يزيد صايغ *
الخميس ٢٥ يوليو ٢٠١٣
ثمة إغراء كبير في تعهُّد الحكومة الانتقالية «التكنوقراطية» في مصر استعادة السلم الأهلي والاستقرار السياسي، وإنقاذ الاقتصاد، بينما تعاني مصر أزمة دستورية مطوَّلة وميلاً متنامياً إلى العنف، وسط اشتداد الضيم الاجتماعي واللامساواة الاقتصادية.
باتت الحلول المالية السريعة ممكنةً، بفضل منح مصر ما قيمته 12 بليون دولار من المعونات السعودية والإماراتية والكويتية – في حال توافرت فعلاً – وإمكان الاتفاق على قرضٍ بقيمة 4.8 بليون دولار من صندوق النقد الدولي. وسيتيح ذلك للحكومة الانتقالية أن تضبط عجز الموازانة، وتزيد احتياطي العملة الصعبة، وتُبطِئ معدلات التضخّم، وتعزّز ثقة المستثمرين في الأجل القصير.
غير أن صعوبات جمّة، إن لم نَقُل مستحيلة، ستواجه تحقيق الأهداف الأكثر طموحاً، مثل مكافحة البطالة وتحسين المستويات المعيشية، وتشجيع المؤسسات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة، وزيادة الاستثمار المحلي، ورفع معدلات الإنتاجية الاقتصادية والكفاءة الإدارية في الوزارات والهيئات الحكومية.
لا يعود ذلك إلى افتقارٍ إلى السياسات أو الوصفات الناجعة، بل مردّه الى أنه لا الحكومة الانتقالية ولا الحكومة التي ستُشكَّل عقب الانتخابات البرلمانية والرئاسية، التي يُفترَض أن تُجرى بحلول نهاية العام 2013، تستطيع أن تنطلق بالإصلاحات الإدارية والاقتصادية اللازمة لحلّ مشكلات مصر البنيوية المستديمة، من دون الاصطدام المباشر بالشبكات والمصالح العسكرية الواسعة والمُبطَّنة في أرجاء جهاز الدولة الهائل كافة، وفي القطاعات المملوكة للدولة من الاقتصاد.
إن «جمهوية الضباط» هذه ستُقوِّض أداء أي حكومة مُنتخَبة ديموقراطياً تسعى إلى تحقيق التحوّل الحقيقي في إدارة اقتصاد البلاد، مهما كان اتّجاهها السياسي أو العقائدي. وصحيح أن أداء الرئيس محمد مرسي وجماعة «الإخوان المسلمين» اتّسم بالتخبّط، إلا أن أكثر الحكومات ليبراليةً أو علمانيةً كانت ستجد شرعيّتها تتآكل أيضاً، ما يجعلها عرضةً إلى الاضطرابات ومُتّكِئةً إلى المؤسسات عينها – أي القوات المسلحة – التي يشكّل توغّلُها في الدولة والاقتصاد أحد العوامل الرئيسة في تعمُّق الأزمة الاجتماعية والاقتصادية واستفحالها.
لقد كشفت تنحية مرسي عن الرئاسة كم اقترب عسكر مصر من مَأْسَسة سيادتهم السياسية على الدولة المصرية، وتالياً من إدامة جمهورية الضباط. فقد كرّس الدستور الجديد المُقَرّ في استفتاء كانون الأول (ديسمبر) 2012 استقلالية القوات المسلحة التام عن السيطرة المدنية، وأزاح الرقابة البرلمانية، حتى الشكلية، عن موازنة الدفاع والمشاريع الاقتصادية والعسكرية، وحرَّمَ مقاضاة الضباط – بمَن فيهم العاملون والمتقاعدون – امام المحاكم المدنية حتى لو ارتبط الأمر بجرائم تخضع للقانون الجنائي المدني. وقد أقرّت إدارة مرسي هذه البنود، التي لم ولا تعارضها القوى السياسية المناهضة له، باستثناء الشباب الثوري والوجه الليبرالي محمد البرادعي.
كما يشكّل الضباط غالبية أعضاء مجلس الدفاع الوطني، الذي أعاد المجلس العسكري الحاكم آنذاك إحياءه في حزيران (يونيو) 2012. إن مجلس الدفاع الوطني هو الجهة الوحيدة المخوَّلة صراحةً الآن مراجعة موازنة الدفاع في بنوده العامة. ويفوِّض عملياً القوات المسلحة الإشراف على مجالات سياساتية تعتبرها ذات صلة بالأمن القومي. والنتيجة هي المزيد من تقييد سلطات الرئاسة والحكومة وصلاحياتهما.
تتجسّد اليوم السلطة العسكرية فعلياً في شخص الفريق أول عبدالفتّاح السيسي، وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة. واتّضح ذلك في حادثة لم تلقَ اهتماماً إعلامياً يُذكَر، وهي إقالة اللواء محمد رأفت شحاتة من رئاسة الاستخبارات العامة في 5 تموز (يوليو) 2013. كان شحاتة أول ضابط يرتقي إلى ذلك المنصب من داخل الجهاز، الذي طالما ترأّسه ضباط قادمون من الاستخبارات الحربية (أي الاستخبارات العسكرية). ولم يكن قد فات على تولّيه رئاسة الاستخبارات سوى تسعة أشهر ونصف الشهر، ولم يكن ثمة سبب موجِب لإقالته. غير أن الأمر اعتُبِر من الأهمية المُلِحّة التي جعلت الرئيس الانتقالي عدلي منصور يصدر مرسوماً بذلك فور تولّيه منصبه، وباستبدال شحاتة باللواء محمد فريد التهامي، وهو ضابط سابق في الاستخبارات الحربية، وبذلك أعاد السيسي تأكيد هيمنة الجهاز الأخير، الذي كان يقوده السيسي حتى تعيينه وزيراً للدفاع في آب (أغسطس) 2012، وغلبة القوات المسلحة عموماً.
إن تعيين التهامي مُلفِتٌ بشكل خاص لأنه ترأس سابقاً هيئة الرقابة الإدارية، وهي أهم الأجهزة الرقابية المصرية، والتي ترفع تقاريرها إلى رئيس الجمهورية مباشرة. تولّى التهامي ذلك الموقع طيلة السنوات السبع الأخيرة من عهد الرئيس حسني مبارك، الذي استخدم الهيئة لمعاقبة معارِضيه ومكافأة مؤيديه، من خلال فتح أو إغلاق ملفات التحقيق في أنشطتهم التجارية والمالية. والواضح أن التهامي حاز رضا مبارك، إذ جرى التمديد له أربع مرات بعد انتهاء فترة عمله النظامية البالغة أربع سنوات، إلى أن عزله مرسي في أيلول (سبتمبر) 2012 بعد اتهامه بالفساد.
مهما كانت حقيقة اتهامات الفساد أو عدمها، فإن تقمُّص التهامي دور رئيس الاستخبارات العامة يُلقي الضوء على كيفية عمل جمهورية الضباط. ولها ما تحميه فعلاً. ففي مقابلة صحافية صريحة جديرة بالثناء، في أيار (مايو) 2013، أشار الرئيس الجديد لهيئة الرقابة الإدارية، اللواء محمد عمر وهبي هيبة، إلى «تزاوج رأس المال بالسلطة» الذي أعاق عمل الهيئة في عهد مبارك، وكشف أن مرسي رفع حصانة رئاسة الجمهورية من المراقبة للمرة الأولى في تاريخها. ثم عدّد هيبة قطاعات الدولة الثلاثة الأكثر تأثّراً بالفساد، وهي الحكم المحلي، وهيئات الاستثمار والشركات القابضة المملوكة للدولة، ودوائر الجمارك والضريبة والتأمين الاجتماعي.
بغض النظر عما إذا قصد هيبة الربط أم لم يقصد، فإن القطاعَين الأول والثاني – أي الحكم المحلي وهيئات الاستثمار والشركات القابضة – يوظِّفان أعداداً كبيرةً من الضباط المتقاعدين تصل إلى الآلاف في المناصب العليا. والأمر نفسه ينطبق على العديد من قطاعات الإدارة المدنية، مع تركيز خاص في الوزارات والأجهزة العاملة في مجال الأراضي، كالإسكان، وإدارة العقارات، والأشغال العامة، والتطوير الزراعي، واستصلاح الأراضي، والسياحة. ويتمتّع كبار الضباط بنوعٍ من الإقطاعية، إذ يستحوذ كلّ فرع من القوات المسلحة على توزيع المناصب في محافظات محددة، وفي الشركات القابضة ودوائر الخدمات العامة الواقعة ضمن اختصاص ذلك الفرع التقني أو الجغرافي.
كما تُفاخِر القوات المسلحة بقدرتها على القيام بمشاريع البنية التحتية الكبرى بكلفة أقل من شركات القطاع الخاص، وبتوفيرها السلع الاستهلاكية الرخيصة من منتجات صناعية وغذائية، وبتقديم «الهدايا» إلى الشعب المصري، والتي تراوح من «الشنطات» الغذائية المجانية للفقراء، إلى الجسور ومحطات تنقية المياه وغيرها. إلا أن كل ذلك يستند إلى اقتصادات زائفة تتجاهل إعفاء مشاريع القوات المسلحة من الضرائب، وتخفيض الرسوم الجمركية على مستورداتها، وتمتّعها بأسعار مُيسَّرة للعملة الصعبة، والعمالة الرخيصة أو المجانية، والأسعار المدعومة للوقود والكهرباء. أي أن مزاعم الربحية التنافسية والعطاء الكريم خادعة، إذ أن الخزينة العامة هي التي تتحمّل التكاليف الحقيقية من خلال تقلُّص جبايتها.
لقد أعلنت حكومة مصر الانتقالية عن نيّتها رسم «خريطة طريق» للإصلاح الهيكلي. فهي تطمح إلى الاستثمار في البنية التحتية، وخصخصة بعض الشركات القابضة، وتوفير فرصٍ أفضل للقطاع الخاص للتنافس والاستثمار عموماً. هذه غايات جديدة سبق أن أعلنتها الحكومات السابقة مراراً، ولكنها تتجاهل علاقة جمهورية الضباط الاستخراجية والريعية أساساً بالدولة المصرية والمالية العامة والاقتصاد.
ستدوم هذه العلاقة على حالها طالما يُسمَح للمؤسسة التي أنشأت الجمهورية المصرية في العام 1952 – أي القوات المسلحة – أن تواصل استغلال ذلك الإرث التاريخي لتدّعي أحقّيتها في تحديد المصلحة والهوية الوطنيّتَين، ولتضع نفسها فوق الدولة وفي منأًى عن النظامَين القانوني والقضائي اللذين يُلزِمان المواطنين وسلطاتهم المدنية المُنتخَبة ديموقراطياً.
* باحث أول في مركز كارنيغي للشرق الأوسط – بيروت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى