لحظات سخيفة يمكن مشاهدتها في كتب المؤرخين الغربيين عند سردهم للتاريخ حتى أنها تترك انطباعاً وكأن هؤلاء لم يقرؤوا ولم يؤلفوا كتباً عن الحرب العالمية الثانية في حياتهم. فعلى سبيل المثال يمكن أن نقرأ فكرة موجودة عند بعض الكتاب والتي تقول: "كان هتلر يخطئ دائماً في تحديد موعد بداية الحرب التي اندلعت في الأول من شهر أيلول/سبتمبر من عام 1939". وإذا ما أولينا اهتماماً لهذا فسوف يطفو على السطح سؤالاً يطرح نفسه: كيف يمكن لأكبر معتدي في تاريخ البشرية أن يخطئ في توقيت الحرب والذي هو بنفسه أطلق العنان لها؟
بطبيعة الحال الطرف المعتدى عليه هو الذي يمكن أن يخطئ بالتوقيت أثناء الحرب فقط، ولا يمكن للمعتدي أن يخطئ لأنه هو الذي يطلق صفارة بداية الحرب. وفي هذا الإطار يقال عن هتلر أمرين متنافيين: هتلر خطط للحرب وللاستيلاء على العالم، لكنه أخطئ في التوقيت عندما بدأها مبكراً. هنا تكمن، في قشور الكلمات هذه، حقيقة هامة وهي أن ألمانيا عند شنها للحرب واعتدائها على بولندا لم تكن لسبب ما مستعدة للحرب.
لماذا إذاً هاجم هتلر العالم إذا لم يكن مستعداً للمعركة؟
وهنا تظهر البلاهة والعدوانية المفرطة وهذا الأمر لا يحتاج إلى أي تفسير أو شرح، فالمجرم لا يمكنك محاسبته لأنه مجرم. ولكن في الوقت نفسه يمكن قراءة جميع أسرار الحرب العالمية الثانية إذا ما فهمنا منطق سلوك اللاعبين الرئيسيين الذين شاركوا في الأحداث، فالقوى العظمى في تلك الحقبة كانت المملكة المتحدة وفرنسا.
ولذلك، بطبيعة الحال لا يمكن التفكير بأي هيمنة على العالم من دون تدمير الاسطول البريطاني القوي، وبالتالي من أجل تحدي القوة الأنغلو ساكسونية ينبغي، أولاً، بناء اسطول مشابه للاسطول البريطاني وبعد ذلك يمكن البدء في المعركة.
وبالفعل بدأ أدولف هتلر في بناء أسطوله ولكن بشكل يدعو للغرابة. فبحسب برنامج بناء سفن الرايخ الثالث فقد كان من المتوقع أن يستكمل البرنامج بحلول عام 1944-1945. وم هنا فإن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا بدأ هتلر الحرب عام 1939؟
ما هو خطأ النازيين عندما بدؤوا ببناء الأسطول البحري؟
بالفعل اقترح الأدميرال ريدر قائد القوات البحرية الألمانية على هتلر هذين المخططين لتطوير الأسطول الألماني:
الأول- زيادة بناء الغواصات في أقرب وقت ممكن. أما الثاني- والمعروف بالخطة "Z " فهو مصمم على المدى الطويل، لأنه كما كان مقرراً ألا تكون هناك حرب في غضون السنوات العشر المقبلة. ووفقاً لهذا المخطط كان من الضروري بناء الكثير من السفن الضخمة. وعلى الرغم من أن المخطط كان لعشر سنوات أي حتى عام 1948، إلا أن هتلر أمر بتنفيذه في غضون ست سنوات، وهذا يعني بأن الفوهرر كان يخطط شن حرب ضد انكلترا في الفترة ما بين 1944-1945!! إلا أنه بدء الحرب عام 1939، ولكن كانت الغواصات هي القوة الضاربة عند هتلر، الذي منع بناءها بكميات كبيرة وذلك عند اختياره للخطة "Z ".
إليكم ما يكتبه بهذا الشأن بعض الباحثين الانكليز: "إن السبب الرئيسي في اتخاذ قرار خاطئ على ضوء الأحداث اللاحقة يمكن فهمه بصعوبة. فهتلر على ما يبدو اعتقد بأن السفن الحربية الضخمة يمكن أن يكون لها تأثير سياسي كبير". وبحسب رأي المؤرخين الغربيين فإن هتلر ببساطة نسي أن الغواصات الألمانية ألحقت خلال الحرب العالمية الأولى أضراراً جسيمة ووضعت بريطانيا على شفا انهيار، وذلك عن طريق تدمير عشرات لا بل مئات من السفن الانكليزية. وكما يعلم الجميع فإن بريطانيا هي عبارة عن جزيرة ووسيلة النقل الوحيدة هي عن طريق البحر، وهي طريقة الإمداد الرئيسية. وبالتالي فإن التنافس مع الأسطول البريطاني البحري يعتبر فكرة حمقاء لأن البريطانيين يراقبون عن كثب سير تطور صناعة السفن لدى الدول الأخرى، وهي مستعدة لبناء سفينتين مقابل كل سفينة يتم بناؤها في الخارج، وهذا ما تدل عليه قدرة أحواض بناء السفن الهائلة التي تمتعت بها قوات الإمبراطورية البريطانية في ذلك الوقت.
وها هو هتلر يعد لمخطط من أجل الاستيلاء على العالم كله: يقوم خلالها ببناء أقل عدد من الغواصات وأكثر عدد من السفن الحربية!! وما يدعو للسخرية أيضاً هو أن برنامج بناء هذه السفن ينتهي بحلول الأعوام 1944-1945. والسؤال الذي يطرح نفسه هل كان هتلر يستخدم عقله حين أقدم على ذلك؟ لا أحد يدري. فقد مضى عام واحد منذ أن اعتمد أدولف قراراً ببناء السفن بدلاً من الغواصات عام 1938 إلى حين اتخاذ قرار ببدء الحرب عام 1939؟ والسؤال الأهم كيف سيواجه الفوهرر خصومه الانكليز بهذا القرار؟
ما هو الهدف الحقيقي لهتلر؟
الحقيقة هو أن هتلر لم يكن يرغب في محاربة بريطانيا، وكان يعد العدة فقط للهجوم على الاتحاد السوفيتي، تلك الدولة التي لم تكن تتمتع بأي هيمنة عالمية في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، وبالتالي فإن هتلر طيلة فترة حكمه كان يستعد لحرب مدمرة ضد الاتحاد السوفيتي، ولكن لم يكن مستعداً لحرب عالمية ثانية كما حصل في حقيقة الواقع. والحقيقة الأخرى هي أن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا هي التي دعمت هتلر من أجل استلام السلطة في ألمانيا والقيام بضرب الاتحاد السوفيتي لاحقاً.
والآن نعود إلى الغواصات الألمانية فمن أجل أن تظهر هذه الغواصات كل قدرتها كان لابد أن يكون هناك خصماً يستحق ذلك، وبعبارة أصح يجب أن تكون هناك ضحية مناسبة. وعلى ضوء ذلك يمكن أن تجد مئات الغواصات الألمانية فرائسها فقط في سفن الأسطول البريطاني وحلفائها. وخلافاً لذلك لم يكن الاتحاد السوفيتي يتمتع بعدد كبير من السفن الحربية، وبالتالي فإن الأسطول السوفيتي لم يكن هدفاً للغواصات الألمانية آنذاك، وبالتالي أدرك هتلر قبل اندلاع المواجهات مع الاتحاد السوفيتي بأن ألمانيا ليست بحاجة كبيرة للغواصات من أجل تدمير الأسطول السوفيتي وهذا خلافاً لما هو عليه الحال مع بريطانيا. ولذلك يمكن الاستنتاج بأن هتلر كان يستعد لمحاربة ستالين ولهذا رفض الخطة الأولى التي تقتضي بناء الغواصات بكميات كبيرة، وصادق على الخطة الثانية.
إليكم الجدول الزمني للغواصات الألمانية التي تم بناؤها: في عام 1935 تم بناء 14 غواصة، وفي عام 1936- 12 غواصة وفي عام 1937- غواصة واحدة، وفي عام 1938 تسع غواصات وفي عام 1939- 18 غواصة. أمامنا جدول زمني لقوة عظمى لم تكن تخطط للحرب ضد انكلترا! والسؤال الذي يطرح نفسه هل يعتبر انتاج 18 غواصة عام 1939 كثيراً أم قليلاً؟ طبعاً إذا ما قارنا مع عام 1937 يعتبر هذا العدد كبيراً، ولكن إذا ما قارنا مع الأرقام اللاحقة يمكن القول بأن ألمانيا كانت تستعد للسيطرة على العالم، فهي بدأت الحرب العالمية الثانية بـ 57 غواصة، في حين أنها قامت ببناء حوالي 1095 في الفترة منذ الأول من شهر كانون الأول/يناير لعام 1940 وحتى الثامن من شهر أيار/مايو 1945 أي أن ألمانيا قامت ببناء ما يقارب أكثر من 200 غواصة في السنة.
ربما يكون العدد 57 غواصة كثيراً! ولكن كانت انكلترا تمتلك في ذلك الوقت 65 غواصة وفرنسا 78. حتى أن الأدميرال ريدر قدم تقريراً لهتلر مفاده أنه ينبغي على ألمانيا أن تمتلك 300 غواصة على الأقل من أجل شن حرب ضد بريطانيا. ولكن عندما بدأت الحرب كانت ألمانيا نظرياً تمتلك لـ 57 غواصة كما ذكرنا سابقاً، لكن في حقيقة الأمر، عملياً كانت هناك 23 غواصة فقط داخل الخدمة! وهذا يعني أن الفوهرر أخطأ مرة أخرى في زمن بدء الحرب حتى أنه لم يبذل جهداً من أجل إعادة إحياء الأسطول البحري. والسؤال هل هذه هي الطريقة التي تستعد بها دولة من الدول لشن حرب ضد قوة بحرية أخرى؟ بالطبع لا! فهتلر لم يكن يستعد لشن حرب بحرية، لأنه لم يكن يريد محاربة لا بريطانيا ولا فرنسا على الإطلاق! يا له من معتد غريب، كان من المفترض أن يسيطر على العالم كله.
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف لنا أن ننظر إلى خطط هتلر في بناء حاملات الطائرات والبوارج؟ وهنا بالطبع فإن الجواب على هذا السؤال يشير إلى أن هتلر لم يكن يستعد عام 1945 لشن حرب ضد انكلترا. وهذا أمر مفهوم إذا ما نظرنا إلى الأرقام التي عرضت في خطة "Z ". نحن هنا نريد أن نذكّر بحقيقة جلية وهي أنه في حال تم تنفيذ خطة بناء حاملات الطائرات والبوارج 100 بالمئة فإن الأسطول الألماني سيكون في ذلك الوقت أقل من الأسطول البريطاني لوحده، ناهيك عن حجم القوة الإجمالية للأسطولين الفرنسي والبريطاني.
إذاً نستنتج مما تم ذكره آنفاً أن هتلر لم يكن يفكر بحرب كبيرة عام 1939، لذلك حاول أن ينهي الصراع الصغير مع بولندا بسرعة ومن تلقاء نفسه، مع العلم أنه انخرط في الحرب العالمية الثانية بدون أن يكون له حليفاً. بطبيعة الحال فإن الاتحاد السوفيتي لم يكن يعتبر حليفاً لألمانيا آنذاك ولم يكن يرغب بالقتال إلى جانب هتلر. كما لابد من الإشارة إلى أن الطليان لم يكونوا أيضاً راغبين بالقتال إلى جانب ألمانيا! ففي 20 من شهر آب/أغسطس لعام 1939، أي قبل 11 يوماً من بداية الحرب، علم موسوليني بمخططات هتلر، وأصيب بالدهشة والذعر! حتى أن وزارة الخارجية الإيطالية قدمت مذكرة خاصة للألمان في اليوم التالي أي في 21 من شهر آب/أغسطس تقول بأن التحالف الألماني-الإيطالي الملقب "بالميثاق الفولاذي" تم إبرامه شريطة ألا تبدأ الحرب قبل عامين أو ثلاثة. أما في الواقع فقد قرر هتلر بدء الحرب بعد مرور فقط أسبوعين من الاتفاقية. وعندما طلب الألمان من موسوليني تحديد ما ينبغي القيام به من أجل مشاركة إيطاليا في الحرب، قدمت الأخيرة لائحة بكميات غير واقعية وكبية من الإمدادات والحاجيات، بحيث كان من الاستحالة بمكان أن تلبي ألمانيا هذا الطلب بالوقت المحدد. علاوة على ذلك فقد صرح موسوليني علانية بأن بلاده لا يمكنها الانخراط في الحرب! وهذه حقيقة لأن إيطاليا لم تشترك في حروب حتى صيف عام 1940، ودخلت الحرب فقط بضعة أيام من استسلام فرنسا، وأخذت ألمانيا على عاتقها ثقل وطأة الحرب العالمية الثانية لوحدها.
إذاً ما الذي حدث في حقيقة الأمر؟ الذي حدث هو أن هتلر الذي وصل بمساعدة الغرب إلى الحكم، وعد بالهجوم على الاتحاد السوفيتي وحصل على كل ما يحتاجه من مال وسلطة وتكنولوجيا وحتى أنه سمح له السيطرة على بلدان عديدة، إلى أن تمكن من بناء آلة حربية ضخمة. عندها بدأ يتحدث مع أربابه على نحو آخر. وهنا السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي طلبه الفوهرر؟ تبين فيما بعد أنه كان يريد أن يكون من مقام القوى الأنغلوسكسونية، ولم يجر حينها الحديث عن أي هيمنة أو سيطرة على العالم. لكن حكام العالم آنذاك طالبوا هتلر الالتزام بوعوده وتنفيذها، وفي المقابل تحصل ألمانيا على المساواة في الحقوق مع العالم الأنغلوسكسوني لكن بعد تدمير كامل لروسيا وشعبها. فالأراضي والموارد الروسية كانت موضوع تقاسم بين الدول العظمى آنذاك وشرطاً للدخول في نادي النخبة. لذلك قام هتلر بالهجوم شرقاً. ولم يفتح الحلفاء "أمريكا وبريطانيا" جبهاتهم إلا بعد أن أصبح واضحاً من أن الجيش الأحمر سوف يصل إلى برلين من تلقاء نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
اهلا بكم فى مدونة افتكاسات .من فضلك اكتب تعليقك مع مراعاه ان من الممكن السيدات والانسات يروا التعليق من فضلك اجعلة مناسب .. بدون الفاظ ... وشكرا لكم ... هشام حسنى