكسات أو ردود فِعل قوية من الدولة أو المجتمع.
والأرجُح، أن إخوان مصر سيسيرون في مرحلة لاحقة هُم أيضاً على هذا الطريق، ولو بعد حين، أي بعد أن يفيقوا من هوْل الضّربة التي نزلت على رؤوسهم وأفقدتهم التوازُن وحسّ الاتّجاهات، وأيضاً بعد أن يفيقوا من تحليلاتهم المُخطِئة، المحلية والدولية.
فلو أن الرئيس محمد مرسي أدرك مبكّراً، أي قبل أشهر عدّة، أن حُكمه دخل مرحلة الأزمة وأقدم على العودة إلى إحياء شِعار الإخوان الشهير "المشاركة لا المغالبة" من خلال تشكيل حكومة وِفاق وطني، لما تدهْوَرت الأمور على هذا النحو.
ولو أن الجناح المُعتدل في جماعة الإخوان، والذي يُمثّله أبوالعلا ماضي وعصام سلطان والدكتور محمد محسوب وعبدالمنعم أبوالفتوح، والذي يرفُض مقولة الجناح المتطرّف (بقيادة خيرت الشاطر) بأن الجماعة "قلعة متماسِكة تقود المجتمع"، ويدعو إلى اعتبارها قوّة وطنية من ضمن قِوى أخرى، نجح في "إدارة" و"توجيه" الرئيس مرسي، لكانت أمور الحُكم استتبَّت للإخوان لعشر سنوات أخرى.
اتفاق سرّي
بيْد أن هذا لم يحدُث. فالجناح المتطرِّف هو الذي ساد طيلة السَّنة الماضية، ورفض أي تراجُع عن مشروع "أخونة" الدولة، على رغم كل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الطاحنة، مُنطلقاً من اعتقاده بأن ثمّة فرصة ذهبية قد لا تتكرّر لتحقيق ذلك الآن، والتي تتمثّل في ما يقال عن اتِّفاق سرّي وقَّعته جماعة الإخوان مع الولايات المتحدة عام 2005، وتضمّن دعم هذه الأخيرة وصول الإخوان إلى السلطة، مقابل سلسلة شروط، منها الحفاظ على معاهدة السلام مع إسرائيل وإطلاق حرية السوق واحترام قواعد تداوُل السلطة ديمقراطيا.
الإخوان انطلقوا من هذا الاتفاق لترتيب أوضاعهم الداخلية. وكانت الخُطوة الأولى في هذا الاتِّجاه، تعْيين أحد قادتهم محمد مرسي، قبل أن يصبح رئيساً، كمُحاوِر للحليف الأكبر لأمريكا في مصر: الجيش. وحين انتُخِب مرسي رئيساً، كانت صيغة الاتِّفاق مع الجيش (برعاية واشنطن)، أنْجِزَت ونشأت علاقة وطيدة على أساسها، بين مُرسي والفريق عبد المنعم السيسي، بدا معها للأخوان أن الأمور استتبّت لهم بفِعل الاتِّفاق مع الولايات المتحدة والصّفقة مع الجيش، التي شملت تثبيت امتيازاته الضّخمة في صُلب الدستور المصري.
هذه المعطيات، ربما توضّح لماذا "ركب الإخوان رأسهم" طيلة الأشهر الماضية، ورفضوا سلسلة منقطِعة النّظير من النصائح التي قُدِّمت لهم بضرورة العمل على تحقيق الوِحدة الوطنية.
إحدى هذه النصائح جاءت من رئيس الوزراء التركي أردوغان، الذي قال لكاتب هذه السطور بولنت أرليج خلال لقاء خاص معه في أنقرة مؤخراً، أنه (أردوغان) اتصل مِراراً بمرسي ليطلُب منه إبرام تسوِيات مع المعارضة، وهذا ما فعله أيضاً راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة التونسي، الذي قالت لنا مصادر عربية إنه طار خصِّيصاً إلى القاهرة قبل الانقلاب لتقديم نصيحة مُماثلة.
ومؤخّراً، كشفت نيويورك تايمز النِّقاب عن أن الرئيس الأمريكي أوباما استدعى مستشار مرسي للشؤون الخارجية د. حدّاد إلى البيت الأبيض وطلب منه نقْل رسالة عاجِلة إلى مرسي، يدعوه فيها إلى تشكيل حكومة جديدة برئاسة محمد برادعي.
بيْد أن مرسي رفَض كل هذه المناشدات، إلى درجة دفعت أحد قادة الإخوان إلى القول أنه "لو لم يكن هو في موقِع قيادة الإخوان، لقال إن عناد مرسي دليل على أنه يريد أن يُصبح ديكتاتورا".
والمثير هنا، أن الرئيس المصري المعزول، ظلّ على قناعة حتى اللّحظة الأخيرة بأن الفريق السِّيسي لن يقدم على حركة انقلابية، ربما لأنه كان يعتقِد بأن واشنطن لن تسمَح له بذلك.
لكن الآن، وعلى رغم اتِّضاح سوء حسابات مُرسي والفريق المتطرّف في الإخوان، لا يزال هؤلاء يُراهنون على ما يبدو، على أن الإدارة الأمريكية لم تحسم موقِفها نهائياً بعدُ حِيال الأزمة، سواء لصالح حليفها القديم (الجيش) أو حلفائها الجدد (الإخوان). ولذا، فهُم قرّروا على ما يبدو، دفع الأمور إلى حافة الهاوية في الشارع، مراهنين على أن ذلك سيشكِّل ضغطاً على الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية لدفعها إلى الوقوف إلى جانب الشرعية الانتخابية.
لكن، هل هذا الرّهان في محله؟ كلا. لأن الجماعة لا تزال تستخدِم وسائل تحليل قديمة لفهم مستجدّات السياسة الأمريكية. وهذه المستجدّات تُشير إلى أن الولايات المتحدة أو على الأقل إدارة أوباما، قد "ملّت" من كل قضايا الشرق الأوسط بعد نكساتها الاستنزافية في العراق وأفغانستان. وهذا الملل يشمل حتى مصر، التي تُعتَبر بعد إسرائيل، الركيزة الثانية للباكس أمريكانا في الشرق الأوسط.
لا بل أكثر: أوباما يريد الآن الانسحاب التامّ من أفغانستان قبل سنة كاملة من الموعِد المحدّد، ويرمي بكل ثقله وراء برامج داخلية أمريكية تتعلّق بالهجرة والاقتصاد و"بناء الأمّة"، إضافة إلى تركيزه على استراتيجية الاستدارة شرقاً نحو آسيا.
هذا "الانحسار" في النفوذ الأمريكي قد يفسِّر إلى حدٍّ بعيد موقِف اللاّموقف، الذي تتخذه واشنطن الآن من الأزمة المصرية. فهي انتقدت انقِلاب الجيش على الرئيس المُنتخَب مرسي، لكنها لم تسمِّ الانقلاب انقلاباً واكتفت بدعوة الإخوان إلى التّفاهم معه. وهي رفضت قمع أنصار مرسي في موقعة الحرس الجمهوري الدموية، لكنها دعت في الوقت نفسه الإخوان إلى "عدم ممارسة العنف"، وهذا ما جعل كلا الطرفيْن المتصارعيْن في مصر، الجيش والجماعة، يتّهمان واشنطن بالانحياز إلى أحدهما، فبدت هذه الأخيرة في موقِف إلتِباسي غريب، كطرف يُدير كل اللّعبة الراهنة، وفي الوقت نفسه، لا يدير شيئاً على الإطلاق.
بيْد أن هذا الموقف اللاّموقف الأمريكي سيصبّ في غير صالح جماعة الإخوان إلى حدٍّ كبير، بسبب الخلل في موازين القِوى بينها وبين جيش أثبت مؤخّراً أنه قادر على نيل دعم 35 مليون مصري نزلوا إلى الشارع وراءه، وعلى قتل 50 وجرح 500 إخواني خلال ساعتين إثنتين أمام مقرّ الحرس الجمهوري. وماذا كان موقِف واشنطن إزاء هذا التطوّر الدموي؟ إنها دعت القوات المسلحة المصرية إلى "ضبْط النفس"، لكنها أدانت في الوقت نفسه "لُجوء جماعة الإخوان إلى العُنف".
وهكذا، كانت مجزرة الحرس الجمهوري عيِّنة عما يمكن أن يحدُث، إذا ما قررت جماعة الإخوان المُضي قدُماً في المُجابهة، أو إذا ما وصل قادتها إلى الاستنتاج بأن "الطريق القطبي" (من سيد قطب) القائم على استخدام العنف، هو السبيل الوحيد المُتاح للعودة إلى جنّة الحُكم.
فهي ستخسر حينذاك، ليس فقط دعم العديد من قواعدها وأنصارها (مقابل ربح الأجنحة الجهادية والمتطرفة)، بل أيضاً، وهنا الأهم، ستفقِد ما تبقى من دعم أمريكي لها، الأمر الذي سيُجرِّدها من كلّ أوراق الحماية الدولية، التي كانت العامل الأهَم في تغطِية وصولها إلى السلطة.
المشاركة لا المغالبة
ماذا يتعيّن على الجماعة أن تفعل؟ التعقّل واللاانفعال، يجب أن يكونا سيّد الموقف، على رغم مشاعر المرارة والمظلومية التي يشعر بها أفراد الجماعة وقادتها، بعد أن وجدوا أنفسهم يخرجون بين ليلة وضحاها من فردوْس السلطة إلى سراديب السّجون والمعتقلات (مجددا).
والسبيل إلى هذا التعقُّل واضح: العودة إلى استراتيجية "المشاركة لا المغالبة" الشهيرة، التي لطالما رفعت الجماعة لِواءها طيلة ثلاثة عقود كاملة وأوحت أنها ستتمسّك بها، ولو فازت بأغلبية الأصوات في الانتخابات. بيْد أن ما جرى هو أن الإخوان التونسيين هُم مَن طبّق هذه الوصفة السحرية، فيما تنكّـر لها إخوان مصر بسرعة مُذهلة، الأمر الذي استجرّ ضدهم كل مشاعِر الكراهية والخوْف من كل الأطراف، بما في ذلك حتى السلفيين.
البديل الوحيد عن المشاركة لا المغالبة، هي محاولة المغالبة. وهذه بات لها الآن بعد دحرجة رأس الإخوان من السلطة، معبر واحد: الحرب الأهلية.
فهل الإخوان مستعدّون لخوْض هذه المغامرة؟ إذا ما كان الردّ بالإيجاب، فسيكون عليهم أن يُدركوا بأن "ماما أمريكا" (وهذه هي التسمية التي كان يطلقها مساعدو مرسي على الولايات المتحدة) لن تكون إلى جانبهم هذه المرة، وستعود إلى أحضان حليفها التاريخي الجيش المصري.
وهذا سيعني أن مغامرة الإخوان هذه، ستكون محكومة بالفشل سلفا، ومن ألِفِها إلى الياء.
سعد محيو - بيروت- .ch
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى